أحجية الفساد الفلسطيني
رغم كل الجدل المثار داخليا وخارجيا، ليس ثمة مقياس عملي يمكن الاستناد اليه لتحديد درجة الفساد لدى السلطة الفلسطينية.
بيد أن هذا الكيان الهلامي ظل عرضة لمختلف التهم المتعلقة بسوء الادارة واستغلال النفوذ طوال العقد الماضي.
وقد ازدادت درجة الاتهام باطراد خلال الاعوام الاربعة الماضية من عمر الانتفاضة، ولم يُـجـد السلطة والمتحدثين باسمها نفعا، محاولاتهم رد التهم بانها ليست سوى ضغوط خارجية لترجيج كفة اسرائيل في الصراع الدائر بينهما.
بل ان دعوات الاصلاح ووقف الفساد راحت تنطلق على السنة مسؤولين كبار لم يتوانوا عن عرض الغسيل الداخلي الوسخ، تحت وابل من الرصاص الاسرائيلي وبالرغم من مواصلة حبس الرئيس ياسر عرفات في مقره المدمر بمدينة رام الله في الضفة الغربية.
ومع انقضاء الزمن وبالرغم من استمرار انسداد الافق امام اي انفراج سياسي، ظلت السلطة الفتية والمتعثرة تخضع لمزيد من الضغوطات والمطالب بتحقيق قدر أكبر من الشفافية والمصداقية وجعل الاصلاح اولوية على دحر الاحتلال.
ربما خاب ظن كثيرين، أو قليلين، لكن السلطة الفلسطينية لم تتحرك خطوات كافية نحو التغيير المطلوب، ولم يسفر استحداث منصب رئيس وزراء الى جانب منصب الرئيس القوى، سوى عن فرصة ضائعة اخرى.
وفي حين اشتد الخلاف المعلن حول معركة الصلاحيات بين مؤسستي الرئاسة ورئاسة الوزراء، كانت ثمة حقيقة واقعة ومستمرة مفادها: ان الفساد الذي لوح كثيرون، من الداخل والخارج، في معاركهم براياته راح يترسخ أكثر وأكثر.
ومع اختلاف الاجتهادات والتفسيرات في مداه وتفاصيله، بقيت سبل مواجهته والقضاء عليه، حبيسة ادراج ورهنا بلعبة قوى داخلية في صفوف اركان القيادة الفلسطينية ودوائرها المتشعبة.
ولم تشر التقارير، الحكومية وغيرالحكومية، الدولية والمحلية ،الى معطيات ثابتة ومحددة، وظلت لغة التقديرات والاجتهادات تتغلب على المعلومة الخالصة والدقيقة بالرغم من تدوال العديد من التقارير الدولية لهذا الشان.
المعطيات المحلية
ظلت الاتهامات عائمة وغير محددة، لكن تهمة الفساد استمرت تلاصق السلطة الفلسطينية في معظم المحافل الدولية وحتى المحلية، ولم يخل تقرير دولي او بيان سياسي من دعوة صريحة للفلسطينيين بالتوقف عن الفساد.
ومع أن التهمة ظلت عامة ومبهمة إلا أن هناك ما يؤسس عليه، لا سيما تقرير هيئة الرقابة العامة لعام 1998 الذي كشف عن هدر للاموال ناجم عن سوء ادارة واستغلال للنفوذ بنحو 320 مليون دولار.
ربما كان تقرير هيئة الرقابة قد بات قديما، لكن الفساد الذي اثبتته تقارير ولجان منبثقة عن المجلس التشريعي، لم يتوقف على مدار السنوات اللاحقة.
ولم يعمل بتوصيات لجان التحقيق، وظلت معظم الشركان الاحتكارية تدار من قبل مقربين من الرئيس ياسر عرفات، ولم تشهد الوزارت الاخرى أي تغيير يذكر في سياستها ولم يطرد أو يُـحـل الى القاعد اي قائد لقوات الامن المتهمين بتبديد الاموال العامة وهدرها.
ولعل تهمة استغلال النفوذ، تظل التهمة الاشد ملاصقة للسلطة الفلسطينية، لاسيما ما يتعلق بالتوظيفات العامة وفي تحويل العقود والعطاءات والتغاضي عن الانتهاكات وتجاوز القوانين العامة.
ولايُـستثنى من ذلك جهاز القضاء، حيث تخضع -استنادا الى منظمات غير حكومية – معظم الاجراءات القضائية والقانوية لسطوة المتنفذين أكثر مما تخضع لسلطةالقضاء ذاتها؟
تقدم طفيف
منذ تولي وزير المالية سلام فياض مهام منصبه، وهو الحائز على ثقة دولية، تحقق من الاصلاح امران رئيسان يصبان في ادارة اموال السلطة بشكل رئيسي. وقد مضى عامان على المهمة وفي جعبة الوزير القوي ما يمكن ان يفاخر به.
أولهما، انه استطاع تاميم معظم الشركات الاحتكارية التي كانت تملكها وتديرها سلطة الحكم الذاتي بواسطة مقربين من عرفات وتحديد ميزانية واحدة واضحة للرئيس معروفة المصادر والامكانيات.
وفي ترجمة عملية اتضح أن قيمة هذه الشركات، بلغ نحو 800 مليون دولار وانها بمعظم اسهمها بيعت الى القطاع الخاص. وفي المقابل، انحسرت ميزانية الرئيس التي كانت تقدر بنحو 320 مليون دولار إلى 90 مليونا فقط.
في الامر الاخر، ان وزير المالية المهني الشفاف، استطاع خفض مصاربف المؤسسات العامة بما قيمته نحو 20 مليون دولار شهريا وبات على الحكومة الفلسطينية ان تنشر ميزانيتها العامة علنا على شبكة الانترنت.
وزير المالية الذي لم يخرج من تشكيلة رئيس الوزراء الاول محمود عباس ولا من حكومة رئيس الحكومة الحالي احمد قريع، تمكن كذلك من تحويل رواتب العسكر (نحو 30 الف شخص) عن طريق تسلم الرواتب باليد نقدا (مثلما جرى به العمل سابقا) إلى حسابات رسمية في المصارف المحلية.
وتقول مصادر (تعليقا على هذا الإجراء): “إن الوزير الجديد منع استمرار ضياع عشرات الملايين من الدولارات سنويا”.
بحسبة بسيطة، يتبين ان عملية الشفافية هذه اوقفت هدر مئات من ملايين الدولارات، التي كان يُساء استخدامها طوال نحو عشر سنوات مضت من عمر سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني.
لكن قدرة الوزير غير العادية ومهارته الادارية، ومعه مؤسسة خاصة باصلاح السلطة ظلوا، جميعا، غير قادرين على درء تهمة الفساد عن القيادة الفلسطينية لتظل دواليب سوء الادارة واستغلال التفوذ تدور.
وفي هذا السياق، يسارع المنتقدون ودعاة الاصلاح الى الاشارة الى قضية الاسمنت المصري الذي يفيد تحقيق اعده المجلس التشريعي، انه تم نقله واستخدامه في بناء جدار الفصل الذي تشيده اسرائيل على الاراضي الفلسطينية.
وتشمل الانتقادات الحادة مسالة عدم تحويل أي من المديرين السابقين والمشرفين على هذه الشركات والذين أداروها لسنوات طويلة، الى اي جهة قانونية وان أي تهم لم توجه لهم حتى الان.
المشكلة في النهج
ويصر المنتقدون على التذكير بان المجلس التشريعي ومؤسسات الرقابة والقضاء الفلسطينة، اخففت سابقا في تحقيق اي نتيجة في وقف اعمال الفساد او محاسبة المتورطين كما في مثال عام 1998 بالرغم من تشكيل لجان تحقيق واعلان هيئة الرقابة وهي هيئة رسمية ان مثات ملايين الدورات قد اهدرت.
ولايبدو ان تغيرا جذريا قد طرأ على مسالة الرقابة ومحاربة الفساد في المناطق الفلسطينية، بالرغم من الاختلاف على التفاصيل ودرجة الخسارة العامة الناجمة عن استفحال سوء الادارة واستغلال النفوذ.
ويرى خبراء في السياسات العامة، ان المشكلة لدى السلطة الفلسطينية لا تكمن في عملية قياس الفساد، فهو قائم، وانما في أنه بات نهجا ياخذ بالسلطة الفلسطنية نحو الانهيار.
ويقول علي الجرباوي، المحاضر الجامعي والخبير في السياسة الفلسطينية، “إن الفساد الذي يعاني منه المجتمع الفلسطيني ناجم عن عدم وجود نظام يصنع فيه القرار على أساس مؤساتي ويتم الاحتكام فيه الى منظومة قوانين واجراءات”.
ويضيف الجرباوي أن القرار الفلسطيني يتم على أساس شخصاني، وهذا عملية تطال جميع المستويات الاقتصادية والسياسية (بما في ذلك المفاوضات مع اسرائيل) والاجتماعية، وعليه، يقول الجرباوي، “إن درجة الفساد لدى السلطة الفلسطينية وتفاصيله لم تعد مهمة، بل ان المشكلة الكبرى ان الفساد بات نهجا”.
هشام عبدالله – رام الله
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.