أطفال الشوارع .. في برن!
نعم. ليست ظاهرة أطفال الشوارع حكراً على البلدان النامية، بل توجد أيضاً في عاصمة دولة الرفاهية سويسرا.
لكن استخدام مصطلح “ظاهرة” لوصف الوضع في برن يظل مبالغاً فيه، فأعداد هؤلاء الأطفال وأوضاعهم تظل مختلفة إلى حد كبير عن نظرائهم في الدول النامية.
“كنت في العاشرة عندما هربت من المنزل لأول مرة، وأعدت الكره على مدى ثلاثة أعوام بعد ذلك، وفي كل مرة كنت أعود فيها إلى بيت أمي. لكن المشاكل استمرت بيننا، إلى أن جاء يوم طردتني فيه، هكذا.. في عز الشتاء. كم كان عمري حينها؟ أربعة عشر عاماً. عشت بعد ذلك ثلاثة أشهر في الشوارع، ولم أجد بيتاً أو شخصاً يرغب في وجودي”.
قائل هذه العبارة لا يعيش في ريو دي جانيرو أو نيروبي أو الرباط أو القاهرة بل في العاصمة الفدرالية لسويسرا.. برن!
ومبعث الغرابة فيها لا يتصل فقط بكونها تكشف عن وجود أطفال شوارع في مدينةًٍ تتصدر قائمة المدن الأعلى في مستوى المعيشة، بل في الاستغراب ذاته الذي جوبه به الخبر عند إعلانه.
فوجود هؤلاء الأطفال في شوارع مدينة برن العريقة والثرية ليس أمرأ معلوما، إذ يجهله حتى سكان المدينة أنفسهم، ولا يعلم به سوى عدد محدود جدا من الخبراء والمختصين الاجتماعيين.
لذا، كان متوقعاً أن تثير الدراسة، التي أعدتها اندريا شتاوب الباحثة في المعهد الجغرافي بجامعة برن بعنوان “الحياة في الشوارع: دراسة كيفية عن أطفال الشوارع في مدينة برن”، كل تلك الضجة بل الزوبعة في الأوساط السويسرية.
كل شئ نسبي!
عندما سألت السيدة شتاوب ممثلين عن المؤسسات الاجتماعية المختصة في برن عن أطفال الشوارع في العاصمة، أجاب نصفهم بقناعتهم (لا بمعرفتهم) بوجود هذه المشكلة في المدينة. وقد أبرزت تلك الردود إلى حد كبير طابع الغموض المحيط بها، لاسيما مع رفض النصف الثاني منهم حتى الإقرار بوجودها.
وفي نفس الوقت، اعترض عدد من المختصين على استخدام مصطلح “أطفال الشوارع” ذي المواصفات المحددة للظاهرة في بلدان العالم الثالث على المراهقين الذين يعيشون في شوارع برن. ورغم عدم اتفاق السيدة شتاوب مع هؤلاء في الرأي، إلا أن هناك قدرا كبيرا من الصحة فيما ذهبوا إليه.
فالمقارنة بين الظاهرتين تُـبرز مفارقات عديدة. فمن جانب يصعب إطلاق مصطلح “ظاهرة” على المشكلة القائمة في برن. فعدد “أطفال الشوارع” فيها لا يزيد عن 100 طفل، وهو رقم يقف ضئيلاً خجولاً أمام الاثني عشرة (12) مليون طفل مشرد يهيمون على وجوههم في العاصمة البرازيلية لوحدها.
ومن جانب أخر، وهو عنصر تقر به السيدة شتاوب نفسها، فأن الفقر لا يمثل السبب الحقيقي وراء خروج الأطفال من بيوتهم في برن، بل الخلافات الأسرية ومشاكل المراهقة أو إدمان الأهل على المخدرات التي قد تؤدي بالطفل، إما إلى الهروب من بيته أو تدفع بذويه إلى طرده إلى الشارع.
من هنا وهناك!
تبتعد أعمار معظم أطفال الشوارع في العاصمة الفدرالية كثيراً عن سنِـي الطفولة المبكرة، إذ تبلغ أغلبيتهم حوالي 16 عاماً من العمر.
ومع أنهم ينتمون إلى فئات اجتماعية وجنسيات مختلفة، إلا أنهم يلتقون، رغم تنوعهم هذا، على رفضهم “للهيمنة” أو “السلطة”، بل إن كثيرا منهم تعرضوا للضرب أو الاستغلال من طرف ذويهم أو ممن تولوا رعايتهم في طفولتهم.
وتفيد الدراسة بأن بعضهم يعيش في الشوارع لمدة شهور قليلة، فيما يبقى البعض الآخر فيها لسنوات عديدة. أما مكان النوم الذي يأوون إليه مساءا، فيظل همّـاً يومياً يلاحقهم أينما حلّـوا.
وتشرح السيدة شتاوب بأن الحلول المتعلقة بهذا الهم تتراوح بين احتلال مجموعة من أطفال الشوارع لبيت خال والبقاء فيه، أو النوم في مزرعة في الخلاء، أو في مقطورة خالية في محطة القطارات، أو في حال كان المشرد فتاة فإنها تجد مكاناً للنوم لدى رجل باعت له جسدها في الليل.
“لا أحد يهتم بنا”
ولكن كيف يحصل هؤلاء الأطفال على قوتهم اليومي؟ يلتجئ البعض منهم إلى التسول في محطة القطارات الرئيسية في العاصمة، لكنهم يقابلون في معظم الأحيان بالرفض والتجاهل.
في المقابل، يبحث الكثيرون منهم، كما أبرزت دراسة الباحثة شتاوب، عن عمل، ولكن دون جدوى. وقد يجدون عملاً مؤقتاً، غير أن أحداً منهم (باستثناء حالة واحدة فقط) لم يفكر في الحصول على إعانة اجتماعية من السلطات!
وتحذّر السيدة شتاوب من بعض الأفكار المسبقة وتقول: “ليس صحيحاً القناعة السائدة بأن أطفال الشوارع خرجوا من بيوتهم بمحض إرادتهم وأنهم يستمتعون بحياتهم في الطرقات”!، إنهم يفكرون في المستقبل ويحملون همه أيضا، كما يرغبون في إكمال دراستهم والحصول على عمل، ويتمنون أن يجدوا مكاناً يُـؤويهم، بل إن كثيرا منهم عبّـروا عن أمانيهم في المساهمة في مشروع اجتماعي لمساعدة أمثالهم من القاصرين.
وتقول الباحثة أندريا شتاوب إن أحد هؤلاء الأطفال يحلُـم بأن يفتتح يوماً ما فندقاً للسياح الذين لا مـأوى لهم. هذا الحلم الذي يعبّـر بصدق عن واقع ذلك الطفل، مؤثر بحقّ. فهذا المشرّد فكّـر في فئة منسية من الناس، في الوقت الذي لا تُـبدي المؤسسات الاجتماعية في مدينته برن اهتماما به، وقد يعود هذا إلى أنها لازالت تُـصِـر على أنه.. غير موجود!
إلهام مانع – سويس إنفو
كشفت دراسة جامعية أعدتها الباحثة اندريا شتاوب في إطار حصولها على درجة البكالوريوس عن وجود أطفال شوارع في العاصمة السويسرية.
عنوان الدراسة “الحياة في الشوارع: دراسة كيفية عن أطفال الشوارع في مدينة برن”.
تقدمت شتاوب بالدراسة إلى المعهد الجغرافي بجامعة برن وحازت على درجتها الجامعية في عام 2002.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.