إســرائـيـل: كـيـانـان مُـختـلـفــان!
تبدو إسرائيل هذه الأيام أقرب إلى كيانين مختلفين، والحدود بينهما هي حدود مدى صواريخ حزب الله القادمة من لبنان.
في الجزء الشمالي، تبدو الحياة شِـبه مشلولة، وعندما تقطع حدود الصواريخ، تجد نفسك في مُـدن مليئة بالحياة، شوارعها مليئة بالناس وأماكن العمل والتسلية مفتوحة.
في قاعة فندق شاطئ النخيل ومقابل أسوار عكّـا التاريخية، التي يتباهى سكان بلدتها القديمة أو السكان الأصليين للمدينة، على حد تعبيرهم بالمثل القائل “يا خوف عكّـا من هدير البحر” في إشارة إلى قوة وثبات المدينة.
في قاعة هذا الفندق المواجه لزقاقات عكّـا، جلست تسيبي، امرأة يهودية من أصول مغربية في أواخر الثلاثينات من عمرها، تصفق وتضحك وتحاول أن تتفاعل مع غِـناء ورقص مجموعة من المغنين والمهرجين الإسرائيليين، الذين وصلوا من تل أبيب “خصيصا لرسم الضحكة على شفاه القابعين في الملاجئ والمهجّـرين من بيوتهم في قرى ومدن الشمال المقصوفة بصواريخ “الإرهابيين” من حزب الله”، على حد تعبير جِـيل، أحد المهرّجين الذين وقفوا في المكان استعدادا لتقديم وصلته، “لقد جُـلنا مُـدن الشمال جميعها وقدمنا عروضا فيها، على الرغم من الوضع الأمني السيئ”.
“وضع مُخز ومحرج”
سألته سويس انفو “هل سمعت ادّعاءات أهل الشمال العائدين من تل أبيب”؟ وجْـه جِـيل احمَـرّ قليلا قبل أن يجيب “نعم، إنه أمر مُـخز ومُـحرج، هؤلاء الناس هربوا إلينا من صواريخ حزب الله القاتلة، وفي تل أبيب استقبلوهم وكأنهم سائحين، ولم تتردّد البلدية في إعطائهم مُـخالفات وقوف، على الرغم من معرفتها بما يمرون به”.
أحد الطيارين الإسرائيليين، الذي سألته الإذاعة الإسرائيلية في مقابلة عن شعوره عندما يمتطي أجنحة طائرته المقاتلة ليحارب في لبنان، ويرى عند مروره إليها فوق شواطئ تل أبيب المصطافين على الشاطئ بملابس السباحة يتسكّـعون تحت شمسها ويتراشقون بمياه بحرها؟ فأجاب فورا: “أشعر بغضب شديد”، في حين أجاب زميله على نفس السؤال بأنه جندي ووظيفته عمل جلّ ما يستطيع ليتمكّـن الإسرائيليون من التمتّـع بحياتهم.
وهكذا هي إسرائيل في هذه الأيام، إنها تبدو أقرب إلى كيانين مختلفين، والحدود بينهما هي حدود مدى صواريخ حزب الله القادمة من لبنان. في الجزء الشمالي المُـمتد من حيفا في الغرب إلى طبريا في الشرق مرورا بالناصرة والعفولة، الحياة تبدو شِـبه مشلولة، وكلّـما اتجهت أكثر نحو الشمال، البيوت تقف صامتة بعد أن غادرها أهلها، كتسيبي ورفيقاتها، وشوارعها خالية وأصوات من تبقّـى تبدو خامدة بتأثير جدران الملاجئ العريضة التي احتضنتهم.
وعندما تقطع حدود الصواريخ، تجد نفسك في مُـدن مليئة بالحياة، شوارعها مليئة بالناس وأماكن العمل والتسلية مفتوحة وأزمات السير، التي اختفت ملامحها في الشمال منذ 12 يوليو، تجدها على حالها في الخضيرة ونتانيا وتل أبيب والقدس، غير أن هذا الواقع قد يغرّر بك، إن لم تتابع استطلاعات الرأي الإسرائيلية.
“التحول إلى مجتمع قَـبَـلي”
نتائج الاستطلاعات تبدو موحّـدة للجميع في الشمال والجنوب، أكثر من 80% يدعمون العملية العسكرية الإسرائيلية في لبنان، الجميع متّـفِـق هنا مع الخط العام للحكومة، “إنها أحد أكثر الحروب شعبية في تاريخ إسرائيل”، يقول لسويس انفو الدكتور سعيد زيداني، الخبير في الشؤون الإسرائيلية، “هناك إجماع إسرائيلي واسع جدا حولها”.
أقوال د. زيداني تبدو أكثر وضوحا عندما تتنقَّـل هذه الأيام بين الإسرائيليين “يجب تكسير حزب الله مرّة واحدة وإلى الأبد” أو “نحن مستعدون أن نقبع شهورا طويلة في الملاجئ، على شرط أن يُـنهي الجيش وجود حزب الله على الحدود” أو “يجب تلقين نصر الله درسا لا ينساه إلى الأبد”.
ويضيف الدكتور زيداني أن “الإسرائيليين، كأي مجتمع آخر في العالم، يتحوّلون عند الحرب إلى مجتمع قَـبلي، مصلحة ووِحدة القبيلة هي الأهم، وكمجتمع اعتاد على الحرب، فإنه سريع التأقلم والاصطفاف حول القبيلة وأهدافها”، ثم إن “المؤسسات السياسية والعسكرية ومؤسسات المجتمع المدني كالمؤسسة الأكاديمية والإعلامية، تتحوّل لتتحدّث بصوت واحد تقريبا، والأصوات النقدية تقلّ بصورة ملموسة”.
وهناك من يذهب حتى أبعد من ذلك ليقول: إن كافة المؤسسات المجتمعية تتحوّل إلى أدوات بيد المؤسسة السياسية والعسكرية. الجميع يتحوّل إلى قطيع ويستمتع جدّا بكونه كذلك، وهذا ما يفسّـر ربّـما الهجوم الذي يتعرّض له كل مرّة من جديد بعض نشطاء السلام الإسرائيليين المعارضين للحرب الثانية على لبنان، كلما حاولوا التظاهر ضد الحرب.
“المنعطف قادم لا محالة”
وأكثر ما يُـثير أفراد القطيع، الذين يُـسارعون للهجوم على المعارضين للحرب، أن جزءا كبيرا من هؤلاء المعارضين هم من الفلسطينيين حاملي الجنسية الإسرائيلية، الذين يبدون بالنسبة للإسرائيليين مع كل حرب جديدة تخوضها إسرائيل أنهم “طابور خامس وجزء من العدو القادم للقضاء علينا”، على الرغم من أن أربعة منهم قُـتلوا بصواريخ حزب الله التي سقطت، إما في ساحات بيوتهم أو في أماكن عملهم.
“المُـنعطف قادم لا محالة”، كتب البروفيسور مارون بنفنستي في صحيفة “هارتس” وسط هذا الأسبوع معلِّـقا على هذه الحالة “خسائر الجيش المتواصلة في لبنان والتخطيط غير الكافي وغير المدروس والفشل الاستخباراتي الواضح، ستغيّـر بالتأكيد أجواء السجّـال الداخلي لدينا عما قريب”، و”سرعان ما سيتحوّل المهلِّـلون للحرب، من سياسيين وإعلاميين، إلى أشد ناقديها، وسيبدأ السباق بينهم، من حذّر أولا من هذه الحرب وأهوالها”.
“عندها ستأتي نقطة الانعطاف وسيبدأ الانحسار في الرأي العام الإسرائيلي المؤيّـد للحرب”. ولكن حتى عندها، قد لا تنتهي الحرب بعد دخول الولايات المتحدة، التي بدأت بتزويد إسرائيل هذا الأسبوع بما ينقصها من صواريخ وقنابل ذكية تساعدها على حسم المعركة لصالحها”، حسب ما نُـشر في الصحافة الإسرائيلية.
في بداية هذا الأسبوع، قالت زهافا جلئون، عضوة الكنيست عن حزب ميرتس اليساري: “أمريكا تريد تحقيق مصالحها في لبنان على حساب أجساد أبنائنا”.
من بيده وقف الحرب؟
وعلى الرغم من أن الحزب يبدو داعما وبقوة للحكومة وللحرب “المبرّرة والتي لا تستطيع فيها إسرائيل بالسماح لنفسها بعدم الانتصار فيها وحسمها لصالحها”، على حد تعبير يوسي بيلين، رئيس حزب ميرتس.
و”لأن قُـدرة الرّدع الإسرائيلية ستدمر نهائيا أمام “الإرهابيين” من حزب الله وحماس والدول الداعمة لهم من سوريا وإيران، والى باقي الدول العربية الأخرى”، كما يفسّـر رافي ايتام، أحد زعماء اليمين الإسرائيلي وأحد الضباط الإسرائيليين الذين حاربوا في لبنان، إلا أن هناك انطباع، لدى جلئون ولدى العديد من الإسرائيليين، أن القرار الوحيد الذي تستطيع إسرائيل اتخاذه في الفترة القادمة، هو فقط الاستمرار في الحرب، لأن قرار وقفها سيكون بالأساس بيَـد واشنطن، وليس بيَـد إسرائيل.
والى حينها، قد تواصل الصواريخ القادمة من لبنان في “مرحلة ما بعد حيفا” و”مرحلة ما بعدَ.. بعدَ حيفا”، على حد تعبير الشيخ حسن نصر الله، زعيم حزب الله، توسيع حدود إسرائيل الشمالية على حساب إسرائيل الجنوبية.
وقد يجد رفاق تسيبي، الذين عُـوملوا كسواح عندما نزحوا إلى تل أبيب في بداية الحرب، عندما سمحت لهم إمكانياتهم المادية بذلك، قبل أن تقضي تل أبيب على السيولة النقدية في جيوبهم، قد يجدوا أولئك الذين عاملوهم كسُـياح في تل أبيب ينضمون إليهم في البحث عن ملاجئ آمنة، إذا لم تُـعطِ “كوندي”، كما تسمَّـى وزيرة الخارجية الأمريكية تحببا في إسرائيل، الضوء الأخضر للعملية السياسة بالانطلاق لإنهاء الحرب في لبنان.
وإلى حينها، سيبقى سكّـان الأزقة خلف الأسوار المقابلة لفندق شاطئ النخيل، في أزقتهم الفقيرة التي لا تمكِّـنهم إلا من التعايش مع صواريخ حزب الله القادمة من لبنان.
قاسم الخطيب – القدس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.