مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

إيران وبريطانيا واستحقاقات أزمة حافة النهر

بعد توسيمه، الرئيس الإيراني يهنئ أحد قادة الحرس الثوري الذي كان ضمن المجموعة التي أوقفت البحارة البريطانيين الخمسة عشر (طهران، 4 أبريل 2007) Keystone

"هل كل مرّة تسلم الجرّة، يا سيادة الرئيس محمود أحمدي نجاد؟": هذا السؤال يطرحه الكثير من الإيرانيين على رئيسهم، الذي يتبع أسلوب السير على شفير الهاوية، وذلك بعد انتهاء أزمة احتجاز الحرس الثوري 15 عسكريا بريطانيا، خرقوا المياه الإقليمية الإيرانية.

هذه الأزمة عزّزت حسبما يبدو من مكانة الحرس الثوري والرئيس أحمدي نجاد خصوصا، في الصراع الدائر حاليا بين الجمهورية الإسلامية والغرب حول برنامج إيران النووي.

أعيدت قضية البحارة البريطانيين إلى الواجهة من جديد، أهمية الحوار لحل القضايا العالقة، خصوصا الملف النووي، وهيأت لإيران أن تعلن في التاسع من هذا الشهر عن “نبأ سار” بشأن التحوّل إلى تخصيب اليورانيوم صناعيا، وإكمال دورة الوقود النووي اللازمة لتشغيل محطة بوشهر النووية، فإنها كشفت مرة أخرى طبيعة الأداء الإيراني، المتمثل بمواجهة أي تصعيد يأتي من الغرب، بتصعيد مقابل، واتّـباع إيران أسلوب “مسك اليد التي تؤلم” لدى الغرب، في مواجهة مفتوحة تنذر بحرب من العيار الثقيل، إذا حصل أي خطأ في حسابات أحد الطرفين.

إيران اختارت أن تقوم بعملية احتجاز البريطانيين في الجزء الإيراني من شط العرب “أرون رود”، وذلك قبل ساعات فقط من صدور قرار من مجلس الأمن، رعته الولايات المتحدة وقادته بريطانيا وفرنسا وألمانيا، يشدِّد العقوبات عليها، مُـعلنة أنها مستعدّة لأي مواجهة تتجاوز سقف العقوبات، إلى شن حرب عليها، فيما ترسل واشنطن المزيد من حاملات الطائرات إلى الخليج، وكأن ما فعلته ايران “بروفة”، عمّا يمكن أن يحصل إذا بدأت عليها الحرب… من مياه الخليج.

فأزمة الجنود والبحارة البريطانيين، لم تكن حدثا عابرا ولم يفاجئ الإفراج عنهم بعفو رئاسي، العارفين بخفايا العلاقات بين إيران والغرب وبدهاليز وأروقة صنع القرار في جمهورية ولاية الفقيه.. الإسلامية، لأنها رسمت إلى حد كبير الأسلوب الذي تتّـبعه إيران حاليا مع الغرب، و “داويني بالتي كانت هي الداء”، بما يشير إلى إصرار من إيران على أن لا تقدم تنازلات في برنامجها النووي، إلا إذا كان ذلك بثمن يستحقه التخلي عن حقها في الحصول على تقنية نووية متطورة لأغراض سلمية.

فعملية اعتقال البريطانيين كانت خطّـة مدروسة ومحسوبة بعناية فائقة، وأن إيران اختارت التوقيت الذي تريده لها، وهي تعلم جيدا أن خرق البحرية البريطانية مياهها الإقليمية في شط العرب، لم يكن أمرا جديدا، وقد تكرّرت نسخه البريطانية ست مرات، على حدّ قول الناطق باسم الخارجية محمد علي حسيني، ما عدا المرة الأولى، التي أعلن فيها عن ذلك في قضية اعتقال ثمانية جنود بريطانيين عام 2004، وتقديم بريطانيا اعتذارا رسميا لإيران..

ومن هنا، فإن الإفراج عن البريطانيين تم أيضا وِفق حسابات “البازار” الإيراني، وفي إطار صفقة، على رغم كل النفي البريطاني الرسمي، الذي صدر في أعقاب عودة البحارة إلى ديارهم، وليس قبل ذلك.

مطالبة بشيء ملموس

قبل يوم من المؤتمر الصحفي الذي عقده أحمدي نجاد، الذي أعلن فيه قراره بالعفو عن البريطانيين، كان الخبر المهم بالنسبة للإيرانيين هو عودة جلال شرفي، السكرتير الثاني في السفارة الإيرانية في بغداد إلى طهران، بعد اعتقال من قِـبل القوات الأمريكية وقوة عراقية خاصة، ليست لها صلة بالحكومة، وقد أعلن أنه تعرض للتعذيب من قبل الـ CIA لانتزاع معلومات منه، عن حجم وتفاصيل النفوذ الإيراني في العراق.

في تلك الأثناء، كان رئيس الوزراء البريطاني توني بلير يؤكّـد على أن حل الأزمة سيكون بالطرق الدبلوماسية، مُـعلنا مكتبه عن أول اتصال رفيع أجراه أحد كبار مستشاري بلير مع علي لاريجاني، كبير المفاوضين في الملف النووي الإيراني، وهذا بدوره أعلن لأول مرة أن لا حاجة إلى محاكمة البريطانيين، بعد تصريحات في هذا السياق شارك في إطلاقها الرئيس!

قبل هذه التصريحات “الإيجابية”، كان وفد عسكري بريطاني يجري محادثات مع الإيرانيين، وقد تأكّـد أنه منحهم وعدا بأن يتم الإفراج عن خمسة إيرانيين تعتقلهم منذ يناير، قوات أمريكية هاجمت مكتب إيران في أربيل في شمال العراق وتكتّـمت عليهم، عدا إعلان واشنطن أن المعتقلين الإيرانيين هم من جهاز الحرس الثوري وضباط مخابراته.

والأكثر أهمية في كل هذا الواقع، هو سماح واشنطن فجأة ودون سابق إنذار أو إعلان رسمي، لدبلوماسي إيراني بلقاء المعتقلين الخمسة في قاعدة أمريكية، وأن ذلك جرى في نفس يوم الإفراج عن البريطانيين في إيران.

وحتى بعد عودة البريطانيين إلى منازلهم وتغييرهم للاعترافات التي أدلوا بها في طهران، أنهم خرقوا المياه الإيرانية، فقد أعلن رسول موحديان، سفير إيران في المملكة المتحدة في تصريح نشرته صحيفة “فاينانشل تايمز” البريطانية يوم 31 مارس الماضي، أن طهران تنتظر من لندن الآن خطوات إيجابية في حل قضايا المنطقة، ردا على بادرة إرادة الخير المتعلقة بإطلاق سراح البحارة البريطانيين الذين أسرتهم إيران، مشددا على القول “الوقت حان كي تمدّ لندن خطوط اتصال معقولة مع طهران”.

وللتذكير فقط، نقول إن الرئيس الإيراني كان قد أعلن عن مؤتمر صحفي حول الأزمة مع لندن، وقد اختار له موعدا سرعان ما تم إرجاؤه إلى اليوم التالي، وذلك لكي يتأكّـد من صدقية الوعد الذي قطعه له الوفد البريطاني الزائر يومذاك إلى طهران.

وتنقل مصادر وثيقة الصّـلة بالرئيس الإيراني، أن أحمدي نجاد شدّد على أهمية أن يحصل الإيرانيون على بادرة حُـسن نية، عن عزم بريطانيا المساعدة في قضية الإفراج عن المعتقلين الإيرانيين في العراق، وطلب بعد الإفراج عن جلال شرفي، شيئا ملموسا، ولم يكن ذلك إلا لقاء أحد الدبلوماسيين في بغداد بهم والتعرف على ظروف اعتقالهم، وهذا يحدث لأول مرة منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.

في الأزمة الأولى، التي وجدت طريقها للحل بسهولة، لأن بريطانيا كانت تريد ذلك لدعم جهود الرئيس الإصلاحي سيد محمد خاتمي في تطوير علاقات بلاده مع الغرب، لم ترتفع في الأفق أي صور عن رغبة غربية بدعم أمريكي لاستخدام القوة، وكان الجميع متفقين على حلها سلميا في سياق سَـلِـس كانت تجري على قاعدته المفاوضات آنذاك بين الترويكا الأوروبية، فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وإيران حول تعليق الأخيرة برنامجها لتخصيب اليورانيوم.

الفرج!

نجح الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في استثمار هذه القضية كثيرا، واختار اللحظات الأخيرة من خطاب مطوَّل تخلّـلته هجمات قوية على الغرب ومجلس الأمن وإسرائيل، وبشَّـر من خلاله بالقِـيم الدينية وبتعاليم السيد المسيح عليه السلام، قبل أن يُـعلن بطريقة استعراضية عن العفو المستمد من سماحة كل من النبي محمد (ص) في عيد مولده الشريف، والسيد المسيح في عيد الفصح المبارك، مستغلا قيام العديد من محطات التلفزيون الغربية بنقل وقائعه مباشرة، ليمارس أحمدي نجاد دور الداعية والمبشر الديني، وإلى جانب مهامه كرئيس، ظهر قويا وهو يقلد رجاله الذين اعتقلوا البريطانيين، أوسمة الشجاعة الرسمية.

لقد أعلن أحمدي نجاد، وهو يخاطب البريطانيين متسائلا عن أسباب قبولهم إرسال أبنائهم إلى البصرة وقرب إيران، أنه يطلق سراح البحارة ومشاة البحرية البريطانيين الخمسة عشر “هدية” للشعب البريطاني في ضوء الخشية الإيرانية من تحوله من معارض للحرب على إيران، إلى معادٍ لإيران، بسبب حادث احتجاز بحّـارتهم وإثارة أحاسيسهم القومية.

قبل ذلك، طرحت إيران عدّة شروط للإفراج عنهم، بعد أن وصفتهم جهات شبه رسمية بالجواسيس، وسمحت للطلبة بالتظاهر أمام السفارة البريطانية في طهران، وهؤلاء طالبوا بإغلاق السفارة البريطانية وطرد سفيرها ومحاكمة البحّـارة في إيران، وهو أيضا ما دعا له بعض المسؤولين وعدد من نواب البرلمان، المحسوبين على التيار المحافظ.

أما على الصعيد الحكومي، فطلبت الحكومة الإيرانية بأن تعترف الحكومة البريطانية بانتهاك زوارقها العسكرية الحدود الإيرانية، وأن تقدم اعتذارا في هذا الشأن.

وقد تم هذا التنازل من “محاكمة الجواسيس” إلى “الاعتراف والاعتذار”، بعد أن شعرت الحكومة الإيرانية بالضغوط الدولية الهائلة من كل حدب وصوب، وخشية أن يفلت الأمر من عقاله ولا تسلم الجرّة هذه المرة، بعد أن وصل التضامن مع بريطانيا إلى الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بل تعدّاهم إلى بعض الدول العربية، كالسعودية وباكستان وتركيا والعراق نفسه، الذي طالب إيران بالإفراج عن البريطانيين مختارا الصمت في ما عدا كل ذلك، لأن الأزمة حصلت في شط العرب الذي كان الخلاف حول تقسيمه أو السيادة عليه سببا معلنا ليشن الرئيس العراقي السابق صدّام حسين حربا على إيران، استمرت زهاء ثمان سنوات.

أخيرا، يأتي الجدل حول ربط مشاركة إيران في المؤتمر الدولي حول العراق المقرّر عقده مطلع شهر مايو المقبل في منتجع شرم الشيخ المصري، بإطلاق القوات الأمريكية الإيرانيين، الخمسة الذين تعتقلهم في العراق، ليُـعيد إلى الواجهة مرة أخرى تلك الصفقات التي أبرمتها الجمهورية الإسلامية في إيران مع خصمها اللّـدود الولايات المتحدة، ونقضتها الأخيرة، ومنها بالطبع، اتفاقية رعتها الجزائر عام 1980 للإفراج عن رهائن السفارة الأمريكية في طهران، مقابل تحرير واشنطن الأرصدة الإيرانية المجمدة لديها.

نجاح محمد علي – دبي

طهران (رويترز) – الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد معروف في الخارج بتصدره عناوين الإخبار بخطب تقلق الغرب، لكن البادرة المثيرة التي قدمها يوم الأربعاء تصدّرت العناوين، وإنما بما يسعد الجمهور الغربي.

وفاجأ احمدي نجاد مشاهدي التلفزيون حول العالم بنزع فتيل أزمة دبلوماسية بإعلان الإفراج عن 15 جنديا من البحرية البريطانية تحتجزهم إيران منذ 23 مارس بتهمة انتهاك مياهها الإقليمية، وهو ما تنفيه بريطانيا.

ورحب الزعماء الغربيون بالإعلان وتراجعت أسعار النفط التي التهبت في وقت سابق بسبب الأزمة.

وأظهر الرئيس الإيراني لمسة من تلك القدرة على التواصل التي ساعدته في الفوز بالرئاسة في انتخابات 2005، حين مازح أحد البريطانيين المفرج عنهم قائلا “كيف حالك؟ إذن فقد جئت في عطلة إجبارية”، وأضاف قائلا لهم، وهو يبتسم بعد حديث قصير في حديقة مقرّه الرئاسي، “حظ طيب”. وكان البحارة يرتدون ملابس مدنية.

وقال أحد البريطانيين للرئيس، بعدما صافحه “نحن ممتنون لعفوك، أود أن أشكركم والشعب الإيراني”.

وأما فاي تيرني، المرأة الوحيدة ضمن المجموعة، والتي أصبحت واجهة الأزمة في الصحافة البريطانية، بعدما ظهرت في “اعتراف” عبر التلفزيون الإيراني، فقد نقل موقع التلفزيون على الإنترنت عن أحمدي نجاد قوله لها، أنه يتمنى أن تكون أسرتها وطفلتها سعداء بعودتها لمنزلها.

ويبدو أنه لم يكن أحد مستعدا للإعلان الذي يجب أن يوافق عليه الزعيم الإيراني الأعلى آية الله على خامنئي، صاحب الكلمة الأخيرة في مثل تلك الأمور.

ومالت اللهجة الدبلوماسية على الجانبين إلى التصالح في الأيام القليلة الماضية، لكن مسؤولين بريطانيين حذروا مواطنيهم من توقع نهاية سريعة للأزمة.

وكان الرئيس الأمريكي جورج بوش وصف البريطانيين في وقت سابق بأنهم “رهائن”، ليعيد إلى الأذهان محنة 52 أمريكيا احتجزوا 444 يوما في السفارة الأمريكية في طهران بعد اقتحامها عقب الثورة الإسلامية في 1979.

واستخدم أحمدي نجاد الجزء الأول من مؤتمره الصحفي الذي استمر 90 دقيقة ليهاجم الغرب مكرِّرا انتقاده المميّـز لمجلس الأمن الدولي على أنه أداة للقوى الكبرى، واتهم الولايات المتحدة وبريطانيا بإساءة استخدام قوتهم.

وقال احمدي نجاد “اقتداءً بالنبي المسلم.. إيران تسامح هؤلاء البحارة الخمسة عشر وتعطيهم حريتهم كهدية للشعب البريطاني”.

وتاهت الأسئلة من الصحفيين الذين كانوا يستعدون لمساءلة الرئيس بشأن استمرار احتجاز البحارة. وقال صحفي من شبكة فوكس نيوز الأمريكية “أعتقد أنك فاجأتنا بإعلانك، كنا جميعا نستعد للسؤال عن البحارة”.

وقالت وسائل الإعلام الإيرانية إن البحارة البريطانيين أنفسهم فوجئوا وهم يتابعون المؤتمر الصحفي عبر التلفزيون.

وذكرت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية أن “هؤلاء الجنود، بعدما سمعوا نبأ الإفراج عنهم، كانت فرحتهم طاغية”.

وحين سأل أحد الصحفيين الرئيس عمّـا إذا كان يعتقد أن البحارة البريطانيين سعداء بوجودهم في إيران، رد احمدي نجاد قائلا بثقة “نعم.. إنهم كذلك.. لان هناك حرب في العراق.. وإيران بلد آمن”.

وفي السابق، فاجأ احمدي نجاد كثيرا من الناس بالدعوة إلى محو إسرائيل من على الخريطة، وبدا يجد المتعة في المواجهة مع الدول الكبرى موجها انتقاداته الحادة لمن يعارضون البرنامج النووي لإيران، وهذه المرة، بدا أنه يستمتع بتلقي الشكر من عسكريين غربيين.

(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 4 أبريل 2007)

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية