استـعبادٌ عصري في قـلب الأنـدلس…
"كارثةٌ إنسانية وبيئية".. بهذه العبارة وصف وفدٌ سويسري عائد من إقليم المرية جنوبي إسبانيا وضع آلاف العمال الزراعيين المغاربة في مدينة الاخيدو.
وأكد الوفد أن حالة هؤلاء ساءت منذ موجة العنف والعداء للأجانب التي شهدتها المدينة قبل أربع سنوات إثر مقتل شابة إسبانية على يد عامل مغربي.
فقرٌ مُفجع واستغلالٌ فاحش وعنصريةٌ علنيةٌ..آلاف العمال المهاجرين، مُعظمُهم مغاربة، يعيشُون مُكدسين في أكواخ مهجورة، وبـُيوت من الورق المقوى والبلاستيك. إن وجدوا عملا لا يتقاضون عنه أكثر من 20 يورو في اليوم. وإن عطشوا يشربون مياه ملوثة. وإن رغبوا في الخروج من مُحيطهم البلاستيكي ولو لفسحة قصيرة، فعليهم أن يُكوّنُوا قافلة خشية من التعرض لاعتداءات جسدية عنصرية..
هذه هي الصورة القاتمة التي نقلتها وفودٌ سويسرية ودولية تفقدت مؤخرا أوضاع العُمال المهاجرين في مدينة الاخيدو بإقليم المرية جنوبي إسبانيا.
الإلدورادو يتحول إلى جحيم
في هذه المنطقة من الأندلس، تمتدُّ بيوت زراعية بلاستيكية على مساحة لا تقل عن 35 ألف هكتار يُمكن رؤيتها من القمر! ويعدُّ هذا البحرُ البلاستيكي أكبر تجمُّع لإنتاج الفواكه والخضار في العالم بأسره، حيث يزود أوروبا خلال موسم الشتاء بـ80% من حاجياتها من الخضر.
فتحت هذه الأرض الأندلسية أحضانها لعشرات الآلاف من العُمال الأجانب، خاصة من المغرب المجاور، لتحقيق معجزتها الفلاحية في ثمانينات القرن الماضي. كانت بمثابة إلدورادو ليد عاملة رخيصة قدمت من الضفة المُقابلة للبحر الأبيض المتوسط لتحويل منطقة شبه صحراوية إلى أرض خصبة وغنية. لكن أرض الثراء والأحلام تحولت عشية القرن الحادي والعشرين إلى جحيم لآلاف المغاربة.
معاناتهم بدأت في شتاء عام 2000 عندما قُتلت شابة إسبانية على يد عامل مغربي قيل إنه مختل عقليا. وتلت هذا الحادث موجةُ عنف وعنصرية ضد العمال المغاربة الذين دفعوا الثمن غاليا.
سكان القرية التي وقعت فيها الجريمة تهجموا على المغاربة في منازلهم ومتاجرهم ومساجدهم. تعرض كثيرون إلى اعتداءات جسدية، وأُضرمت النار في مئات المنازل، مما دفع العمال المغاربة إلى الإضراب عن العمل للمطالبة بتعويضات عن الأضرار التي لحقت بهم، وبإقرار الأمن وتقنين وضعية من لا يحملون أوراق إقامة شرعية.
المفاوضات بين السلطات وجمعيات المهاجرين ومستخدميهم تمخضت عن جملة من الوعود لتصحيح الأوضاع. لكن المنتدى المدني الأوروبي الذي أوفد بعثة دولية إلى المنطقة في ديسمبر من العام الماضي استنتج أن الأوضاع لم تشهد تحسنا يُذكر، بل ساءت أكثر فأكثر.
أوضاع كارثية
وكان المنتدى قد أرسل في أبريل من عام 2000 لجنة تحقيق إلى الاخيدو لتسليط الضوء على دوافع وانعكاسات الاضطرابات العنصرية التي وقعت من الخامس إلى السابع من فبراير 2000. وظل المنتدى يتابع الوضع في إقليم المرية منذ ذلك التاريخ إلى أن توصل في أغسطس الماضي بمعلومات مفزعة عن تفاقم الوضع في الاخيدو، خاصة بالنسبة للرعايا المغاربة.
ممثل المنتدى المدني الأوروبي في سويسرا ريمون غيتا كان ضمن الوفد الذي زار الاخيدو في ديسمبر. ورافق السيد غيتا أيضا وفدا سويسريا زار المنطقة بين 5 و7 فبراير الجاري لنفس الغرض، ولمعاينة الأوضاع البيئية والاجتماعية لكافة مراحل إنتاج الخضر والفواكه التي تملأ الأسواق السويسرية والأوروبية.
ضم الوفد السويسري النائبَ البرلماني جون دوبرا، الذي يشغل أيضا منصب نائب رئيس اتحاد المزارعين السويسريين، ونائبة رئيس الرابطة السويسرية لمنظمات الإنتاج الزراعي العضوي فندي بيتر، والمدير السابق لغرفة الزراعة بجنيف ويلي شتريكايزن.
وجميعهم عادوا بانطباعات سلبية جدا عن الظروف المعيشية للعمال الزراعيين، وخاصة أولئك القادمين من المغرب وإفريقيا السوداء وأمريكا اللاتينية. ولم يترددوا في وصف ما عاينوه بـ”كارثة إنسانية وبيئية”.
النائب البرلماني جون دوبرا قال عن العمال الزراعيين المغاربة “لكل مخلوق بشري الحق في الاحترام والكرامة الإنسانية. ما رأيته في الاخيدو ليس طبيعيا بالنسبة لبلد عضو في الاتحاد الأوروبي”.
وعزى تردي أوضاع هؤلاء العمال إلى الافتقار للسكن اللائق وإلى تلقيهم أجور يومية زهيدة لا تتجاوز 30 فرنكا سويسريا، هذا “إن دُفعت لهم” على حد تعبيره. وأوضح السيد دوبرا أنه سيُسلم ملف هذه الزيارة في أبريل القادم إلى زملائه في الوفد السويسري لدى المجلس الأوروبي.
أما ممثل المنتدى المدني الأوروبي ريمون غيتا فقد دعا العدالة الإسبانية إلى التحقيق في ممارسات العنف التي يتعرض لها العمال المغاربة في الاخيدو، وإحالة المسؤولين عنها أمام المحاكم. وقد سجلت نقابة العمال الزراعيين في منطقة الأندلس أكثر من 40 حالة اعتداء ضد العمال المغاربة خلال الأشهر القليلة الماضية.
بيوت بلاستيكية للخضر.. وأخرى للعمال
هذا وقد نبه التقرير، الذي نشره المنتدى المدني الأوروبي حول زيارة البعثة الدولية للمنطقة في ديسمبر الماضي، قائلاً “لم نلمس أي تحسن في الأوضاع بعد مضي زهاء 4 أعوام على الأحداث العنصرية التي شهدتها المنطقة في فبراير من 2000. وقد اتضح ذلك من خلال أوضاع السكن وعدم احترام اتفاقيات العمل الجماعية”.
وبعد التذكير بأن عددا كبيرا من قطاعات الاقتصاد الإسباني تعتمد أساسا على اليد العاملة المهاجرة السرية، أشار التقرير إلى أن مدريد لا تتيح إمكانية تقنين وضعية آلاف المهاجرين غير الشرعيين.
وقد طرأ تغيير ملحوظ على تشكيلة اليد العاملة الأجنبية منذ عام 2000، حيث سجلت السنوات الثلاث الماضية قدوم مهاجرين جدد من دول البلقان ودول أوروبا الشرقية، معظمهم لا يتوفرون على بطاقات إقامة.
وبينما كان المغاربة يُمثلون 83% من اليد العاملة الأجنبية في المنطقة قبل أربع سنوات، لم تعد البيوت البلاستيكية تشغل أكثر من 50% من العمال المغاربة، حيث بدأ المستخدمون يفضلون أبناء أوروبا الشرقية الذين يقبلون بأجر أقل.
ويقول تقرير البعثة التي نسقها المنتدى المدني الأوروبي “ما أثار اهتمامنا، عالم فقر مفزع، وأماكن سكن لا يمكن إطلاق عليها هذا الاسم”.
المهاجرون المغاربيون والأفارقة الأكثر حظا يعيشون في ما يسمى بـ”كورتيخوس”، وهي مباني قديمة أو أكواخ زراعية مهجورة مبنية من الحجر، تركتها أسرٌ زراعيةٌ بعد الانتعاشة الاقتصادية التي أتاحتها البيوت الزراعية البلاستيكية.
أما الأقل حظا فيحاولون إيجاد مأوى في الـ”شابولاس”، وهي مباني صغيرة من ورق الكارتون أو الورق المقوى والبلاستيك. ويقول التقرير إن عددا من العاملين ينامون في عنابر يخُزن فيها السماد والمبيدات.
مصير الإسبان المؤيدين للمهاجرين
زارت البعثة ثلاثة مواقع محاذية لمراكز تفريغ النفايات حيث يعيش مهاجرون مغاربيون. ولاحظت من خلال معاينة أوضاعهم أنهم “يشربون مياه ملوثة بدون شك بالمنتجات الكيماوية المستعملة في البيوت البلاستيكية”.
سكان المواقع الثلاثة حكوا نفس القصة: مُعظمهم لا يتوفر على بطاقة إقامة، ولا يتمكنون من إيجاد عمل إلا لبضعة أيام في الشهر. ولولا روح التضامن العالية فيما بينهم لاستحال بقاءهم.
والمثير المحزن أن بعض العمال المغاربة الذين يعيشون هذا الفقر يحملون شهادات جامعية عليا، حيث التقى الوفد بدكتور في القانون يتقن أربع لغات.
وأوضح تقرير المنتدى المدني الأوروبي أن “سياسة بعض البلديات في المنطقة تشبه نظام التمييز العنصري، الكل يتفق على القول إن بلدية الاخيدو هي اكثر تعصبا وعنصرية في التعامل مع المهاجرين”. وتتجلى مظاهر تلك العنصرية مثلاً في عدم تمكن المغاربة من دخول مقاهي إلا إذا دفعوا ضعف سعر المشروبات!
ونقلت صحفية أوروبية زارت المنطقة في فبراير الجاري أن المواطنين الإسبان الذين يؤيدون المهاجرين يتلقون تهديدات بالموت ولا يجدون العمل أو يقعون تحت ضغط السلطات. ومنهم من يغادر المنطقة بسبب مواقفه.
وإذا كان هذا هو المصير الذي يلقاه أبناء الأندلس، فما بالك بالوافدين عليها بصفة غير شرعية؟ فخوفهم من الطرد يجبرهم على الصمت عن الاعتداءات التي يتعرضون لها وعدم إبلاغ الشرطة. وربما يكون الطرد من هذا الجحيم أرحم من البقاء في جنة وهمية!
إصلاح بخات – سويس انفو
حسب “نقابة العمال الزراعيين” في منطقة الأندلس، 50% من العمال المهاجرين الذين يناهز عددهم 70 ألف لا يتوفرون على سكن.
ثلث هؤلاء مهاجرون سريون أغلبهم من المغرب، ثم من دول إفريقيا السوداء وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية.
تمتد البيوت الزراعية البلاستيكية في الاخيدو على مساحة 35 ألف هكتار، وهي أكبر تجمع لإنتاج الفواكه والخضروات في العالم.
تزود أوروبا بـ80% من حاجياتها من الخضر خلال موسم الشتاء.
منذ أحداث 2000، تراجعت نسبة اليد العاملة المغربية في المنطقة من 83% إلى 50%.
منذ أغسطس 2003، سجلت عشرات حالات الاعتداء الجسدية ضد مهاجرين مغاربة في الاخيدو.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.