الأردن في “عين الإعصار”
"بات حاضر الأردن في 2004 يُـشبه ماضي لبنان في 1975 من كل الوجوه تقريبا: المتغيرات الدولية، والظروف الإقليمية، والأوضاع الأمنية، والمخاطر من ألعاب إعادة رسم الكيانات الجغرافية".
هكذا يطل محللون شرق أوسطيون هذه الأيام على ما يجري الآن على الساحة الأردنية.
برغم أن المقارنة مع لبنان، الذي شهد عام 1975 سلسلة حروب أهلية وإقليمية دامية دامت أكثر من 14 عاما، تبدو مبالغا فيها بسبب اختلاف التراكيب السكانية والطائفية والتاريخية بين البلدين، إلا أنه ليس من المبالغة في شيء دق نواقيس الخطر تحسبا لما قد تتعرض له مملكة الهاشميين في مقبل الأيام.
إن الأسباب كثيرة، وفي مقدمها الانقلاب الكبير الذي أدخله الرئيس بوش على التوجهات الأمريكية إزاء فلسطين. فهو بتقديمه ضمانات إلى إسرائيل بدعم مطالبها بابتلاع نحو نصف الضفة الغربية، وإبقاء ستة مجمعات استيطانية كبرى فيها، ورفض عودة اللاجئين إلى أراضي 1948، نسف عمليا أي فرصة لقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
لقد شبّه العديدون في المنطقة رسالة ضمانات بوش بوعد “بلفور” الذي تعهّدت بموجبه بريطانيا بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، وهذا تشبيه يبدو صحيحا إلى حد بعيد، لكن مع فارق أساسي: “بلفور الأمريكي” قد يعني هذه المرة، ليس فقط تغيير خارطة فلسطين (أو بالأحرى ما تبقى منها)، بل تبديل العديد من الخرائط الأخرى في الشرق الأوسط، لضمان تنفيذه، وهذا بالتحديد ما يُـخيف النظام الأردني حاليا.
فدولة فلسطينية في الضفة وغزة، تعني عودة الروح إلى شعار الدولة الفلسطينية في الأردن الذي لطالما طرحه اليمين الإسرائيلي، ومفاده أن فلسطين كلها هي الدولة الإسرائيلية، والأردن كله (شرق النهر)، هو الدولة الفلسطينية. ومعروف أن أكثر من نصف المواطنين الأردنيين، أي مليون و700 ألف شخص، هم من أصل فلسطيني.
وفي حال بدأت إسرائيل بتهجير فلسطينيي الضفة وغزة إلى الأردن، فهذا قد يُـطيح بالتوازن الديموغرافي الهش فيه، ويضع بشكل جدي المشروع الإسرائيلي لإقامة دولة فلسطينية في الأردن على جدول الأعمال الدولي.
وقد عكس مسؤولون أردنيون هذه المخاوف مؤخرا، حين قالوا إن “تغيـّر السياسة الأمريكية إزاء الصراع في المنطقة، وتجاه مصالح حلفائها العرب، يثير قلق المملكة من ترتيبات وتفاهمات أمريكية – إسرائيلية لحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن”.
وما يعنيه المسؤولون هنا، لا يتعلق فقط بمتغيرات فلسطين، بل أيضا بما يجري في العراق، إذ أنهم يخشون أن يؤدي احتمال السيطرة الأمريكية – الإسرائيلية المشتركة على بلاد ما بين النهرين، وعبرها على الهلال الخصيب العربي، إلى نسف ركن أساسي من الأركان الاستراتيجية – التاريخية التي قام على أساسها الكيان الأردني، وهو لعب دور الحاجز الجغرافي والأمني بين إسرائيل وبين العراق وسوريا.
وحيت تنتفي الحاجة إلى الأردن كحاجز، يصبح كيانه مفتوحا أمام شتى المباضع، وعلى رأسها مبضع اليمين الإسرائيلي.
مخاوف.. مخاوف
هذه المخاوف الكبيرة والحقيقية، هي التي دفعت الملك الأردني عبد الله الثاني إلى تأجيل قمته المقررة مع بوش إلى الشهر المقبل. وكان مثيرا أن يترافق قرار التأجيل هذا مع إعلان مصادر عربية مطلعة بأن الملك طلب ضمانات من واشنطن حول مستقبل الكيان الأردني.
كما أنه ترافق مع تسريبات أخرى من واشنطن، تُـفيد بأن الأمير عبد الله، ولي عهد السعودية، طلب هو الآخر من الرئيس الأمريكي تطمينات حول “دور المملكة في أي تغييرات إقليمية تُـجريها الولايات المتحدة على الخريطة الشرق أوسطية”.
هل كان ولي العهد السعودي يقصد هنا، من ضمن ما يقصد، الأردن؟ الأمر ليس مستبعدا، خاصة إذا ما تذكّرنا أن ثمة تنافسا تاريخيا “أبديا” بين الأسرة السعودية المالكة وبين الأسرة الهاشمية الأردنية التي كانت تحكُـم كل منطقة الحجاز حتى بدايات القرن العشرين، وأن الأردن والسعودية لديهما حدودا مشتركة طويلة تخترقها قبائل تنحدر من أصول مشتركة وتتجّول بشبه حرية بين البلدين.
بيد أن المخاوف الخارجية الأردنية ليست نهاية المطاف.
فبعد الكشف عن ضمانات بوش لإسرائيل، أصدرت “جبهة العمل الإسلامي” الأردنية القوية، وهي الذراع السياسية لحركة الإخوان المسلمين التي تعتبر أكبر مجموعة معارضة في البلاد، فتوى تحظر فيها على المسؤولين الأردنيين الاجتماع بزملائهم الأمريكيين، ويشمل هذا الحظر زيارة واشنطن.
ثم بعد هذه الفتوى الخطيرة التي تجاوزت الخطوط الحمر المتعلقة بعدم انتقاد العاهل الأردني، كانت السلطات تكشف النقاب عن عملية إرهابية كبرى كان ينوي بموجبها أنصار مصعب الزرقاوي، الحليف الأبرز لأسامة بن لادن، القيام بهجوم كيماوي على مقار رئاسة الوزراء، ودائرة المخابرات العامة، والسفارة الأمريكية في عمان، ولو لم تعتقل السلطات عشرة من أعضاء الخلية المناط بهم تنفيذ هذه العملية، لسقط “أكثر من 80 ألف قتيل و160 ألف جريح”، وفق ما جاء في البيان الرسمي الأردني.
مطرقة العراق .. وسندان فلسطين
هذه العملية، في حال التأكد من وجودها بالفعل، تكشف بشطحة قلم واحدة حقيقة وجود الكيان الأردني في قلب الإعصار الشرق أوسطي الجديد.
فعلى الصعيد الأمني، تشكو السلطات الأردنية شكوى مُـرّة من عجز قوات الاحتلال الأمريكية في العراق عن ضبط الحدود مع الأردن، ومن منع الأصوليين المتطرفين من التدفق على أراضيها. كما انها شكت أيضا من أن الأصوليين أدخلوا من الحدود السورية مؤخرا ثلاث شاحنات مفخخة كانت معّدة للتفجير في الأردن.
وعلى الصعيد السياسي، يجد النظام الأردني هذه الأيام نفسه في واحدة من أحرج لحظات وجوده. فهو، وبرغم كونه أوثق حليف لأمريكا في الشرق العربي، إلا أنه غير قادر على تأييد السياسات الأمريكية لا في فلسطين ولا في العراق، ليس فقط بسبب خوفه من ردود الفعل الداخلية (برغم وصول هذه الأخيرة إلى مرحلة الخطر مع فتوى الإخوان المسلمين)، بل أيضا لأن هذه السياسات بدأت تقفز فوق مصالح الأردن ككيان ونظام ودور إقليمي وحتى داخلي.
فالتطابق الأمريكي- الإسرائيلي في العراق يهدد الدور التاريخي للكيان الأردني، والانحياز الأمريكي إلى إسرائيل في فلسطين، يهدد وجود هذا الكيان نفسه. وبين مطرقة العراق وسندان فلسطين، تشعر عمّان أنها عاجزة عمليا عن القيام بأية مبادرة، سواء كانت سلبية أو إيجابية، إزاء أمريكا المنهمكة الآن بتغيير معالم منطقة الشرق العربي والشرق الأوسط الكبير.
ويتفاقم هذا العجز، إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أن الاقتصاد الأردني يعتمد على 450 مليون دولار التي تقدمها الولايات المتحدة له سنويا للبقاء على قيد الحياة، كما أنه كان يراهن على تدفق بعض الاستثمارات الأمريكية إليه لإنقاذه من حال الركود التي يعيشها الآن (وهذا، على أي حال كان الهدف الرئيسي من زيارة الملك عبد الله الأخيرة إلى الولايات المتحدة) .
الخـوف الكـبـيـر
هل سيكون الملك عبد الله الثاني قادرا على الصمود في وجه هذه الأعاصير الإقليمية – الدولية العاتية، كما فعل والده الملك حسين طيلة نصف القرن المنصرم؟
الكثير، إن لم يكن كل شيء، يعتمد على القرار الأمريكي – الإسرائيلي في هذا الصدد، وعلى إذا ما كان ثمة حاجة بعد إلى الدور الأردني في المنطقة.
وهنا يبدو الخوف كبيرا من حدوث التشابه الذي أشار إليه المحللون الشرق أوسطيون بين أردن 2004 ولبنان 1975، فكلاهما وجد نفسه وسط إطلاق نار إقليمي ودولي من كل ناحية، وكلاهما فقد دوره (لبنان الخدماتي، الأردن الأمني) بسبب متغيرات المنطقة، وأخيرا كلاهما دفع ثمن وجود عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه. الفارق الوحيد بين النموذجين، هو ضعف الدولة اللبنانية الكبير، وقوة الدولة الأردنية الكبير.
لكن هل كانت الدولة الأردنية ستبقى قوية، لو نجح الزرقاوي بالأمس في نسف مقرات مجلس الوزراء والاستخبارات والسفارة الأمريكية، أو نجحت إسرائيل غدا في تنفيذ عمليات تستهدف أسس هذه الدولة ومداميكها؟
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.