الازدهار الصعب للإعلام العراقي
مع سقوط نظام صدام حسين، فُتحت آفاق إعلامية رحبة أمام العراقيين الذين عاشوا على مدى 35 عاما الخطاب السياسي والإعلامي الواحد.
وفي غياب محطات التلفزيون الوطنية، التي لم تستأنف بعد بثها، يُتابع العراقيون أخبار بلدهم والعالم عبر الفضائيات والصحف التي تعددت عناوينها وتنوع مضمونها.
إن مستقبل الإعلام العراقي في ظل المتغيرات الجديدة، “ظلام في ظلام”. هكذا وصف الكاتب والصحفي العراقي، أمير الحلو، الذي تقلّـد مناصب إعلامية عديدة في عهد صدام، مستقبل الإعلام العراقي، “إذا لم يُؤطّـر بالالتزامات الوطنية”، التي يعتقد أنه لا غنى عنها إذا ما أريد للإعلام العراقي أن ينطلق في العهد الجديد نحو آفاق الحرية والتقدم والالتزام.
ويعتقد كثيرون أن المستقبل قد لا يُبشّـر بخير إذا تم المُضي قُدما فيما هو سائد الآن من صيَغ طرأت على المسيرة الصحفية والإعلامية في عراق العهد الجديد.
ومع أن صدور نحو 25 صحيفة يومية وأسبوعية في العراق اليوم، يُعد عاملا إيجابيا في المسيرة الصحفية، إلا أن نظرة فاحصة لمضمون هذه الصحف، تُفضي بالتأكيد إلى موقف متشكك، إن لم يكن سلبيا، وهو كذلك عند كثيرين.
وما هو سائد اليوم على صفحات الجرائد، موجة عاتية من تصفية الحسابات الشخصية، ومحاولات تجميل البعض أو تشويه آخرين. وكل ذلك يجري وفق معايير شخصية واجتهادات وأمزجة، وكلها مطبوع حتما بآثار مرحلة الإعلام الشمولي الماضية.
ويعتقد الكاتب والصحفي العراقي أمير الحلو، الذي سبق وتولى قيادة مراكز إعلامية عديدة، كان آخرها رئاسة تحرير مجلة “ألف.باء” الأسبوعية الوحيدة في العراق والصادرة عن وزارة الإعلام السابقة، أن عدم خضوع الصحف العراقية إلى ضوابط وأخلاقيات المهنة والموقف الوطني والقومي سيدفع بالأمور إلى اتجاهات أخرى.
ولأن المرحلة بالغة الحساسية والخطورة في تاريخ العراق المعاصر، وهي مفترق طرق حاسم، فما هو مطلوب، والكلام للحلو أيضا، التسامي فوق كل الاعتبارات الشخصية والأمزجة المتقلبة، والنظر إلى مصلحة الوطن العراقي الذي يعيش أوضاعا استثنائية ومعقّـدة لا تخفى على أحد.
تفاؤل رغم الصعوبات
الدكتور أحمد عبد المجيد، الكاتب والصحفي والأستاذ في كلية الإعلام العراقية، يطرح موقفا متفائلا بالمستقبل، ويرى أن المهنة الصحفية ستشهد نوعا من التطور لوجود تنافس بين الكفاءات الصحفية الفردية، إضافة إلى التدفق المرتقب للتقنيات الحديثة، وكلها تخدم العمل الصحفي والإعلامي وتجعل انطلاقة الصحافة العراقية إلى الجوار العربي، وبالتالي، إلى المحيط الأكثر اتساعا، ممكنة فعلا.
لكن الدكتور أحمد عبد المجيد لا يتردد في طرح مخاوفه من أن تمتد التصرفات الحاصلة الآن إلى المستقبل، بمعنى أن يرسّخ فراغ السلطة السائد قِيّمه وتقاليده في الإعلام العراقي، وأن يُشجع هذا المنهج المعتمد الآن بعض ممتهني الصحافة على خرق أخلاقيات المهنة، وتحويل منابرهم الإعلامية إلى ساحات للمهاترات وتصفية الحسابات الشخصية، بما يضر مهنة الصحافة ومصلحة الوطن معا.
ويرى عبد المجيد أن من واجبه كمهني وأكاديمي ونقابي عريق أيضا، أن يوجه نداءً إلى زملاء المهنة للاستفادة من التجارب السابقة كي يتحرروا من عُقد الماضي، وأن الميدان الصحفي يتسع “لفرسان كثيرين”، مشددا على أن المنافسة يجب أن تكون في حدودها الشريفة والمهنية فقط.
سعد البزاز، الصحفي العراقي المرموق، والذي عمل خلال عهد صدام رئيسا لتحرير صحيفة الجمهورية ثم انشق عن النظام، اختار أن يدشّن العهد الجديد بتجربة صحفية فريدة، حيث بادر إلى طبع صحيفته “الزمان” طبعة خاصة في بغداد، وهي تختلف شيئا ما عن طبيعة لندن، التي كان يسمع بها القارئ العراقي ولا تتاح له طيلة السنوات الماضية فرصة الاطلاع عليها.
أما هيثم فتح الله، صاحب مطبعة الأديب البغدادية، التي تُطبع فيها 15 صحيفة يومية وأسبوعية، والمسؤول الفني لصحيفة الزمان فيقول، إن كادره الفني استطاع استيعاب تجربة الزمان بسرعة، الأمر الذي مكّـنه من تجاوز جميع المعوقات، مشيرا إلى أنه يتم تسلم 20 صفحة من طبعة لندن عبر الأقمار الصناعية، ويتم التعامل معها حذفا وإضافة وتنقيحا للصفحات الثلاث الأولى، بما يتلاءم والواقع العراقي. ولذلك، فإن الطبعة البغدادية تختلف بعض الشيء عن الطبعة اللندنية. ويؤكد فتح الله أن الكادر الفني والتحريري، الذي يتعامل مع هذه التجربة، كادر متميّز.
ازدهار غير مسبوق للمطبوعات
وفيما تُـوزّع معظم الصحف الصادرة في العراق الآن بين 3000 و5000 نسخة، باستثناء صحيفة التآخي، الناطقة بلسان الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يتزعمه السيد مسعود البرزاني، والتي تطبع 20 ألف نسخة، وصحيفة الساعة التي تطبع 10 آلاف نسخة وتصدر عن الحركة الوطنية العراقية الموحدة، التي يتزعمها الشيخ أحمد الكُبيسي، فإن معظم الصحف والمطبوعات لا تُوزّع سوى كميات قليلة.
ويؤكد فتح الله أن هناك نية لزيادة عدد المطبوع من صحيفة الزمان إلى 50 ألف نسخة، بدلا من 30 ألف نسخة التي تُطبع الآن. وقد حدّد لهذه المهمة سقفا زمنيا لا يتجاوز مطلع الشهر المقبل، مشيرا إلى إقبال القارئ العراقي على الزمان، باعتبارها صحيفة متميزة تقنيا وتحريريا، إضافة إلى المضمون المنوع، الذي يغطي اهتمامات أوسع شرائح عراقية.
وإذا كان ما يجري الآن على الساحة الإعلامية العراقية جديدا على المواطن، الذي لم يألف في العقود الماضية إفساح المجال للرأي الآخر ولتبادل الأفكار، فإن ثمة مستجدا آخر طرأ على حياته.
الصحون اللاقطة!
ففي ظل غياب مؤسسة تلفزيونية وطنية، وبعد سنوات من الحرمان، صار انتشار الصحون اللاقطة للفضائيات منظرا مألوفا في كافة أنحاء العراق. ولأول مرة، صار المواطن العراقي حرا في التنقل بين الفضائيات، وهو على ما يبدو متابع جيّد لما تبثه من حوارات وأفكار.
لكن أي مقياس لاتجاهات الرأي العام العراقي في هذا الصدد، لا يمكن تحديده الآن، ليس لأن جهة متخصصة لم تقم بالاستبيان المطلوب فحسب، بل لأن اتجاهات الرأي العام في العراق حيال ما تبثه الفضائيات العربية بشكل خاص لم يتبلور حتى الآن، ولم يتخذ ما يمكن اعتباره مناحي ذات طبيعة مستقرة. فالمواطن العراقي لم يخرج بعد من حالة الانبهار بما يرى ويسمع لأول مرة، ولم تتح له بعد فرصة التحليل والفحص.
ثمة قضية أخرى تتصل بالموضوع وتشغل بال الصحفيين العراقيين هذه الأيام، وهي الانتخابات المزمعة في نقابة الصحفيين لاختيار قيادة نقابية جديدة بعد سنوات من سيطرة عدي صدام حسين على هذه النقابة، التي تولى قيادتها قبله أعلام بارزون في الصحافة العراقية، منهم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، والصحفيان فيصل حسون وسعد قاسم حمودي، الذي كان عضوا بارزا في حزب البعث.
نقابة الصحفيين
ويشير سلام الشماع، عضو اللجنة التحضيرية لانتخابات النقابة، أن المهمة المناطة بهذه اللجنة الآن هي الإعداد للمؤتمر القادم وبناء النقابة، التي قال إنه لم يبق منها إلا أعضاء الهيئة العامة. ويكشف الشماع النقاب عن تدني الإمكانات المادية للصحفيين العراقيين في هذه المرحلة، والذي كان معظمهم يعيش من رواتب توزعها النقابة السابقة بأمر مباشر من الرئيس صدام حسين. ويقول إننا نسعى إلى شمول الصحفيين بدفعة الطوارئ البالغة 20 دولارا، والتي وزعتها قوات التحالف على الموظفين العراقيين.
ويكشف الشماع محاولات لاستقطاب النقابة سياسيا، مشيرا إلى أن كثيرا من التيارات السياسية والأحزاب حاولت تحريف مسار نقابة الصحفيين، مؤكدا أن اللجنة التحضيرية قاومت حتى الآن محاولات تسييس النقابة باعتبارها تنظيما شعبيا مهنيا يضم الصحفيين العراقيين بكل اتجاهاتهم.
وفيما يعتقد كثير من المراسلين الصحفيين أن فرصا جديدة ستتاح أمامهم للخوض في أمور كان يُمنع الخوض فيها، فإنهم يعتقدون أن التجربة الجديدة المنتظرة ستطيح بكفاءات كاذبة وستفرز جملة من الوقائع لا غنى للمراسل الصحفي عنها. إضافة إلى ذلك، ما يزال عدد غير قليل من الصحفيين العراقيين يأسرون الصمت.
فكل الأمور متغيرة واستثنائية ومائعة أيضا، حيث تفضل الأغلبية الصامتة انتظار أن تتجلى الأمور وتُحسم لتتخذ هي بدورها موقفها البعيد بالضرورة عن حالتي الاختراق أو الارتزاق.
مصطفى كامل – بغداد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.