الانتخابات الفلسطينية: “اختبار” إسلامي- غربي جديد؟
"ثمة أمران اثنان في الديمقراطية يثيران الحنق: الأول، أن المقترعين وفق قواعدها لديهم ميل لحسم أمورهم وإبداء رأيهم بشجاعة. والثاني، أنها تكشف الحقائق الكامنة، التي غالباً ما تكون هي ذاتها الغضب المقموع للناخبين".
هكذا نظر الكاتب البريطاني البارز فيليب ستيفنز إلى نتائج الانتخابات التشريعية الفلسطينية..
الكاتب ستيفنز رأى أن الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي حققت فيها حركة المقاومة الفلسطينية حماس انتصارا كبيرا “حسم فيها الناخبون الفلسطينيون أمورهم” فكشفوا، بالتالي، عن “الحقائق الكامنة والغضب المقموع”. وهو وصف دقيق يكاد يختصر ليس فقط المشهد الفلسطيني، بل أيضاً كل اللوحة العربية والإسلامية.
فقد أماط الفوز الكاسح لحركة “حماس” الفلسطينية، التي هي تاريخياً فرع من حركة الإخوان المسلمين العالمية، اللثام عن السر المعروف منذ الهزيمة العربية أمام إسرائيل عام 1967: صعود تيارات الإسلام السياسي، وانحسار التيارات اليسارية والقومية شبه العلمانية سواء كانت في السلطة أو المعارضة.
ولو أن الانتخابات المصرية الأخيرة جرت في أجواء الحرية والنزاهة التي تميزت بها الانتخابات الفلسطينية، لسجل الإسلام السياسي هناك نتائج مماثلة لزميله الفلسطيني على الأرجح. وقل الأمر ذاته عن انتخابات مماثلة مفترضة في سوريا والأردن والسعودية والمغرب وتونس، وربما حتى أيضاً في الجزائر التي أدى إلغاء فوز الإسلاميين فيها في انتخابات عام 1992 إلى حرب أهلية مدمرة، والتي لا يزال الإسلام السياسي “المعتدل” فيها، برغم ذلك، هو القوة الجماهيرية الأولى.
رب متسائل هنا: لماذا تطلب الأمر نحو أربعين سنة لوصول الإسلاميين إلى السلطة، طالما أنهم كانوا طيلة هذه الفترة المحّرك الأول لديناميات السياسة في المنطقة؟
الجواب بسيط: الحظر الدولي، وإفادة الأنظمة التوتاليتارية من هذا الحظر لقمعهم ومنعهم من مغادرة المساجد والتكايا الدينية والعمل الاجتماعي، إلى الإدارات والوزارات والسلطة السياسية والتشريعية.
بكلمات أوضح: مارس الغرب المهمين على المنطقة العربية سياسة ثابتة إزاء الإسلاميين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، استندت إلى قبول التحالف معهم طالما أنهم يشاطرونه في سياستهم الخارجية هموم الحرب على الأيديولوجيا الشيوعية، ويعارضون الأيديولوجيا القومية العربية التي اصطدمت معه في أوائل الخمسينات؛ ولا يهددون في سياساتهم الداخلية الأنظمة العربية الموالية له.
وقد تكرّس هذا التوجّه في التحالف التاريخي الذي أبرمه الرئيس الأميركي روزفلت مع الملك السعودي عبد العزيز على متن بارجة حربية أميركية في منتصف الأربعينات، ثم توّج بالتحالف الأميركي – الإسلاموي ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان العام 1979.
انـقلاب سبـتمـبر
هذا المنحى استمر على ما هو عليه، برغم انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي. فقد واصل الغرب تحالفه التاريخي مع الأنظمة التوتاليتارية العربية، سواء أكانت “علمانية” أو ترفع شعارات دينية، ورفض بإصرار منح الإسلاميين فرصة المشاركة في الحياة السياسية العلنية.
وقد وصل هذا المنحى إلى ذروة وضوحه بعد الانتخابات الديمقراطية الجزائرية عام 1992، حين دفعت الولايات المتحدة وفرنسا المؤسسة العسكرية الجزائرية إلى الانقلاب على نتائج هذه الانتخابات، وإلى الانغماس في حرب أهلية دموية دامت أكثر من عقد كامل.
بيد أن كل شيء تغيّر بعد 11 سبتمبر 2001. فبعد هجمات واشنطن ونيويورك، اكتشفت الولايات المتحدة أن أمنها القومي لم يعد يخدمه التحالف السري مع الأنظمة التوتاليتارية العربية التي أفرزت (برأيها) ظاهرة “الإرهاب” التي ضربت عمق الوطن الأمريكي.
المعادلة التي اكتشفها الرئيس جورج بوش في 2001، هي ذاتها التي تحدث عنها فيليب ستيفنز في 2006: الحاجة إلى الديمقراطية لاكتشاف الحقائق الكامنة في قلب المجتمعات العربية والإسلامية، والتي تهدد، في حال استمرار قمعها، بتعزيز ظواهر أيمن الظواهري وأسامة بن لادن وأبو مصعب الزرقاوي.
لكن، كيف يمكن تلبية هذه الحاجة، التي تعني قبول مشاركة الإسلاميين في اللعبة الديمقراطية، بدون تعريض المصالح الأميركية للخطر؟ هنا طورت مراكز الأبحاث وأصحاب القرار في واشنطن نظرتين:
الأولى تقول أن احتمالات التعاون أو التفاهم مع التيارات الإسلامية المعتدلة، ليست دوماً في طريق مسدود. فإذا ما وافقت هذه التيارات على بعض التفاهمات المشتركة مع الغرب، لا تعود ثمة مشكلة كأداء معها لا يمكن تجاوزها.
أبرز هذه التفاهمات: نبذ العنف والإرهاب؛ مصالحة الإسلام مع القيم الغربية الخاصة ليس فقط بالديمقراطية وحقوق الإنسان، بل أولاً وأساساً بمبادئ حرية السوق وقواعد الاقتصاد العالمي، بكل ما يتفرع عنها من ترتيبات قانونية ودستورية. ثم بالطبع الاعتدال في معارضة بعض السياسات الغربية.
النموذج هنا نموذجان: تركيا الأوردوغانية في شمال غرب آسيا، التي تسير قدماًُ الآن على وقع هذه التفاهمات مع الغرب، وإندونيسيا التي تمارس هي الأخرى إسلاماً سياسياً منفتحاً ومعتدلاً في الداخل، وتحالفاً علنياً مع أمريكا في الخارج.
والنظرية الثانية، ترى انه في حال سقط الإسلاميون في امتحان التعاون والتفاهم، ثمة دوماً خيار “الفوضى الخلاقة”، الذي يمكن بموجبه تحويل عرس الإسلاميين في السلطة إلى مأتم على النمط الجزائري (خلال الحرب الأهلية) أو اللبناني (1975-1989) أو حتى العراقي (2003- ؟).
رهانات
كما هو واضح، موافقة الغرب على خروج الإسلام السياسي من تحت الأرض إلى رحاب الهواء السياسي النقي، ليس شيكاً على بياض. إنه “وعد بيع مؤقت” (إذا جاز التعبير)، أو “خطبة اختبارية” (إذا جاز التعبير أيضاً)، سيتقرر بعدهما ما إذا كان سيسمح للإسلاميين بالإفادة من ثمرات التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط الكبير.
وهذا سيكون جلياً أكثر ما يكون في فلسطين، التي سمح فيها لحركة إسلامية بفوز كاسح للمرة الأولى منذ الانتخابات الجزائرية. فهل تنجح حماس في هذا الاختبار؟
رهان واشنطن وتل أبيب وبعض الأنظمة العربية هو الآن على تفّكك “حماس” بعض خروجها من المعارضة ودخلوها إلى السلطة. (يجب ألا ننسى هنا أن هذه السلطة، ليست شيئاً آخر سوى إفرازات اتفاقات أوسلو مع إسرائيل).
وهناك حقائق تشجع على هذا الرهان، أولاها أن ثمة أجنحة عديدة في حماس في الداخل والخارج، منها الواقعي والثوري، البراغماتي والرومانسي، المدني والعسكري، الانتهازي والمبدئي.
وبرغم أن كل أجنحة هذه الحركة الإسلامية تتفق على الإستراتيجية العامة حول تحرير كل فلسطين، إلا أنها تمر حاليا في المرحلة نفسها التي مرت بها في السابق الحركات الوطنية والقومية الفلسطينية، والتي انتقلت من إستراتيجية التحرير من النهر إلى البحر، إلى إستراتيجية الدولة المؤقتة من غزة إلى الضفة.
الشيخ أحمد ياسين، انحاز في أواخر أيامه إلى هذا الخيار الأخير، معتبرا أن تحرير باقي أنحاء فلسطين (الذي توقّع حدوثه عام 2027) سيكون من مهمة الأجيال المقبلة. بيد أن هذا لم يتبلور في برنامج سياسي تقره كل كوادر حماس. ولذا بقيت هذه القضية الخطيرة معلقة في الهواء.
ثاني هذه الحقائق أن هناك تيارات داخل حماس لم تتحمس كثيرا لموقف الشيخ ياسين الرافض لشن عمليات خارج فلسطين التاريخية. والأرجح أن تعاود هذه التيارات الإطلالة برأسها الآن.
ثم هناك حقيقة ثالثة: حماس تتعرض الآن إلى ضغوط دولية- إقليمية كبرى تهدف إلى إضعافها، أو تغيير جلدها، أو حتى تدميرها. وفي ظل مثل هذه الضغوط التي تتضمن، من ضمن ما تتضمن، الاغتيالات والاجتياحات ونسف البنى التحتية المالية والإدارية وتفجير التناقضات الداخلية، لن يكون من السهل على القيادة الجديدة موازنة العنف بالحكمة، والثورية بالبراغماتية، كما كان يفعل الشيخ ياسين.
بالطبع، وجود هذه المخاطر القوية لا يعني أن الفرص ضعيفة أمام احتمال خروج حركة المقاومة الإسلامية من الأزمة بسلام. وهذا احتمال قائم وقوي حتى برأي المحللين الإسرائيليين والأميركيين.
يقول الكاتب رؤبين باز: “يخطئ من يعتقد بأن الضغوط ستقضي على حماس”. هذا في حين يشّدد المحلل الأميركي جيمس وولتر على أن “غريزة حب البقاء ستتغلب على قادة حركة حماس الذين يتعرضون الآن إلى خطر التصفية الجماعية. وهذا ما قد يدفعهم إلى طي صفحة الخلافات السابقة والعمل معا لتجاوز مرحلة الخلافة الصعبة”.
لكن، وبرغم هذه المعطيات الايجابية، ستكون حماس في حاجة إلى دفعة قوية من الخارج لتمكينها من تجنيب نفسها (ومعها المجتمع الفلسطيني برمته) مخاطر الفوضى والتفسخ. وهذه الدفعة لا عنوان بريدي آخر لها سوى حركة “فتح” التي يجب ألا توحي بأي شكل من الأشكال أنها تنوي ممارسة لعبة الحصيلة صفر مع حماس بعد الانتخابات، حيث تكون الخسائر الصافية لهذه الأخيرة أرباحا صافية لها.
ويرى بعض العقلاء الفلسطينيين أنها (أي “فتح”) يجب أن تسارع إلى تنفيذ اقتراحات “حماس” الخاصة بتشكيل هيئة حماسية- فتحية مشتركة لإدارة السلطة الفلسطينية. ثم انه يتعّين أيضا عليها ألا تمل من التوضيح أناء الليل وأطراف النهار أنها ملتزمة بالخط الأحمر الذي وضعه مؤسس حماس حول حظر نشوب الحرب الأهلية الفلسطينية.
لماذا يجب أن تقدم “فتح على كل هذه الإجراءات “غير الأنانية” و”فوق السياسية”؟
ببساطة لأن تفكك حماس أو فشلها في السلطة، سيؤدي إلى تفكك المجتمع الفلسطيني برمته، وسيفتح الباب على مصراعيه أمام “الخيار الجزائري” في فلسطين.
مضاعفات
هذا على الصعيد الفلسطيني. ماذا الآن عن تأثيرات “تسونامي حماس” على المنطقة العربية؟
مفاعيل انتصار “حماس” قد تثبت أنها هائلة بالفعل. فلا أحد في الشرق الأوسط، بداية، كان يتوقع أن تجري انتخابات نزيهة ونظيفة على هذا النحو في فلسطين. ولا أحد كان يتصّور أن يبدي شعب رازح تحت الاحتلال هذا القدر من النضج الديمقراطي وحس المسؤولية التاريخي، برغم معاناته من غياب السلطة الشرعية المركزية، وتخبطه في لجج انقسامات سياسية وإيديولوجية خطيرة. ثم أن لا احد أيضاً يستطيع أن يدعّي أنه لم يكن ينتظر تلوين الانتخابات الفلسطينية باللون الأحمر القاني.
فلسطين فاجأت الكل. ووضعت العرب جميعاً، شعوباً وأنظمة، أمام الحصيلة المخجلة: شعب مكبل بالأصفاد، يتزعم مسيرة المنطقة العربية نحو الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
كيف يمكن بعد للأنظمة السلطوية العربية أن تبرر أمام شعوبها استمرار تسلطها، بحجة علو صوت المعركة على ما عداها؟ وكيف يمكن للشعوب العربية بعد أن تقبل أكذوبة صوت المعركة، فيما ترى في فلسطين كيف يمكن للديمقراطية الحقة أن تكون هي الصوت المجلجل الأقوى ضد إسرائيل وأميركا؟
ثم: إذا ما تذكرنا أن الإسلاميين لهم وجود سياسي وإيديولوجي قوي في الأردن ومصر وسوريا وتونس والمغرب ومعظم الدول العربية الأخرى، فقد نتوصل إلى الاستنتاج بأن “الأبواب الدولية” ستكون مشرعة على مصراعيها قريباً لخروج الأجنحة المعتدلة لهذه التيارات من السجون والمنافي إلى السلطة والحكم، في حال نجحت التجربة الإسلامية الفلسطينية.
قد لا يحدث هذا اليوم، لكنه سيحدث حتماً غداً. فهذه حتمية تمليها بداهة اللعبة الديمقراطية التي “تميل إلى كشف الحقائق الكامنة”، والتي تثير الآن حنق (وخوف) العديد من الأنظمة العربية المجاورة لفلسطين.
سعد محيو- بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.