التبريـــر والتـغـريــر…
كان المبرر الرئيسي لشن الحرب الأمريكية على العراق خطر امتلاك بغداد أسلحة تدمير شامل، زعمت حكومة بوش أن العراق قد يزود بها الجماعات الإرهابية.
ويتواصل جدل حاد في الولايات المتحدة حول هذه القضية، إذ هناك من يتهم إدارة بوش بالكذب والتضليل!
في أواخر شهر مايو ألقى السناتور الديمقراطي روبرت بيرد، وهو أقدم عضو في مجلس الشيوخ كلمة مدوية أمام أعضاء المجلس قال فيها، “لقد هرعت إدارة الرئيس بوش لغزو العراق استنادا إلى صور مفزعة رسمها المسؤولون الأمريكيون انطلاقا من بشاعة إمكانية استخدام النظام العراقي الأسلحة النووية إلى المخزون المدفون من الأسلحة الجرثومية، وانتهاء بقدرة العراق على توجيه طائرات صغيرة بدون طيارين، لمهاجمة المدن الأمريكية الرئيسية بالجراثيم الفتاكة.
ويواصل السيناتور بيرد قائلا، “لكن كل هذه المزاعم لم تكن تمثل الحقيقة ولم تستطع القوات الأمريكية بعد احتلالها للعراق أن تعثر على أي من أسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق، والآن أصبحت تلك الحرب الاستباقية ضد العراق مثالا على التهور المتسم بعدم المسؤولية في استخدام القوة. فهل تعمد بوش وحكومته تضليل الشعب الأمريكي والعالم؟”
ومنذ ذلك الخطاب، بدأت التساؤلات تتصاعد في أوساط الكونغرس والمخابرات ووسائل الإعلام الأمريكية حول مدى صحة الافتراض القائل، إن حكومة بوش، ربما تكون قد عمدت إلى “فبركة” الأدلة ضد العراق في مجلس الأمن لتبرير قرار الحرب الذي أعد له صقور وزارة الدفاع الأمريكية، وضغط الرئيس بوش على الكونغرس في الخريف الماضي لتمرير المساندة له عن طريق تقديم معلومات قيل إنها من المخابرات الأمريكية تؤكد تطوير العراق لأسلحة الدمار الشامل وتنشيط برنامجه النووي.
وكان آخر جدل حول ذلك، التساؤل بسبب وثيقة تسربت من وكالة مخابرات وزارة الدفاع الأمريكية تقول، إنه لم يكن لدى الوزارة معلومات موثوق بها تثبت أن العراق كان يطور أسلحة كيماوية.
وفي غمار هذا الجدل، صرح مسؤول كبير في وكالة المخابرات الأمريكية أن الزيارات العديدة التي قام بها نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني وأحد كبار مساعديه لوكالة المخابرات الأمريكية CIA قبل خطاب الرئيس بوش للكونغرس في الخريف الماضي وفي الشهور التي سبقت شن الحرب، أشعرت المحللين المتخصصين في شؤون العراق بأن المطلوب منهم هو تقديم معلومات معينة تلائم الأهداف السياسية لحكومة بوش فيما يتعلق بالعراق.
وما أن نشرت وسائل الإعلام الأمريكية هذه التصريحات حتى قررت وكالة المخابرات الأمريكية إجراء استعراض لما حدث داخل الوكالة والتحقق مما إذا كان التقرير البالغ السرية الذي أعدته CIA في الخريف الماضي قد انطوى على التهويل أو المبالغة في تصوير التهديد، الذي كانت برامج أسلحة العراق تشكله.
ونفى وكيل وزارة الخارجية الأمريكية جون بولتون في إفادته أمام لجنة العلاقات الدولية التابعة لمجلس النواب وجود أي محاولة من جانب حكومة بوش للتلاعب بالمعلومات المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل العراقية بهدف تبرير الحرب ضد العراق.
كما سارع دوجلاس فايث، وكيل وزارة الدفاع الأمريكية لشؤون رسم السياسات الدفاعية إلى تكذيب تلك التقارير الصحفية وقال، إنه لا يعلم شيئا عن ممارسة ضغوط من وزارة الدفاع على وكالة المخابرات الأمريكية للتلاعب في المعلومات بهدف دعم فكرة أن أسلحة الدمار الشامل العراقية تشكل خطرا على الأمن الأمريكي.
ولكن أصابع الاتهام تشير إلى وحدة في وزارة الدفاع كان يديرها فايث تسمى “مكتب الخطط الخاصة” وتم إنشاؤها في أعقاب هجمات 11 سبتمبر الإرهابية لمتابعة الصلات بين المنظمات الإرهابية، وتولت هذه الوحدة “فبركة” صلة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة بالاعتماد على معلومات غير موثقة قدمها أحمد الجلبي رئيس المؤتمر الوطني العراقي.
هل يكشف الكونغرس الحقيقة؟
وإزاء فشل القوات الأمريكية في العثور على دليل واحد على أن العراق كان يطور أسلحة دمار شامل في الخفاء، بدأ أعضاء الكونغرس في تسليط الضوء على احتمال أن تكون إدارة الرئيس بوش قد تلاعبت بمعلومات المخابرات لتبرير تعطشها المحموم لشن الحرب على العراق، قبل أن يستكمل مفتشو الأسلحة الدوليون مهامهم.
وتعهد السناتور الجمهوري جون وارنر رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ بإجراء تحقيق شامل حول ما إذا كانت إدارة الرئيس بوش قد تعمدت المبالغة في شأن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل لتبرير الحرب.
غير أن انتماءه للحزب الجمهوري دفعه إلى القول، بأنه يجب منح الرئيس الفرصة الكاملة لتقديم الدليل على حيازة العراق لتلك الأسلحة، خاصة وأن عمليات التفتيش التي تمت بعد احتلال العراق، لم تشمل إلا 30% من المواقع المشتبه فيها.
وأكد الرئيس بوش نفس المعنى في كلمته في قاعدة السيلية في قطر حينما قال، إن شساعة مساحة العراق منح صدام حسين الفرصة لإخفاء ما لديه من تلك الأسلحة، ولكن القوات الأمريكية ستعثر عليها!
كما دعا رئيس لجنة المخابرات في مجلس الشيوخ، السناتور الجمهوري بات روبرتس، إلى إجراء تحقيق في الموضوع لمعرفة حقيقة ما قدمته وكالة المخابرات للرئيس بوش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية.
وقال السناتور الديمقراطي جوزيف بايدن، إن من الأهمية بمكان معرفة حقيقة ما حدث، لأن الدول العظمي تتميز بسمتين، أن تكون لها كلمتها وأن تتسم بالمصداقية، وما لم يتم العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق، ستكون مصداقية الولايات المتحدة في العالم محل تساؤل.
أما السناتور الديمقراطي بوب غراهام الساعي إلى الحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي لخوض معركة انتخابات الرئاسة القادمة عام 2004 فقال، إن وجود تلاعب في معلومات المخابرات، ربما يفسر عدم العثور حتى الآن، وبعد شهرين من انتهاء الحرب في العراق، على أي دليل على حيازة أسلحة الدمار الشامل. وقال، إن الرئيس بوش سيتحمل شخصيا المسؤولية إذا تبين حدوث مثل هذا التلاعب بمعلومات المخابرات لتبرير شن الحرب على العراق.
ولعل أفضل موقف حكيم يعبر عن واجب الكونغرس في كشف حقيقة ما حدث هو ما قاله السناتور الديمقراطي روبرت بيرد البالغ من العمر 85 عاما: “لا يوجد شيء يبرر الكذب الذي انطوى على إراقة دماء الجنود الأمريكيين، وإلحاق الدمار بالمدنيين العراقيين الأبرياء، سواء كان ذلك السبب هو البترول أو الانتقام أو الرغبة في الفوز بفترة رئاسية ثانية، ولا حتى الحلم الوهمي بنظرية أن إقامة الديمقراطية في العراق سينشرها في دول المنطقة الواحدة تلو الأخرى، وفي نهاية المطاف ستنكشف الحقيقة وعندئذ سيتهاوى البيت المصنوع من أوراق الخداع”.
ثمن التضليل في لندن وواشنطن
وفيما يرى المحللون السياسيون أن الضغوط المتزايدة على رئيس الوزراء البريطاني توني بلير من خلال المطالبة بتشكيل لجنة مستقلة من أعضاء مجلس العموم للتحقيق فيما إذا كان بلير قد ضلل الشعب والبرلمان لتبرير الحرب ضد العراق، قد تكلف رئيس الوزراء البريطاني ثمنا سياسيا باهظا، يعتقد هؤلاء المحللون أن سيطرة الجمهوريين على الكونغرس واستمرار ارتفاع شعبية الرئيس بوش ستحول دون أن تتحول جلسات الاستماع في لجان التحقيق إلى منابر لإحراج الرئيس الأمريكي الذي يستعد لخوض حملة رئاسية ثانية في بداية العام المقبل.
ولكن هذا الوضع قد يتغير، ويمكن أن يدفع الرئيس بوش ثمنا سياسيا باهظا هو الآخر، إذا استمر التدهور في الأحوال العراقية وتحول الموقف هناك إلى فوضى شاملة، خاصة إذا تفاقمت عمليات قتل الجنود الأمريكيين في العراق.
ويقول المحلل السياسي الأمريكي بول كروغمان، “لقد أبلغت حكومة بوش الشعب الأمريكي أن صدام حسين يشكل خطرا محدقا وفوريا. فإذا ثبت أن هذا الزعم كان مزورا، فإن تبرير قرار الحرب بذلك الزعم سيكون أسوأ فضيحة في التاريخ السياسي الأمريكي، أسوأ من فضيحة “ووترغيت”، ومن فضيحة “إيران- الكونترا”.
ويستنتج كروغمان “إذا افترضنا أن حكومة بوش خدعت الشعب فيما يتعلق بالحرب في العراق ولم تتحمل المسؤولية عن خداعها، وتمكن بوش من خوض معركة انتخابات الرئاسة في العام القادم، ساعتها، سيكون النظام السياسي الأمريكي قد أصبح بشكل قاطع، وغير قابل للتغيير، نظاما سياسيا فاسدا”.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.