التحالفات السياسية في مهبّ الريح
يبدو أن الانتخابات البلدية التي عرفها المغرب يوم 12 سبتمبر 2003 ستتحوّل إلى نقطة سوداء في التاريخ السياسي للمملكة.
فقد كشفت عملية اختيار عُـمدة المدن الكبرى عن وهَـن التحالفات السياسية المغربية وعن اختلالات داخلية في صفوف الأحزاب الرئيسية.
كان السيد محمد بوستة، الأمين العام السابق لحزب الاستقلال يرافق مؤسس الحزب وزعيمه علال الفاسي في زيارته إلى رومانيا عام 1974، حيث أصيب بنوبة قلبية أدرك أنها اللحظات الأخيرة من حياته، فبدأ يتلو على بوستة وصاياه.
ومن بين الوصايا التي حفظها محمد بوستة عن علال الفاسي في تلك اللحظات، ضرورة إقامة علاقة تحالف بين حزب الاستقلال وصنوه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لأن في التحالف الاستقلالي الاشتراكي تقدما للمغرب وفي التباعد بينهما وبالا عليه.
هذا ما أدلى به السيد محمد بوستة إلى سويس انفو بُـعَـيد وصول الأنباء عن انتخابات عمدة مدينة الدار البيضاء والتي فاز بها أحمد ساجد، مرشح الاتحاد الدستوري اليميني المعارض، وقد كان فوزا مفاجئا وساحقا بعد حصوله على 86 صوتا مقابل 45 لمرشح حزب الاستقلال، وزير التجهيز والنقل كريم غلاب.
جاءت انتخابات عمدة الدار البيضاء بعد 24 ساعة من انتخابات عمدة الرباط التي خسر فيها أحمد الريح، مرشح الاتحاد الاشتراكي (21 صوتا)، وفاز بها عمر البحراوي، مرشح الحركة الشعبية (يمين أغلبية حكومية) بـ 60 صوتا. وقبل الدار البيضاء والرباط، خسر حزب الاستقلال في مراكش منصب العمدة الذي آل أيضا إلى الاتحاد الدستوري.
حصيلة انتخاب العمدة في المدن المغربية الست الكبرى (اغادير/ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فاس/ حزب الاستقلال، مراكش والدار البيضاء/ الاتحاد الدستوري، الرباط /الحركة الشعبية، وفي طنجة فاز مرشح لا منتمي)، كشفت عن وهن التحالفات السياسية المغربية، وأيضا عن الخلل الداخلي الذي تعيشه الأحزاب والرئيسية منها تحديدا.
توافق سياسي لم يُـنجز
أعطت الانتخابات البلدية التي جرت يوم 12 سبتمبر خريطة “مبلقنة” للجماعات المحلية، ونادرا ما حصل حزب من الأحزاب على أغلبية مريحة في أية بلدية من بلديات المدن، وهو ما يجبر كل حزب يطمح في الفوز برئاسة المجلس البلدي بالتحالف مع أحزاب أخرى، ولأن التحالف السياسي في المغرب لا ينطبق إلا على حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال ومعهما حزب التقدم والاشتراكية الذين يجمعهم تحالف الكتلة الديمقراطية من جهة، وتحالف الأغلبية الحكومية من جهة أخرى، ولأن حصيلة أحزاب الكتلة عدديا لا تسمح بتحقيق رغبة أي من أحزابها في الفوز برئاسة هذه البلدية أو تلك، فإن توافقا تـمّ على خلق تحالف انتخابي على أساس الأغلبية الحكومية (الاتحاد الاشتراكي، الاستقلال، التجمع الوطني للأحرار والحركات الشعبية) التي فازت بأكثر من 70% من المقاعد المتنافس عليها.
كان التوافق يستند على أساس دعم مرشح الحزب المحصل للعدد الأكبر في المجلس، لكن الاتحاد الاشتراكي أصـرّ على استثناء الدار البيضاء لرغبة مُـلحّـة لدى عضو مكتبه السياسي، خالد عليوة في احتلال منصب العمدة في أكبر المدن المغربية، وهو ما رفضه حزب الاستقلال الذي احتل المرتبة الأولى في المدينة. فانفرط عقد التحالف، وبحث كل حزب بوسائل مختلفة عن كيفية حصوله على رئاسة مجلس المدينة أو العمدة في المدن الست الكبرى.
كانت التحالفات هجينة، باستثناء ذلك الذي أقيم في أغادير. ففي الرباط تحالفت كل أحزاب الأغلبية بمن فيهم حزب الاستقلال ومعهم أحزاب اليسار الراديكالي وحزب العدالة والتنمية الأصولي لدعم مرشح الحركة الشعبية ضد مرشح الاتحاد الاشتراكي الذي لم يصوت لفائدته إلا حزب التقدم والاشتراكية.
وفي فاس انسحب ممثلو الاتحاد الاشتراكي ليخوض حزب الاستقلال الانتخابات وحده، وفي الدار البيضاء دعم الاتحاد الاشتراكي وحزب التقدم والاشتراكية مرشح حزب الاستقلال، دون أن يؤمنوا له الفوز، وفي طنجة نجح المرشح اللامنتمي برهان الدرهم من تحقيق أغلبية حوله ضمنت له الفوز بمنصب العمدة.
الصراعات الداخلية
وفي كل مرة، كان الحزب الخاسر يسارع في إلقاء اللوم على حلفائه، واتهام السلطات بالتدخل لصالح خصمه، لكن لا أحد من الأحزاب استطاع أن يتحدث صراحة عن خيبته وصراعاته الداخلية. فمرشح الاتحاد الاشتراكي في الدار البيضاء كان من “غير المرغوب” وجوده في المدينة، وممثلو حزب الاستقلال في مراكش انقسموا على أنفسهم في الترشيح، ثم في التصويت والانسحاب.
لذلك، ما أن اكتملت عملية تشكيل هياكل الجماعات المحلية (المجالس البلدية) المغربية، حتى تركت وراءها خلخلة في الأوضاع الداخلية لكل حزب، وأيضا خلخلة في العلاقات بين الأطراف الأساسية للفعل السياسي المغربي قد تُـودي بالتحالف الحكومي القائم منذ خريف العام الماضي بقيادة إدريس جطو، الوزير الأول وهو ما هدد به البعض فعلا.
ومما قد يُـؤجّـل انفجار هذا التوتر الحزبي الداخلي المُـتصاعد، الاستمرار في إجراء عملية انتخاب الهياكل الإقليمية والجهوية المختلفة، واختيار ثلث أعضاء مجلس المستشارين الذين يُـشكّـل منتخَـبو الجماعات المحلية قاعدته الانتخابية.
فطموحات الأحزاب أو الأفراد في ضمان مواقع في المجالس الإقليمية أو الجهوية (التي تُـشرف علي تسيير الشؤون العامة في المحافظات والأقاليم) أو مقعد في مجلس المستشارين (الغرفة الثانية للبرلمان)، يظل صمّـام الأمان المؤقت لقيادات هذه الأحزاب لعلها تتمكّـن من استيعاب التوترات الداخلية وتنفيسها، وتبقى في نفس الوقت صمام أمان مُـؤقّـت لإدريس جطو قد يساعده على إعادة النظر الهادئ في تركيبة حكومته على المستويين الشخصي والسياسي، خصوصا بعد أن كثُـر الحديث عن تعديل أو تغيير حكومي قريب.
ومع افتراض أن تنجح قيادات الأحزاب الرئيسية ومعها إدريس جطو في احتواء أو استيعاب التململ القائم، فإن المؤكد هو أن العمل الحزبي كقيمة جماعية، والعمل السياسي كقيمة لخدمة المواطن، سيكون الضحية الأبرز لانتخابات 12 سبتمبر في بلد يعرف الكثير من مخاطر الانزلاق بعد أن كُـشِـف عن حجم الجماعات الأصولية المتشددة، وأيضا عن الفساد المستشري في مؤسسات الدولة الأساسية.
محمود معروف – الرباط
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.