الحرب بين مالي والطوارق.. هل يحرق شـررها المنطقة برمَّـتها؟
شكَّـل اندِلاع القتال في شمال مالي، بين المتمرِّدين الطوارق وقوات الجيش النظامي المالي، تطوُّرا طبيعيا في مسار الحشْـد والتَّـعبئة، الذي عرفته المنطقة منذ سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي ومقتله في العشرين من شهر أكتوبر 2011، وعودة مئات المسلّحين الطوارق بأسلحتهم إلى إقليم أزواد في شمال مالي.
عودة القتال هذه المرة، تختلِـف عن سابِقتها من ثورات سكان الطوارق. ففي السابق، كانت المنطقة مسرحا لصِـراع لاعبيْـن رئيسييْـن، هما الجيش الحكومي المالي وحركة المتمرِّدين الطوارق. واليوم، يوجد لاعب ثالث على أرض المعركة، لا يقِـلّ أهمية عنهما، ويتعلق الأمر بتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي، الذي يبسط سيْـطرته على أجزاء واسعة من شمال مالي، يُـقيم فيها معسكراته ويُـسيِّـر دورياته ويأوي إليها برهائنه، الذين يختطفهم من دول الجوار.
وقد استطاعت القاعدة فرْض خِـطابها المتديِّـن على أجندة الأزمة الأزوادية، عبْـر الخطاب الجهادي المتديِّـن الذي تبنّـته حركة “أنصار الدِّين” بقيادة الزعيم التاريخي للمتمرِّدين الطوارق “إياد غالي”، والذي بات على مسافة قريبة من الأرضية الأيديولوجية للقاعدة والحركات الجهادية عبْـر العالم.
مَـن هُـم المتمرِّدون الطوارق؟
إن أي قِـراءة لوضعية الصِّراع هناك، تتطلَّـب الوقوف، ولو بقدْر يسير من الإختصار على حقيقة أطراف الصِّـراع. فعلى مستوى الطوارق، توجد جبهتان رئيسيتان تخُـوضان الحرب ضدّ الجيش المالي، وهما “الجبهة الوطنية لتحرير أزواد” و”حركة أنصار الدين”.
ويقود جبهة تحرير أزواد، مجلس تنفيذي سياسي، غير أن قيادتها العسكرية الميدانية بِـيد ضابط سابق في الجيش الليبي، هو العقيد “محمد أغ ناجم”، وتضم في صفوفها مئات المقاتلين العائدين من ليبيا وبعض أنصار زعيم الحرب الطوارقي إبراهيم باهانغا، الذي توفي في حادث سيْـر العام الماضي، فضلا عن بعض المستقلِّـين وعشرات الضباط والجنود المنشقِّـين عن الجيش النظامي في مالي، وإليها تُـنسب معظم الهجمات الأخيرة في الشمال الشرقي والشمال الغربي من البلاد، مثل مدن منيكا وتساليت، على الحدود مع النيجر، ومدينة ليرة على الحدود مع موريتانيا.
وتعتمد هذه الحركة، عقيدة سياسية وطنية، حيث تضمّ خليطا من اليساريين والقوميين والقبليين والمستقلِّـين، وترفع هدفا واحدا تسعى لتحقيقه، وهو استقلال إقليم أزواد عن شمال مالي. وتصنف الحركة في أدبياتها، الجيش المالي كجيش احتلال، وتسعى هذه الحركة لتسويق خطابها للعالم، باعتبارها حركة تحرّر، لا علاقة لها بتنظيم القاعدة الذي ينتشِـر في منطقتها، وتحمل الحركة حكومة باماكو مسؤولية وجود القاعدة هناك وتتّـهمها بالتعاون معها ضدّ السكان المحليين، بل إن بعض قادة الحركة أعلنوا أكثر من مرّة استعداهم لطرد القاعدة من إقليم أزواد وتشكيل مليشيات مسلّحة لهذا الغرض، أسوة بتجربة الصّحوات القبلية في العراق. إنهم تلقوا الدّعم اللازم لذلك، غير أنه مما يؤخذ على الحركة الوطنية لتحرير أزواد، بُـعدها القلبي، حيث تتألف أساسا من قبائل “الايدنان” الطوراقية، ومجموعات قليلة من قبائل “الايمغاد”، بينما لا يوجد حضور يُـذكر لباقي القبائل الطوارقية والعربية فيها.
أما الفصيل الثاني، فهو “حركة أنصار الدين”، والتي أسَّسها زعيم المتمرِّدين الطوارق السابق والقنصل العام لجمهورية مالي في المملكة العربية السعودية بجدة “إياد أغ غالي”. وترفع هذه الحركة شعار تطبيق الشريعة الإسلامية في الإقليم وإعادة الاعتبار لعُلماء الدِّين. وتتميَّـز بالالتزام الدِّيني لقادتها، وتتّهِـمها الحكومة المالية بالتّعاون مع عناصر تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي. وتضم “حركة أنصار الدين” في صفوفها، العشرات من المقاتلين العائدين من ليبيا وعناصر أزوادية، كانت تُـقيم هناك.
ويؤخذ على هذه الحركة هي الأخرى، بُـعدها القبلي، حيث تعتمِـد أساسا على مقاتلين من قبائل “الإيفوغاس” الطوارقية. وينظر الكثيرون إلى خطابها الدِّيني بشيء من الرّيبة والشكّ، ولم توضح الحركة بعدُ حقيقة موقِفها من تنظيم القاعدة وعلاقتها به، وإن كان بعض المراقبين في المنطقة يصنِّـفها على أنها نُـسخة معدّلة من القاعدة. وتُـعتبر هذه الحركة هي المسؤولة عن الهجوم الذي تعرّضت له مدينة “أغلهوك” في أقصى الشمال المالي، وقتل فيه عشرات من القوات المالية.
طوارق مالي.. والقذافي
في الواقع، تشكّل عودة الحرب اليوم في شمال مالي، نتيجة حتمية للأوضاع السائدة هناك، خصوصا بعد رحيل نظام العقيد الليبي معمر القذافي، الذي يقول مستقِلون طوارق، إنه ظلّ ردحا من الزمن، أكبر عقبة تواجهها القضية الطوارقية.
فقد أغرى الحركات الطوارقية في مالي والنيجر خلال العقود الماضية، بإرسال عناصرها للتدريب في ليبيا، وهناك اكتسبهم في الجيش الليبي ليتحوّلوا لاحقا إلى قوات النّخبة فيه، بعد أن أصبحوا محلّ ثقة القذافي، الذي لم يكن يأمن مكْـر القبائل العربية الليبية، فمكَّـن لوحدات الطوارق في الجيش الليبي، تسليحا وتدريبا، على أمل أن يحموه إن ثارت عليه القبائل العربية، بل أن القذافي عمد إلى إرسال بعض المقاتلين من الطوارق إلى جنوب لبنان إبّان الإجتياح الإسرائيلي لبيروت بداية ثمانينات القرن الماضي، فمات بعضهم هناك وعاد آخرون. كما سعى القذافي إلى شراء ذِمم قادة الطوارق بالمال والجاه، وفرض عليهم الإقامة في ليبيا، ليبقى الشمال المالي مسرحا لنفوذه عبْـر قنصلية كان يُـقيمها في مدينة “كيدال”، بأقصى شمال مالي، ومنها كان يدير شؤون تلك المنطقة.
بعد رحيل القذافي وعودة آلاف المقاتلين الطوارق الذين قاتلوا معه، هَـربا من انتقام الثوار، وجد الطوارق أنفسهم أمام واقع جديد. فقد غاب القذافي وما عاد هناك بُـدّ من الرجوع إلى أزواد. وعشية العودة إليه، عادت الحرب من جديد.
تداعيات إقليمية
ومع استمرار الحرب، بدأ شررها يتطاير نحو دول الجوار. ففي النيجر، تبدوا لُـعبة الحرب مؤجّـلة إلى أجل قريب، حسب توقّعات المراقبين. فالوضعية في النِّـيجر تكاد تكون نُـسخة من الوضعية في مالي. فهناك أقلية طوارقية مُـضطهدة، عانت على مدى عقود من الإبادة والتّـنكيل والتهميش، خصوصا وأن مناطِقها تُـعتبر بُـؤرة المناجم التي تشكّـل العمود الفقري للاقتصاد النيجري، كما شهِـدت أقاليمها الغربية والشمالية المُـحاذية لليبيا ومالي، عودة مئات المقاتلين الطوارق بأسلِحتهم، كما هو الحال في شمال مالي. ولا يستبعد المراقبون أن يكون اندلاع المعارك في النيجر مسألة وقت، نظرا للترابط الحميم بين قضيتيْ مالي والنيجر ولتشابُـه الوضعيتين إلى حدِّ الإستِـنساخ والترابط الجغرافي والقبلي والعِـرقي والتاريخي، بين طوارق مالي والنيجر.
أما الجزائر، التي توجد في أقاليمها الجنوبية امتدادات للطّوارق، فقد سعت للنأي بنفسها عن الحرب عبْـر وقف تزويد الجيش المالي بالسّلاح، والذي كانت تُـبرِّره سابقا بمُحاربة تنظيم القاعدة، كما سحبت خبراءها العسكريين من شمال مالي، وبررت (الجزائر) تلك الخطوة، بأنها تخشى أن يُـستخدم سِـلاحها أو خدمات خبرائها في حرب الجيش المالي ضدّ المتمردين الطوارق، لكن في المقابل، رفضت استقبال بعض الجرحى من المتمرّدين الطوارق، وأعلنت عدم استعدادها لدعم أيٍّ من الطرفيْـن، وإن كان البُـعد الشعبي للطوارق في جنوب الجزائر سيمنح المتمرّدين فرصة أكثر للإستفادة من العُـمق الجزائري. لكن المراقبين يعتقدون أن الجزائر قد تنتظر فرصة إنهاك الحرب للطرفيْـن (المتمردين الطوارق والجيش المالي)، قبل أن تتدخّل وسيطا، لتفرض شروطها على الجميع.
أما موريتانيا، التي بدا موقِفها أكثر مُـيولا نحو المتمرِّدين، فقد رفضت هي الأخرى أن تصنَّـف كطرف في الصراع. لكن تصريحات وزير خارجيتها حمادي ولد حمادي، الأخيرة والتي نفى فيها وجود أي علاقة بين المتمرِّدين الطوارق وتنظيم القاعدة، وقال فيها “إن الطوارق يقاتِلون من أجل قضية عادلة”، فقد دفعت الماليين إلى الاستياء والتشكيك في الموقف الموريتاني، كما أن السرعة الفائقة التي استقبلت بها موريتانيا آلاف اللاجئين الطوارق الذين فرّوا من أتون الحرب إلى أراضيها، جعلت الماليين يشكِّكون فيها ويُـلمِّحون إلى أن تلك التسهيلات المُبالَـغ فيها، جاءت للتغطِـية على إدخال بعض المتمرِّدين وقادتهم إلى الأراضي الموريتانية، خصوصا في ظلّ وجود بعض قادة الجناح السياسي للمتمرِّدين في نواكشوط، بمَن فيهم وزير منشقّ من الحكومة المالية ينحدِر من الطوارق، تمكَّـن من الهروب في موْكِـبه ودخل الأراضي الموريتانية. غير أن حكومة نواكشوط تُـصر على أن استضافتها للطوارق، مشروطة بعدم ممارسة أي نشاط ضدّ الحكومة المالية انطلاقا من أراضيها، وهو ما لا تطمَـئِـن إليه باماكو حتى الآن.
انعكاسات الصراع على محاربة الإرهاب
تداعِيات الحرب بين المتمرِّدين الطوارق والجيش المالي، ستكون لها انعكاساتها الكبيرة والجذرية على الحرب ضدّ الإرهاب في المنطقة، ومواجهة عصابات الجريمة المنظّمة هناك.
فبعد أن كان من السهل رصْد المجموعات المسلّحة التي تجوب الصحراء وتصنيفها كجماعات إرهابية أو عصابات تهريب، تحوّلت المنطقة اليوم إلى مسرح للمجموعات المسلّحة المتمرِّدة، الأمر الذي يزيد من صعوبة مراقبة تلك المجموعات وملاحقتها، خصوصا وأن الدول المُهتمّة بملاحقة جماعات القاعدة والمهرّبين، تسعى للنّأي بنفسها عن التورّط في أتون الحرب بين الطوارق والحكومة المالية، كما أن عمل الأجهزة الإستخباراتية، المحلية والدولية، سيزيد تعقيدا بفِعل ارتفاع منسوب التوتر في المنطقة، هذا فضلا عن أن المنطقة أصبحت جحيما لا يمكن التفكير في تنفيذ عمليات خاصة فيه ضد المجموعات المسلحة، بل إنه لم يعُـد متاحا السعي لملاحقة مقاتلي القاعدة والمهرّبين داخل ذلك المجال الجغرافي، كما درجت على ذلك القوات المسلحة الموريتانية خلال السنوات الماضية.
فقد تحوّل إقليم شمال مالي إلى أرض مُـتنازع عليها وباتت السيادة فيها للسلاح، فضلا عن أن القاعدة وعصابات التهريب ستتوفّر على أجواء مناسبة للإختطاف وإخفاء الرهائن بفعل زيادة الفوضى وحالة الإقتتال السائدة في المنطقة، هذا مع استفادتها المُـحتملة من حركة تجارة وتهريب السلاح، التي هي إحدى النتائج الحتمية للصراع المحتدم فيها.
يضاف إلى ذلك، انشغال مالي في حربها الجديدة عن التنسيق مع دول الجوار لملاحقة القاعدة، وأي حرب ضد القاعدة لا توجد مالي في مقدّمتها، لن تكون ذات جدوى، باعتبار أن مالي هي البلد الذي تستضيف أراضيه معسكرات التنظيم، وفيه تتمركز الأهداف المستهدفة من طرف القوى الإقليمية والدولية، الساعية لمحاربة القاعدة وجماعات التهريب والجريمة المنظمة، كما أن حساسية الوضع واتِّهام بعض دول المنطقة بدعم المتمرِّدين الطوارق (كما هو الشأن بالنسبة لموريتانيا)، أو دعم الحكومة المالية (كما هو الحال بالنسبة للسنغال)، قد يشكِّل عقبة في وجه التنسيق بين حكومات المنطقة التي تسعى لمحاربة تنظيم القاعدة.
شكّل استقلال جمهورية مالي عن الإستعمار الفرنسي مطلع ستينيات القرن الماضي، بداية لظهور مطالبة السكان المحليين في إقليم أزواد بالاستقلال عن دولة مالي الأم، وظهرت حينها حركات انفصالية تُـطالب بوضع حدٍّ لتبعية الإقليم المؤلف من ثلاث ولايات، هي تيمكتو وغاوه وكيدال عن مالي، غير أن الرئيس المالي الأسبق موديبو كيتا، قمع تلك الحركة بقسوة وشتت الطوارق في دول الجوار وساعدته في ذلك حكومات إقليمية، خصوصا الجزائر والمغرب، حيث عمدت هذه الأخيرة سنة 1962 إلى تسليم باماكو قائد الحركة الانفصالية محمد علي الأنصاري وعددا من رفاقه.
واستمر الوضع غير مُـستقِـر إلى أن اندلع ما عُـرف بانتفاضة الطوارق الثانية نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وكانت أشرس مراحل المواجهة بين الحكومة المالية والمتمرّدين الطوارق وبمشاركة متمردين من القبائل العربية في الإقليم، وقد واجه الرئيس المالي حينها موسى تراوري تلك الانتفاضة بقمع وحشي، تمثل في عمليات قتل جماعي واغتصاب وتنكيل، مارسهما الجيش المالي ومليشيات، مكن قبائل السوغاي الإفريقية سلحتها الحكومة المالية، حيث تم إحراق القرى الأزوادية وأُبِـيدت حيواناتهم وقُـتل المئات منهم وشُـرِّد الآلاف.
وقد انتهت تلك المرحلة باتفاق وقع في الجزائر سنة 1992 بين الحكومة المالية وقادة حركات التمرّد، تعهّدت فيه الحكومة المالية بتخصيص نِـسب كبيرة من الدّخل القومي لتنمية الشمال ومنح أبنائه نِـسبا معتبرة في الجيش والوظائف الحكومية، مقابل وضع المتمردين السلاح وإنهاء الحرب، غير أن الحكومة المالية نكثت في تعهّداتها وظلّ إقليم أزواد مَـرتَـعا لعصابات الجريمة والتهريب، دون أن تقيم فيه الحكومة المالية والشركاء الدوليون أية مشاريع تنموية، مما دفع بعض قادة الطوارق إلى حمل السلاح من جديد سنة 2006 والعودة إلى التمرد، حيث قاد الزعيمان إبراهيم باهنغا وحسن فغاغا وحدات من المتمردين وشنّوا هجمات على معسكرات الجيش المالي، قبل أن تتدخّل الجزائر وليبيا، وينتهي التمرّد باستضافة القذافي لقادة الطوارق وعودة مالي للتعهد من جديد بتنمية الإقليم.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.