الحصار والجدار وأشياء أخـرى!
يودع الفلسطينيون العام وقد أضافوا إلى ذاكرتهم المثقلة بصور الدم والقتل والدمار حملا زائدا يثير المخاوف من احتمالات تبدد فصول المعاناة الأخيرة أمام تسويات سياسية قاصرة.
وظلت التناقضات الداخلية ودوامة العنف تطبع كل محاولة دولية أو إقليمية للخروج من مأزق الدائرة المغلقة..
ما كاد موسم الاغتيالات وإعادة الاحتلال الذي ميز العام الماضي أن ينكفأ، حتى راحت دعوات الإطاحة بقيادة الرئيس ياسر عرفات تأخذ أول منحى جدي على الأرض مع خضوع الزعيم الكاريسماتي السبعيني للضغوط الدولية باستحداث منصب رئيس وزراء للسلطة الفلسطينية.
وفي غمرة الأحداث المتلاحقة على ارض الميدان، وفي المحافل السياسية، ظلت صورة المواجهة الدامية قوية قاسية تطبع كل محاولة دولية أو إقليمية للخروج من مأزق الدائرة المغلقة.
وبالرغم من جو التفاؤل الوهمي الذي أثاره تعيين محمود عباس (أبو مازن) في منصب أول رئيس وزراء فلسطيني، لاسيما رد الفعل الأمريكي، إلا أن التفاعلات المحلية داخل القيادة الفلسطينية والضغط الإسرائيلي الثقيل مضاف إليهما، اندلاع الحرب في العراق وتداعياتها، كانت كلها تعيد صورة الوضع إلى المربع الأول .. الدموي.
ليس ثمة معادلة اكثر إثارة للتحريض والانفجار: زعيم وطني، هو عرفات قوي ومحاصر، لكن مهدد بالإطاحة، وشعب يرزح تحت نيران الاحتلال، وشريك جديد في قيادة الشارع اسمه حركة حماس يتطلع نحو النفوذ والسلطة.
وحتى تكتمل فصول لعبة النار هذه، استمرت إسرائيل توقد حطبا بإطلاق مشروع الجدار الفاصل على الأرض الملتهبة أصلا، ومواصلة حرب الاغتيالات والإبادة العمرانية، وتشديد الحصار على الأراضي الفلسطينية.
كل ذلك جميعا غلف بطابع المبادرة السياسة الرئيسية والوحيدة، ألا وهي خطة خارطة الطريق الأمريكية الصنع والدولية اللغة، دون إغفال مبادرة جنيف غير الرسمية التي صبت نارا على زيت الانقسامات الفلسطينية، وفي ذات الوقت الذي أثارت فيه حراكا سياسيا في إسرائيل.
الرئيس ورئيس وزرائه
لم تدم فترة حكومة محمود عباس، أول رئيس وزراء فلسطيني، سوى مائة وثلاثين يوما، لكنها كانت حافلة بمختلف التناقضات والخلافات والنتائج التي طبعت العام المنصرم، بل إنها فتحت الطريق لفصل جديد في تاريخ السياسة الفلسطيني الحديث.
مع تنصيب عباس، أعلنت الإدارة الأمريكية خطة خارطة الطريق ودفعت الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، نحو محادثات جديدة لم تسفر سوى عن هدنة من طرف الفصائل والحركات الفلسطينية مقابل تخفيف محدود وخجول للحصار الذي تضربه إسرائيل على الفلسطينيين.
خمسون يوما من الهدنة انهارت أمام استئناف إسرائيل لعمليات اغتيال النشطين الفلسطينيين لتعود ساحة المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية إلى سابق عهدها في الكر والفر.
الانهيار مجددا نحو المواجهة، صاحبه انهيار من نوع آخر في علاقة الرئيس عرفات ورئيس وزرائه الجديد ورفيق دربه القديم محمود عباس. راحت التفاعلات الداخلية تنمو وتطور على وقع التناقضات الخارجية والضغوط الإسرائيلية والأمريكية.
كان محمود عباس يعمل على إعادة تنظيم الوضع الداخلي والتحضير لمحادثات جدية مع الجانب الإسرائيلي، لكن إسرائيل كانت تطالبه بأمر واحد: الانقضاض على المقاومة الوطنية والإسلامية، وما كان يستطيع أن يفعل.
وفي ذات الوقت، كانت محاولاته لتحسين الوضع الداخلي تصطدم باستمرار الاحتلال على الأرض وبالتناقض مع عرفات من جهة أخرى. لم يكن وجود عباس في منصبه يعنى لعرفات، الزعيم المخضرم، سوى محاولة لإقصائه.
وما كان الرجل البعيد عن ألاعيب السياسة والسلطة والقيادة يطيق مثل هذا الضغوط، حتى وقع سريعا ضحية لقلة خبرته ولقوة ودهاء الخصم، سواء الخارجي الإسرائيلي أو الخصم الوهمي المحلي، الرئيس عرفات.
سقطت حكومة عباس سريعا كما جاءت، ومعها سقط الوهم بإمكانية التقدم مجددا نحو ساحة المفاوضات والسياسة بعيدا عن دائرة العنف والعنف المضاد، وراحت الأسباب والظروف تتهيأ لانقلاب جديد على ارض المواجهة المتواصلة أبدا.
ظل عرفات في مكانه رابحا جولة، لكن محاصرا ضعيفا، وبقي منصب رئيس الوزراء يؤسس لمرحلة جديدة في عمر السياسية الفلسطينية مجهولة المعالم. وانكفا مشروع خطة خارطة الطريق، وخرجت حماس من تجربة الهدنة والتناقضات الداخلية أقوى من أي وقت مضى.
حماس والجدار .. وأشياء أخرى
كانت عيون عرفات منصبة على استعادة دفة القيادة من جديد ومن داخل مقر المقاطعة المدمر. وعندما وقع سريعا على خطاب استقالة عباس، كان يعرف تماما أن قلب الإدارة الأمريكية مرتبط بنار العراق، وان رئيس الوزراء الإسرائيلي العنيد ارييل شارون لم يجد في عباس من يريد وما يبغي.
تبدلت الظروف سريعا، ولم يعد منصب رئيس الوزراء يغوي أطراف اللعبة ولا منصب الرئيس كذلك. كان شارون منشغلا في بناء الجدار الذي يعتقد انه سيحقق له على الأرض ما لن تحققه المفاوضات والمحادثات.
شارون، الجنرال ورجل الحرب، يدرك أن الأمر الواقع والمتغيرات على ارض الميدان هي طريقه لتحقيق ما يريد، ولم تشغله لعبة القيادة على الساحة الفلسطينية، إلا بقدر ما كانت تخدمه في تكثيف الاستيطان والمضي في بناء الجدار الفاصل الذي سيعطيه دولة الكانتونات الفلسطينية.
تكاثرت الأهداف والتناقضات أمام القيادة الفلسطينية، فلا هي عارفة كيف سترد على الضغوط الدولية والإقليمية بالإصلاح ووقف المقاومة، ولا هي كذلك قادرة على رد العدوان الإسرائيلي الآخذ بالتصاعد وتعدد الأشكال، لاسيما الحصار والجدار.
وراح رئيس الوزراء الجديد، المحنك والماهر، يتحرك على ارض من الرمال المتحركة والألغام. يناكف رئيس الوزراء الإسرائيلي على شروط عقد لقاء القمة وهو يدرك أن السير على خطة سلفه سيدفع ثانية نحو الخلافات الداخلية.
لكن اللعبة تخون، وعلى غير توقع لم يجد قريع احتمال تحقيق هدنة جديدة ليضغط بها على شارون أمرا سهل المنال، وكم كانت صدمته في القاهرة عندما وجد أن النطق والحال قد تغيرا ولم يعودا كما كانا قبل وقت قصير.
حماس ما عادت حماس التي تريد أن تقاوم فقط، الحركة الإسلامية التي كانت تعتبر جميع الإسرائيليين جنودا وأهدافا، راحت تتحدث عن مدنيين إسرائيليين وتعقد حوارات منفصلة مع مندوبين (غير رسميين) ولكن أمريكيين.
لم يعد يرضي حماس ما كان يرضيها داخل ثوابت البيت الفلسطيني الواحد. فهي تريد تغيير منظمة التحرير، ولا تعترف بقدرة السلطة على القيادة في الداخل، مضيفة تناقضا داخليا غير مسبوق أمام الحركة الوطنية الفلسطينية.
نامت فلسطين في آخر ليل 2003 على أسوإ ما استيقظت عليه: انقسام داخلي كامن يهدد الوضع المهلل والضعيف أصلا.
هشام عبد الله – رام الله
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.