الصين وأمريكا: حليفان أم عدوان؟
لماذا اختار دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي، أن يطلق من بكين بالذات تحذيراته للصين بأنها "ستخسر كثيراً إذا ما قررت استخدام قوتها العسكرية المتنامية بسرعة بأساليب تهدد الآخرين"؟
يعني ذلك أن أمريكا شعرت بالفعل بقلق شديد من المعلومات التي تقول إن الميزانية العسكرية الصينية تبلغ 90 مليار دولار…
لماذا اختار دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي، أن يطلق من بكين بالذات تحذيراته للصين بأنها “ستخسر كثيراً إذا ما قررت استخدام قوتها العسكرية المتنامية بسرعة بأساليب تهدد الآخرين”؟
هل يعني ذلك أن أمريكا شعرت بالفعل بقلق شديد من المعلومات التي تقول إن الميزانية العسكرية الصينية تبلغ 90 مليار دولار، (وليس 29 ملياراً كما أعلنت بكين)، فقررت بدء التحرك لتصنيف بلاد الهان على أنها خطر إستراتيجي؟ أم أن الأمر كله لا يعدو، كونه محاولة لوضع هذا النمر الأسيوي الكبير المتنامي في قفص محكم الإغلاق؟
سنأتي إلى هذين السؤالين بعد قليل. لكن قبل ذلك، إشارة إلى أن واشنطن، وقبل فترة طويلة من تصريحات رامسفيلد، تتصرف بما يشبه “الشيزوفيرانيا” (إنفصام شخصية) مع الصين.
ففيها فريق يرى أن هذه القوة الآسيوية الصاعدة هي الخطر الدولي الجديد على الزعامة الأمريكية في العالم، فيما يرى فريق آخر أنها، وبسبب اندماجها شبه الكامل في العولمة والاقتصاد العالمي، لن يكون من مصلحتها تشكيل محور ضد أمريكا يهدد هذا الاندماج، ولكل من الفريقين حججه القوية.
الصين: خطر المستقبل؟
الفريق الأول يستند إلى الحجج الآتية:
· كل وثائق الأمن القومي الأمريكي الصادرة منذ عام 2001، تكرر جميعاً بلا كلل أو ملل أن الصين لن تكون “الحليف الاستراتيجي” للولايات المتحدة، بل خصمها ومنافسها الأول في القرن الحادي والعشرين، والبنتاغون نفسه يبني الآن كل خططه العسكرية على هذا الأساس.
· الوثيقة الأمنية اليابانية الأخيرة التي اعتبرت هي الأخرى، وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، أن الصين “تشكّـل مصدر قلق للأمن القومي الياباني”، وهذه حصيلة ستكون لها مضاعفات كبرى على مسألة إعادة تسليح اليابان بدعم أمريكي.
· محاولات واشنطن الحثيثة لإنهاء ورطة الهند مع باكستان في جنوب آسيا، الهدف: تحويل الهند إلى قوة كبرى قادرة على موازنة الصين في شرق آسيا.
الجهود الأمريكية المكثفة لتطويق الصين بقواعد عسكرية في كل مكان: من بحر الصين وتايوان واليابان، إلى بحر قزوين وجمهوريات آسيا الوسطى، مروراً بمحاولة إجهاض كل مساعي الصين لتأمين خطوط إمدادات طاقة آمنة لاقتصادها السائر نحو العملقة. وتعلّق دورية “فورين أفيرز” على هذه المعطيات بقولها: “إن انتقال القوة من الغرب إلى الشرق، يحث الخطى بشكل سريع، وسيغيـّر قريبا، على نحو درامي، إطار التعاطي مع التحديات الدولية. العديد في الغرب واعون سلفاً لنمو قوة الصين، بيد أن هذا الوعي لم يترجم نفسه إلى استعداد، وهنا يكمن مكمن الخطر بأن تكرر القوى الغربية أخطاء الماضي”.
في حين كان ستيفن راوش ( فاينانشال تايمز) يقول: “الصين تقود الطريق في سباق التنمية الاقتصادية، وتدشن نوعاً آخر أوسع وأقوى من العولمة، إنها بدأت تهدد التفوق الأمريكي”.
بالطبع، المخاوف الأميركية من الصين ليست من دون أساس. فاقتصاد هذه الدولة لا يزال ينمو بأكثر من 9% سنوياً، ويحتمل أن يستمر كذلك لعقود مقبلة. وإذا ما تمكّـنت الصين من مواجهة التمزقات الضخمة التي يتسبب بها النمو الرأسمالي السريع ، مثل الهجرة الداخلية من الأرياف إلى المدن، والمستويات العالية من البطالة والديون المصرفية الكاسحة، فإن اقتصادها سيكون الأكبر في العالم بعد عشر سنوات، وبالطبع، القوة الاقتصادية ستميل لترجمة نفسها سريعاً إلى قوة عسكرية وسياسية.
ويقول محللون أمريكيون من أنصار هذا الفريق، إنه لو لم تقع أحداث 11 سبتمبر 2001، لكانت أمريكا والصين تقفان الآن على شفير هاوية المواجهة كخصمين إستراتيجيين، لا كشريكين تجاريين وأمنيين (ضد الإرهاب)، كما هو الحال الآن.
ومثل هذه الحصيلة ليست قفزة تنبؤية في عالم افتراضي، بل هي قراءة لأدبيات طاقم بوش المتكوّن برمّـته تقريبا من المحافظين القوميين والمحافظين الجدد.
فهذا الطاقم كان، ولا يزال، يطل على الصين بوصفها منافسا جدّياً محتملا للزعامة الأمريكية في العالم، تماما كما كانت ألمانيا في النصف الأول من القرن الماضي (مما تسبّب بحربين عالميتين)، وكما كانت روسيا في النصف الثاني من القرن نفسه (مما تسبـّب بحرب عالمية ثالثة باردة).
في كلا هذين الأنموذجين، كانت ألمانيا وروسيا تحاولان العثور على مكان تحت الشمس في النظام العالمي القائم آنذاك، وتسعيان إلى الانتقام من مظالم تاريخية لحقت بهما، بيد أن أمريكا الصاعدة بدورها كانت لهما بالمرصاد، وقصمت ظهرهما في حروب وسباقات تسلح مدمّرة.
وبالتالي، حين يقارن المحافظون والمحافظون الجدد صين القرن الحادي والعشرين بألمان وروس القرن العشرين، يكون الهدف واضحاً: الحث على توجيه “ضربات إستباقية تاريخية” إلى بلاد الهان والماندرين، قبل أن تنمو إلى الدرجة التي تبدأ فيها بتهديد النظام العالمي الأمريكي.
والشعار الذي يرفعه هؤلاء (وفق “فورين أفيرز”)، هو أن: “الحقيقة الإستراتيجية الراهنة في آسيا، تدل على وجود مصالح حيوية متنافرة للغاية بين الصين وأمريكا، ستدفعهما في النهاية إلى أن تكونا متنافستين. وتبعا لذلك، الأجدى أن نستبق الأمور، قبل أن يسبقنا الصينيون إليها”.
رهان الولايات المتحدة..
أرجأ 11 سبتمبر إذن، رسم خطوط المجابهة بين هذين العملاقين، لكنه لم يلغه. فالمخططون في إدارة بوش يتابعون تخطيطاتهم ضد الصين، حتى وهم في ذروة اندفاعاتهم الشرق أوسطية، لا بل يعتقد بعض المحللين، وهم على حق في اعتقادهم، بأن جزءاً أساسياً من اندفاع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير، هدفها إحكام الطوق على الصين، وهذا واضح بشكل كامل في الحصون التي تقيمها واشنطن الآن على عجل في آسيا الوسطى على مرمى حجر من الوطن الصيني، وواضح بشكل أقل كمالا في سيطرتها المباشرة على نفط العراق، الذي كانت الصين المتعطشة بشدة إلى الطاقة الأحفورية على تحويله (جنبا إلى جنب مع نفط آسيا الوسطى والسودان) إلى احتياطي إستراتيجي لها.
بيد أن هذا ليس كل ما في جعبة الأمريكيين ضد الصينيين:
ففي وسع واشنطن لعب ورقة اليابان ضد الصين، مستفيدة من الحقيقة التاريخية بأن هاتين الدولتين كانتا تنهضان دوما على حساب بعضهما البعض. فلأكثر من خمسة آلاف سنة، كانت الصين هي القوية والغنية، فيما اليابان هي الضعيفة والفقيرة. وحين حققت اليابان نهضتها المذهلة مع إصلاحات “ميجي” في أواسط القرن التاسع عشر، نجحت أساسا لأن العملاق الصيني كان مخدرا بحرب الأفيون البريطانية، ومدمّرا بحروبه الأهلية الداخلية.
الرهان الامربكي هنا واضح: آسيا الصاعدة لن تستطيع مواصلة صعودها برأسين، صيني وياباني، لابد لأحد الرأسين في النهاية من أن يتخلص من الآخر.
وفي مقدور أمريكا تحريك الهند ضد الصين عبر اعتماد الأولى، كبريطانيا جديدة في آسيا، وتزويدها بالعتاد والثقة بالنفس الكافيتين لمنازعة بكين على زعامة منطقة آسيا – المحيط الهادي.
وهنا أيضا الرهان واضح: فهذان العملاقان لا يثقان البتة ببعضهما البعض، وخلافاتهما الحدودية المستمرة منذ 50 عاما، لم تحل بعد. كما أنهما يتنافسان على أسواق واحدة، ومجال حيوي إستراتيجي واحد.
ثم أنه يمكن لواشنطن تفجير العديد من الأزمات الإقليمية في تايوان وشبه جزيرة كوريا وكشمير وجزر جنوب بحر الصين، إضافة إلى تأجيج الخلافات الداخلية داخل الزعامة الصينية من خلال إرهاق بكين في سباق تسلّح يستنزف طاقاتها ويفجر تناقضاتها السياسية والاقتصادية.
الصين: حليف واشنطن؟
هكذا يطل الفريق الأول على ما بات يطلق عليه في واشنطن إسم “المسألة الصينية”. ماذا عن الفريق الثاني؟
يبدو الطرف الآخر أقل قلقاً بكثير من الأول. فهو على ثقة كاملة بأن القوة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ستبقى كاسحة إلى درجة تمنع الصين، أو حتى أي ائتلاف بين الدول الكبرى، من تحدي الزعامة الأمريكية لعقود عدة من الآن. لذا، يدعو هذا الفريق إلى مواصلة العمل لدمج الصين في منظومة النظام العالمي بدل استعدائها.
وأبرز منظّـري هذا الفريق هو جون إيكنبيري، البروفسور في جامعة جورج تاون، الذي أعد مؤخراً دراسة لـ “مجلس الاستخبارات القومي” الأمريكي تحت عنوان “ردود الفعل الإستراتيجية على التفوق الأمريكي”، وهذه أبرز النقاط:
1- القوة العالمية الأمريكية عسكرياً وتكنولوجياً وثقافياً وسياسياً، هي إحدى الحقائق الكبرى لعصرنا، إذ لم يحدث قبل الآن أن حاز أي بلد على مثل هذه القوة التي لا منازع لها. وقد أدت عولمة الاقتصاد العالمي إلى تعزيز الهيمنة الاقتصادية والسياسية الأمريكية، بدون أن يبرز في وجهها أي منافس إيديولوجي.
2- ما يمكن تسميته بصعود “الأحادية القطبية” الأمريكية، زعزع السياسات العالمية، وجعل كل الدول الأخرى تقلق من اللا أمن الذي يتدفّـق من الفجوة الهائلة بين قوتها والقوة الأمريكية. وهكذا، العالم يجد نفسه الآن في خِـضم عملية تأقلم كبرى، حيث تحاول الدول معرفة كيف سيعمل نظام عالمي مركزه قطبية أمريكية أحادية، وكيف ستستخدم الولايات المتحدة قوتها الفائقة.
3- من غير المرّجح، أن تثير الأحادية القطبية الأمريكية ردا تقليدياً شاملاً، يستند إلى مبدأ ميزان القوى. الدول الكبرى (روسيا، والصين، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، واليابان) ستحاول المقاومة أو التحايل أو مجابهة القوة الأمريكية، حتى وهي منغمسة في العمل معها، لكن من غير المحتمل أن تنتظم هذه القوى في تحالف مناوئ لأمريكا يقسم العالم إلى معسكرات متصارعة ومتنافسة. لماذا؟ لأن الظروف التي كانت تسمح بتطبيق مبدأ ميزان القوى الذي تتحالف فيه القوى الضعيفة ضد القوة الأقوى، لم تعد متوافرة. لم يعد من الممكن الآن جمع قوى كبرى في ائتلاف لتحدي الولايات المتحدة، وأيضاً لأن القوة الأمريكية نفسها لا تثير تهديدات بما فيه الكفاية تدفع باتجاه العمل لخلق ميزان قوى معها.
4- ولأن الدول الكبرى الأخرى ستجد صعوبة في تحدي القوة الأمريكية، فإنها ستلجأ إلى إستراتيجية من عنصرين: الأول، الاعتراض على بعض السياسات الأمريكية بهدف الحصول على مكاسب أكبر أو المشاركة الجزئية في القرار الأمريكي (كما تفعل الآن روسيا والصين وفرنسا). والثاني، الرضوخ والاسترضاء في إطار ما يُـسمى ” bandwagonning”، أي الانضمام إلى الفريق الرابح، (كما تفعل بريطانيا ومعظم دول العالم). وفي كلا هاتين الحالتين، لن يكون ثمة مجال في الأمد المنظور لبروز قوة كبرى أو تحالف دول لتحدي زعامة الأحادية القطبية الأمريكية.
مستقبل القرن
فأي الفريقين ستكون له اليد العليا في أمريكا؟ ما لم تنشب أزمة كبرى مفاجئة في شرق آسيا، أو يحدث انقلاب ما في التوجهات الإستراتيجية الصينية من التركيز على الاقتصاد إلى الاهتمام بالسياسة، سيكون الفريق الثاني هو السائد، وسيواصل دفع الولايات المتحدة للعمل على إغراء الصين، اقتصاديا، لحثها على البقاء في الفلك الأمريكي سياسياً وإستراتيجياً، وهذه الحصيلة يعززها الاعتماد المتبادل بشكل متزايد الذي بدأ يظهره الاقتصاد، الصيني والأمريكي، إزاء بعضهما البعض، وأيضاً السهولة التي بات يحل بها قادة البلدين خلافاتهما السياسية، كما حدث مؤخراً في قمة واشنطن الصينية – الأمريكية التي أنتجت الاتفاق المبدئي على تجريد كوريا الشمالية من سلاحها النووي.
ومع ذلك، يبقى السؤال الكبير: هل يمكن لهذا “الوفاق الودي” بين أمريكا والصين أن يدوم على المدى الطويل؟ وهل ستكون الولايات المتحدة قادرة بعد عشر سنوات، مثلاً، على مواصلة وضع الصين في القفص، برغم أن حجم هذه الأخيرة سيكون حينها أكبر بكثير من هذا القفص؟
طبيعة الإجابة على هذا السؤال ستحدد (كما قال مرة بيل كلينتون، عن حق) طبيعة صراعات القرن الحادي والعشرين برمّـته.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.