الضرب في الرأس
يعتبر العديد من المراقبين أن العراق سيجد صعوبات جمّـة في تنفيذ القرار الأخير لمجلس الأمن بشأن التفتيش عن الأسلحة، وأن هذه الصعوبات ستكون ذريعة لتدخل عسكري أمريكي.
لكن هنالك نقاط استفهام عدة حول طبيعة هذا التدخل ومداه وعواقبه، على العراقيين ومستقبل البلاد.
يعتقد عدد كبير من مخططي الدفاع في الولايات المتحدة، أن النظام السياسي في العراق يمثل “هرما مقلوبا” يرتكز فوق رأسه، وأنه إذا تم التركيز على ضرب “الرأس” بشكل مباشر ومكثف من كل اتجاه، سوف ينهار الهرم كله بشكل سريع.
ومن هنا، خرجت خطط العمليات المثيرة التي تشير إلى قصور الرئاسة وأعصاب النظام في بغداد وتكريت (مسقط رأس الرئيس صدام حسين)، التي تشكل السيناريو الأقرب إلى الواقع إذا ما بدأت عملية ضرب العراق.
والمشكلة العملياتية الأساسية التي تواجه الإدارة الأمريكية منذ بداية حملتها التهديدية ضد العراق، هي صعوبة تنفيذ المهمة المباشرة للعمليات العسكرية.
فالهدف الرئيسي للحرب المتصورة، هو إسقاط نظام حكم الرئيس صدام حسين. وتتمثل المشكلة في أنه لا توجد “مفاهيم عملياتية” محددة يمكن من خلالها استهداف النظام السياسي بأسلوب العمليات الجراحية دون خوض حرب شاملة، خاصة وأن تلك الحرب (الشاملة) ذاتها قد لا تحل المشكلة، وهناك شك عميق في أنها كانت محل تفكير جاد في وزارة الدفاع الأمريكية من الأساس.
الطريق إلى بغداد
لقد أثبتت حرب الخليج الثانية عام 1991، أن الهزيمة العسكرية لا تؤدى بالضرورة إلى انهيار النظام السياسي. فلا يوجد يقين بشأن إمكانية تكرار ما حدث في يوغوسلافيا بعد عام 1999، حينما أدت تداعيات حرب كوسوفو (التي تتماثل خطط عملياتها ونتائجها العامة مع خطط ونتائج حرب الكويت – 1991) إلى سقوط نظام الرئيس سلوبودان ميلوسيفيتش، على خلفية ما تعرضت له قواته المسلحة والبنية الأساسية لدولته من تصدعات عميقة.
فبقاء النظام السياسي في العراق، يعتمد في الأساس على سيطرة أجهزة الأمن وحزب البعث، وليس قوة الحرس الجمهوري. وبالتالي، فإن خطط الضرب من السماء قد تدمر الدولة لكنها لن تسقط النظام.
وقد يتمثل الحل المباشر لتلك المشكلة من وجهة النظر الأمريكية، في الاتجاه نحو التخطيط لعملية تدخل عسكري مباشر شبه تقليدية، تعتمد على توغل القوات البرية الأمريكية والحليفة الخارجية والمحلية داخل العراق (بعد حملة جوية)، لتفكيك أو تدمير مؤسسات وأجهزة وقوات النظام، وتصفية أو اعتقال قياداته على غرار ما حدث في النموذج الأفغاني، مع تعديلات ترتبط بأوضاع الحالة العراقية. فقد تسربت سيناريوهات تشير إلى حجم قوات برية يتراوح بين 50 و250 ألف جندي أمريكي قد يشاركون في تلك العملية.
لكن كانت هناك مشكلة مصداقية واضحة لمثل هذه الخطط المدرسية. فلم يصدق أحد أن الولايات المتحدة قد تخلصت فجأة من عقدة فيتنام، وأنها قد تُقدم على خوض مثل هذه الحرب التي قد تتحول ببساطة إلى “تورط”، خاصة وأنه حتى في إطار ذلك السيناريو، قد لا تحقق العمليات أهدافها، في ظل ضخامة مؤسسات وقوات الدولة العراقية، والكثافة السكانية في المدن الكبرى، والخسائر المحتملة للحرب، وردود الفعل الانتقامية. فقد يسقط النظام، لكن ثمن الحرب ماديا وبشريا سيكون فادحا مع وجود احتمالات حقيقية لعدم السيطرة بعد سقوطه.
مؤسسة الرئاسة
وما يبدو بوضوح بعد ذلك، هو أن التوجهات العامة للتفكير الأمريكي في كيفية التعامل مع المشكلة العراقية، التي اتّضح أنه تم عبور خط التراجع عن التعامل معها، قد تغيرت. فقد اتسع مفهوم الحرب، مبتعدا عن الطابع العسكري الضيق، إلى درجة يمكن القول معها، ولو تجاوزا، أن الحرب قد بدأت بالفعل، بهدف إسقاط النظام من الداخل وتقلص مفهوم العمليات العسكرية إلى درجة يبدو أنها ستكون في النهاية سلسلة من العمليات العسكرية المنفصلة المتتالية والتي يتم من خلالها إنهاء الحرب، مع تجنب مشاكلها المتصورة، التي سيكون من الصعب تجنبها في ظل أي سيناريو تقليدي.
إن الموجة الأخيرة من السيناريوهات العسكرية لما يعتبر بدقة عمليات عسكرية، تركز في الأساس على ضرب مراكز قوة النظام في بغداد، كقصور الرئاسة ومراكز القيادة العسكرية ووسائل الاتصال ومقرات الحكومة والحزب الحاكم ووسائل الإعلام، مع استهداف الشخصيات القيادية، وتحييد ما يمكن تحييده من كل ذلك، على غرار ما يحدث في الانقلابات العسكرية، لكن بتدمير الأهداف وليس الاستيلاء عليها، بهدف تدمير أعصاب النظام وعزل قيادته وإفقادها القدرة على السيطرة، والرد الانتقامي، بدرجة تخلق حالة من الارتباك التي يتصور أنها يمكن أن تؤدى إلى انهيار هرم النظام السياسي خلال فترة قصيرة.
لكن تلك العملية المتصورة تتم على خلفية معقدة. فمعظم التقارير التي تنشر في الفترة الأخيرة، تشير إلى استخدام مكثف لأسلوب العصا والجزرة التقليدي، إذ تتم الإشارة لخطط عسكرية خاصة باستهداف عشيرة الرئيس في تكريت، وقيادات النظام، بالتوازي مع اتصالات تجريها عناصر من المعارضة بهدف طمأنة الدوائر الواسعة من القيادات العربية السنية في الحكومة والحزب والجيش، بأنه لن يتم المساس بها أو الانتقام منها، إذا لم تقاوم.
وفي الوقت الذي تعد فيه خطط عمليات حقيقية لتوجيه ضربات مكثفة إلى مناطق حشد وتمركز قوات الحرس الجمهوري لتكبيدها خسائر تخرجها مبكرا من المعركة، تجرى محاولة استمالة تلك القوات بالتأكيد على عدم مهاجمة التشكيلات التي لا تقوم بتحريك ونشر قواتها، بل تستخدم أحيانا تلك الأساليب مع الرئيس العراقي ذاته، كما اتّضح من طرح أفكار استقالة الرئيس العراقي أو لجوئه إلى الخارج.
إن التصورات الأمريكية للحرب ضد العراق قد استقرت فيما يبدو، على أن فكرة العمل العسكري الخارجي “البحت” ضد النظام السياسي في العراق لن تكون مجدية، وأن خلخلة النظام من الداخل مع استخدام المطرقة العسكرية بشكل عنيف للغاية في نطاقات محددة للغاية، سوف يؤدى لانهياره.
وتستند تلك التصورات على تقديرات بأن الجيش العراقي لن يخوض معركة حقيقية دفاعا عن النظام، وأن مؤسسات النظام سوف تحول ولاءاتها بشكل سريع، وأن مراكز القوة الأمنية والعشائرية في النظام، سوف تصاب بالشلل، إذا ما تبيّن أن القيادة العراقية قد اختفت أو انهارت، وأن معركة إسقاط النظام، إذا سارت الأمور بتلك الصورة، سوف تكون قصيرة.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
تعتقد الولايات المتحدة أن بقاء النظام السياسي في العراق، يعتمد في الأساس على سيطرة أجهزة الأمن وهياكل حزب البعث، وليس على القوة العسكرية وبالتحديد قوة الحرس الجمهوري. وبالتالي، فإن خطط التدخل العسكري الأمريكي الكاسح من خلال حملات جوية مكثفة، قد تدمّر الدولة لكنها لن تؤدي بالضرورة إلى إسقاط النظام…
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.