الضغط على سوريا.. تكتيك أم استراتيجية؟
تصاعدت حدة الضغوط الأمريكية على سوريا منذ سقوط النظام العراقي إلى درجة أنه لم يعد مستبعدا حدوث تدخل عسكري أمريكي ضد دمشق.
ورغم النفي السوري القاطع للاتهامات الأمريكية، فإن نظام الرئيس بشار الأسد يجد نفسه بعد ما جرى في العراق بين فكي كماشة!
الإشارات الأمريكية السلبية بشأن سوريا، والتي أخذت صورة التصريحات النارية من أقطاب الإدارة الأمريكية، وحملة إعلامية تغذيها جهات معروفة من الأوساط المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة، ليست جديدة.
فقد تكررت قبل بدء الحرب الأنغلو أمريكية على العراق، وزادت حدتها أثناء المعارك، ووصلت إلى مدى أكثر سخونة بعد أن تأكد سقوط النظام “الصدامي” تماما، وتمت السيطرة العسكرية على الأراضي العراقية برمتها.
وفى المرحلتين، الأولى والثانية، كان هناك هدف أساسي يمكن تلمسه على نحو معين. فقبل بدء العمليات الحربية كان المطلوب تحييد سوريا، والتأثير على موقفها المعارض للحرب، ودفعها إلى الوقوف على الحياد. وفي المرحلة الثانية، تمثل الهدف في منعها من القيام بأي جهد عسكري أو سياسي أو رمزي يمكن أن يؤثر على سير العمليات العسكرية، خاصة مسألة فتح ممرات آمنة لمتطوعين عرب أو أجانب عبر الحدود السورية العراقية، والتغاضي عن شحنات أسلحة تمر عبر الأراضي السورية للقوات العراقية، وهى الشحنات التي حددها وزير الدفاع الأمريكي بأجهزة رؤية ليلية وصواريخ مضادة للدروع ذهبت إلى الجيش العراقي والمقاومة العراقية، وهو ما نفته دمشق في حينه.
وأثناء العمليات العسكرية، خاصة في الأيام التالية مباشرة لسقوط بغداد، زاد الإصرار الأمريكي على ضرورة إغلاق الحدود بين البلدين والسيطرة التامة على حركة المسافرين من وإلى العراق، بما في ذلك الذين يُشتبه في أنهم من رموز النظام البائد والمطلوبين “للعدالة الأمريكية”.
هذه الأهداف تبدو مفهومة إلى حد كبير. فالمطلوب أمريكيا هو تأمين العمليات العسكرية ومنع المفاجآت عنها من قبل أحد الجيران الإقليميين. ويمكن القول أنها كانت استكمالا للضغوط التي مورست على إيران وتركيا بهدف منع أي منهما من التدخل المباشر أو غير المباشر في الشأن العراقي. إنها باختصار أهداف تكتيكية ذات صلة مباشرة بالعمل الحربي نفسه وبتوفير عوامل النجاح له كما هو مخطط مسبقا.
خطوة نحو الاستراتيجية
بعد انهيار نظام صدام حسين، بدت لغة التهديد الأمريكي لسوريا أبعد كثيرا عن الإطار التكتيكي البحت، أو بعبارة أخرى اقتربت من كونها هدفا استراتيجيا يخفي وراءه ما هو أبعد من مجرد الضغط السياسي المكثف على سوريا من أجل تمرير الحملة العسكرية على العراق، وإبعادها عن التأثير سلبا في عملية بناء الدولة العراقية الجديدة وفقا للتصور الأمريكي.
فدمشق باتت مُطالبة، على حد تعبير الرئيس بوش، بالتعاون في ثلاثة مسائل معقدة وهي:
· عدم توفير مأوى لقادة النظام العراقي البائد على أي نحو وتسليم من هو على الأراضي السورية
· التعاون في نزع الأسلحة الكيماوية والبيولوجية المتوافرة لديها.
· والتوقف عن دعم المنظمات الإرهابية، في إشارة إلى المنظمات الفلسطينية المعارضة الموجودة في دمشق، إضافة إلى حزب الله اللبناني.
وفى المعلومات الجارية أن واشنطن أوقفت الاتصالات الاستخباراتية مع دمشق في خطوة ضغط أخرى ذات طابع رمزي وعملي ملموس. ثم جاء التصريح الأخطر من كولن باول، المحسوب سابقا على معتدلي إدارة بوش، ومضمونه التفكير جديا في فرض عقوبات دبلوماسية واقتصادية أمريكية على سوريا أو التطرق إلى أمور أخرى، وقد صاحبه زمنيا تصريح وزير الدفاع رامسفيلد، أبرز صقور إدارة بوش، بأن سوريا أجرت تجربة على أسلحة كيميائية خلال العام أو الخمسة عشر شهرا المنصرمة.
مجمل هذه التهديدات الأمريكية يعني التحرك خطوة أخرى على طريق ربط سوريا مباشرة بالاستراتيجية الوقائية المُعلنة من قبل إدارة بوش، والتي تمثل الأساس الفكري – العقائدي للضرب المُسبق لما يسمى بالدول الراعية للإرهاب والمالكة لأسلحة دمار شامل، والتي يُخشى أو يُتوهم أنها تمثل تهديدا جديا للولايات المتحدة نفسها لاحقا. إذن لقد صارت سوريا أمريكيا “هدفا مشروعا”.
وهنا يلفت النظر أمران:
1. إن الجناح اليميني المتنفذ داخل إدارة بوش، وفي ضوء نجاح حربه على العراق بتكلفة بشرية زهيدة جدا، وفي مدى زمني قصير جدا، بات مقتنعا بصحة مقولاته وبطريقة تفوق التوقعات السابقة، الأمر الذي قد يجعله طامعا في تجربة أخرى للتدخل العسكري السريع في المنطقة نفسها وإزاء دولة يعتبرها منذ فترة سابقة راعية للإرهاب ومصدر متاعب سياسية كثيرة للاستراتيجية الأمريكية ولحليفتها إسرائيل.
2. إن الوضع السوري عسكريا، لا يتفوق كثيرا عن الوضع العراقي، في حين أن اختلاف الحالة السورية سياسيا ورمزيا عن الحالة العراقية، أي عدم خضوع دمشق لعقوبات دولية أو عزلة سياسية، لا يمثل لهم أي عائق يذكر، أو هكذا يتصرفون.
مخارج سورية .. محدودة ولكن
يُـدرك السوريون أن هذا التصعيد الأمريكي المتواتر يختلف كثيرا عن حملات سابقة، وذلك من ناحيتين. أولهما، مضمونه الواضح المرتبط بالرؤية الأمريكية للحرب الوقائية. وثانيهما، للظروف العامة التي تمر بها المنطقة على صعيدي احتلال العراق أمريكيا، والتمهيد لتمرير خريطة الطريق فلسطينيا.
والتفسيرات الواردة من دمشق، أن حالة سوريا ليست هي الحالة العراقية. فهي بلد فاعل عربيا ودوليا وعضو غير دائم في مجلس الأمن. أما الهدف الأمريكي، حسب الرؤية السورية، فيتمثل في ثلاثة أمور:
1. التغطية على المسؤولية المباشرة للقوات الأمريكية في الانفلات الأمني في ربوع ومدن العراق المختلفة، وفشلها في التوصل إلى أي من قادة النظام “الصدامي” المطلوبين.
2. تليين موقف دمشق تجاه خريطة الطريق الفلسطينية، بحيث تهتم سوريا بالضغط على الفصائل الفلسطينية المعارضة لديها بأن تقف على الحياد أو تسهل تمرير الصفقة على أن يتلو ذلك تجاوبا سوريا مع المطالب الأمريكية الإسرائيلية بشأن التوصل إلى تسوية نهائية مع تل أبيب.
3. إن الضغط على دمشق هو رسالة ضغط غير مباشرة لدول عربية وإقليمية أخرى كبرى في المنطقة كمصر والسعودية وإيران وغيرها.
مثل هذه التفسيرات تعمل على استيعاب التصعيد الأمريكي عبر الفصل بين الهدف الظاهري والمباشر، أي سوريا، وبين الأهداف الحقيقية التي تتعدى سوريا نفسها إلى قضايا تخص المنطقة ككل، وتعني دولا مهمة عربية وغير عربية.
وبالرغم من التماسك الداخلي لهذه التفسيرات وصحتها النسبية معا، فإنها تؤكد، ولو بطريق غير مباشر، على أن سوريا تمثل الحلقة الأضعف عربيا، ومن ثم فهي قابلة لأن تتعرض لضغط مباشر وصريح قد يتطور إلى مدى أكبر من كونه تكتيكيا إلى أن يصبح إستراتيجيا بكل معنى الكلمة.
هذه القناعة السورية بصورتها المزدوجة الظاهرة والباطنة، تفرض ضرورة اتخاذ تحركات من نوع خاص جدا، بعضها سريع من قبيل إثبات الشفافية في موضوع إيواء قادة النظام العراقي المخلوع، سواء من حيث العبور إلى طرف ثالث أو من أجل الاستقرار. فمن غير الحكمة أن يقدم أحد على التضحية من لحمه الحي لحماية عناصر فاسدة ومكروهة وأودت بحياة شعبها وأمتها في الماضي والمستقبل معا.
وثانيا، إعادة الحياة لعملية الليبرالية السياسية التي بدأتها سوريا مطلع عهد الرئيس بشار الأسد، ولكنها توقفت بعد حين، إن لم يكن ارتدت عنها دون سبب وجيه. فأحد الدروس الساطعة في الحالة العراقية أن شعبا مضطهدا وجائعا لا يضحي من أجل قاتليه وجلاّديه.
أما موضوع الأسلحة الكيماوية، فيبدو بحاجة إلى تحرك نشيط يتعدى الحالة السورية نفسها، في صورة إعلان رسمي متبوعا بغطاء عربي واسع جدا، وتحت شعار إخلاء المنطقة برمتها من كل أسلحة التدمير الشامل، الأمر الذي يتطلب تنسيقا سوريا مع الكثير من عواصم القرار العربي، فضلا عن عواصم دولية أخرى ذات نفوذ.
وفى كل الأحوال فإن ثمة حاجة قصوى لسياسة مرنة على الصعيد الفلسطيني، لا تلغي المبادئ، ولكن تجتهد في توظيف أفضل للأوراق الموجودة بالفعل في اليد السورية، بأعلى قدر من الحكمة.
بيئة نموذجية أمريكيا
هذه التحركات المطلوبة سوريا هي أبعد ما تكون عن مجرد مناورات سياسية بارعة شكلا وفارغة مضمونا، تفرضها ظروف اللحظة. إنها تغييرات جوهرية كبرى تتطلب المزيد من الحكمة والكثير من الشجاعة والثبات معا.
وإذا وضعنا في الحسبان الفكر الهجومي للجناح اليميني في إدارة الرئيس بوش وقناعاته الكبرى بضرورة إحداث تغييرات جذرية في المنطقة العربية والشرق الأوسط ككل، بحيث تتلاءم مع الاستراتيجية الأمريكية المعلنة، فإن كلا البعدين معا يمثلان بيئة نموذجية لمتابعة الحملة العسكرية، حيث هناك حشد عسكري موجود بالفعل على بعد أمتار قليلة من الهدف المطلوب، ولا يتطلب الأمر أكثر من بعض إضافات عسكرية بسيطة وحسب.
وربما أمكن تلخيص تصور هؤلاء في أن هذا الحشد العسكري في حال تفكيكه وإعادة نسبة كبيرة منه إلى الوطن، فسوف يكون صعبا إعادة تشكيله مرة أخرى إلا بعد مدى زمني طويل، وأعباء سياسية ودبلوماسية كبيرة. فلماذا لا يُنجز الحشد نفسه مرحلة أخرى من ذات المهمة، طالما أنها ناضجة جدا حسب تصورهم؟ إنها سياسة الطرق على الحديد وهو ساخن!
المشكلة الأساسية في هذا التصور، أي إنجاز مرحلة تالية بنفس الثمن السياسي الزهيد، تتمثل في الموقف البريطاني، الذي يبدو حتى اللحظة غير مقتنع بالمقولات الأمريكية، خاصة وأن الموضوع العراقي لم يكتمل بعد، وبحاجة إلى جهد سياسي مضاعف في المرحلة المقبلة، سواء لاستكمال بناء العراق الجديد، أو لاحتواء آثاره السلبية على التحالف الأوروبي الأطلنطي من جهة، أو التماسك الأوربي نفسه من جهة أخرى، وفعالية الأمم المتحدة من جهة ثالثة.
وهنا وجب التذكير بأن بريطانيا، ورغم مساهمتها الجبارة عسكريا وسياسيا في الحرب على العراق، لم تستطع أن تفرض على واشنطن إلا جزءا يسيرا جدا من تصوراتها بشأن مستقبل العراق ودور الأمم المتحدة. وحتى إذا كانت قد امتنعت عن المشاركة العسكرية، فالقوات الأمريكية كانت ستقوم بمهمتها منفردة حسب تصريح رامسفيلد قبل الحرب.
والصحيح هنا، وجود مطالبات روسية بتهدئة الموقف والتركيز على حل المشكلة العراقية، وهناك معارضة أوروبية للتهديدات الأمريكية ضد سوريا، وهي في المرحلة الحالية أقل كثيرا من المعارضة نفسها التي واجهتها واشنطن في الحالة العراقية، ومع ذلك لم تنجح في وقف خيار الحرب.
وتلك بدورها علامة يجب ألا تغيب عن الحسبان، أو يساء فهمها وتقدير مغزاها. وكما هو معروف، فإن الحالة العراقية بدأت بعقوبات شاملة ومرت بتفتيش دولي تجاوز كل حدود السيادة، حتى التي تتمتع بها أضعف الدول وأصغرها، وانتهى إلى حرب واحتلال عسكري مباشر.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.