المرأة التي أغضبت السلطة فعانقت العالمية
لم تكن التونسية سهير بلحسن تتوقع في يوم من أيام حياتها أن تُـتوج سيرتها الذاتية بالتربّـع على عرش أحد كبريات منظمات حقوق الإنسان في العالم مثل الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان.
والذين يعرفونها عن قرب، فوجِـئوا بالتحوّل الذي حصل في حياتها عندما انتقلت من صحفية مثقفة ومرتاحة اجتماعيا، لتصبح فجأة في مربع يجمعها بأكثر التونسيات اصطداما بالسلطة وأجهزتها الأمنية.
الذين يعرفونها عن قرب، فوجِـئوا بالتحوّل الذي حصل في حياتها عندما انتقلت من صحفية مثقفة ومرتاحة اجتماعيا، نجحت في اختراق الدوائر الرسمية وتمكّـنت من أن تربط علاقات قوية بأصحاب القرار، وفي مقدمتهم زوجة الرئيس السابق وسيلة بورقيبة، لتصبح فجأة في مربع يجمعها بأكثر التونسيات اصطداما بالسلطة وأجهزتها الأمنية، مثل راضية النصراوي وسهام بن سدرين وأم زياد.
رغم هذا الانتقال الجوهري في الموقع والرؤية والأولويات، إلا أن ذلك لم يأت من فراغ ولم يكن نتيجة نزوع براغماتي أو انتهازي. فسهير بلحسن تؤكّـد بأنها لا تحسن منطق “الحسابات والمناورات”، وهذا ما تشهد به الكثير من صديقاتها، خاصة وأن الانخراط في المعارضة أو في الحركة الحقوقية في بلدها لا يجلب لأصحابه، على الأقل في البداية، مكاسب أو امتيازات.
المرأة المناهضة للظلم
وعند سؤالها عن الأحداث التي أثرت فيها، تعود بها الذاكرة إلى مرحلة المراهقة عندما كانت حرب الجزائر تثير المشاعر وترسخ الوعي بأن عهدا عربيا جديدا في حالة مخاض، كما أن هزيمة حزيران 1967 عاشتها هذه الصحفية الطموحة بكل انفعال وتأزم.
لكن الحدث الذي أثر فيها أكثر من غيره، عندما وجدت نفسها مشاركة في حملة من أجل إنقاذ عشرة شبان تونسيين حُـكم عليهم بالإعدام على إثر أحداث الخبز الشهيرة، التي اندلعت يوم 3 يناير 1984.
لقد تعاطفت مع هؤلاء الشبان، الذين قرر بورقيبة أن يضحِّـي بهم عِـبرة لغيرهم، تُـهمتهم الوحيدة أنهم ينحدرون من أكثر الأحياء التونسية فقرا وبؤسا، وقد نجحت في أن تُـقنع يومها سيدة تونس الأولى، التي استعملت تأثيرها على الرئيس بورقيبة وجعلته يصدر عفوا على هؤلاء الضحايا.
وفي تلك الظروف، اكتشفت سهير الوجه لتونس الأعماق، التي وصفتها بأنها “صارت تحت وطأة ليبراليّة متوحِّـشة رسّخت الكبت”، وفي تلك الأجواء التي ميّـزت نهاية عهد، أخذت تنمو شخصية المرأة المناهضة للظلم وعدم المساواة تقول، لقد علمتها الأحداث ما لم يكن بالإمكان أن تتعلّـمه من مطالعة الكتب.
تذكر هذه السيدة، وقد بلغت من العمر 63 عاما دون أن تفقد حيويتها وأناقتها وإرادة الحياة والتغيير، أنها ليست من صِـنف الذين يخططون لحياتهم بطريقة مدروسة سلفا، إنها تغامر وتلقي بنفسها بين الأمواج المتلاطمة، لتبدأ فيما بعد تدرك خطورة ما أقدمت عليه.
غير أنها عندما تتأكد بأنها قد “تورّطت”، تلجأ إلى عنصر القوة في شخصيتها، وهو قدرتها على “التكيف مع متطلبات الوضع الجديد الذي أقحمت نفسها فيه”، وتظهر ما تختزنه من صبر وعناد وعطاء، وهذا ما حصل لها عندما وجدت نفسها، دون تخطيط مُـسبق، في قيادة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان مع المؤتمر الخامس الشهير.
زوبعة كبرى
قبل ذلك الموعد، وقّـعت على عريضة نِـسائية أثارت غضب السلطة، دون أن تتوقع بأن ذلك الإمضاء سيُـثير زوبعة كبرى في البلاد، وسيُـجبرها على مغادرة تونس خلال 24 ساعة، حيث استقرت في باريس، ولم تتمكّـن من أن تكون إلى جانب ابنتها أثناء اجتياز امتحان الباكالوريا، لكنها عادت، وكانت تتوقّـع بأن تأسيسها لمجلة مختصة في شؤون التلفزيون وبعيدة عن عالم السياسة، سيجعلها تواصل حبها لمهنة الصحافة دون مشاكل، لكن عاصفة أخرى كانت تنتظرها لتقوض في لمحة من البصر حُـلما كانت تتصور بأنه قد أصبح واقعا، حيث اضطرت لتغلق الصحيفة ويتبخر معها جزء هام من المال الذي ادخرته للأيام الصعبة، مما اضطرها إلى بيع منزلها.
وبينما كانت تعتصِـر ألما وغضبا بعد أن انسدّت الأبواب في وجهها، إذا بخديجة الشريف وبشرى بالحاج حميدة تقترحان عليها الترشح للهيئة المديرة للرابطة.
ضحكت في البداية، لكنها وجدت نفسها تقدم طلب الترشح قبل نهاية الآجال القانونية بسويعات قليلة، وإذ شكك البعض في قدرتها على تحمل مسؤولية العلاقات الخارجية داخل الهيئة المديرة للرابطة، نظرا لعدم امتلاكها أي تجربة في هذا المجال، غير أن الأيام أثبتت بأنها كانت الأقدر على إنجاز تلك المهمة في ظرف كادت فيه الرابطة أن تتبخر وتُـصبح جزءً من الماضي.
كما نجحت في استكمال درب طويل داخل أروقة الفدرالية الدولية، سبق وأن وضع أسسها الناشط الحقوقي المعروف خميس الشماري، وتبعه في ذلك الدكتور سعد الدين الزمرلي، الرئيس السابق للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
إهانة واعتداء
عندما التحقت سهير بالمكتب الدولي للفدرالية بعد أن تم انتخابها، وجدت شخصا من ذوي القامات العالية ساعدها كثيرا، هو المثقف المسلم الملتزم والمناضل السينيغالي الكبير سيدي كابا، الذي احتضنها ورعاها وأكسبها مزيدا من الخِـبرة والحكمة.
وقبل أشهر قليلة، كان يستمع إليها وهي تُـلقي محاضرة في إحدى العواصم الإفريقية، فقال في نفسه “هذه السيدة هي التي أبحث عنها لتخلفني على رأس الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان”، وكانت تلك المفاجأة الكبرى بالنسبة لسهير بلحسن، التي لم تكن تفكِّـر في ذلك على الإطلاق، ولهذا، سألتها بعد انتخابها مباشرة : هل أنت خائفة؟ أجابت، “لا، الخوف لا يجتمع مع النضال، لكني أشعر بثقل المسؤولية، فموقعي الجديد نقلني إلى عالمية حقوق الإنسان التي آمنت بها”.
هذه الكونية أو العالمة، هي التي جعلتها لا تميِّـز بين ضحايا القمع، بمن في ذلك الإسلاميين الذين دافعت عن مساجينهم وترأست أكثر من لجنة للتعريف بمعاناتهم والمطالبة بإطلاق سراحهم، وعرّضت نفسها في أكثر من مناسبة لإهانة الشرطة والاعتداء عليها بالعنف.
انتصار على التمييز ضد المرأة..
سألتها: ماذا يعني عندك أن تكون امرأة تونسية عربية مسلمة على رأس منظمة حقوقية كبرى مثل الفدرالية؟ أجابت، دون أن تتردد “إنه انتصار على التمييز ضد النساء، إضافة إلى أن انتخابي أعتبره رسالة رمزية قوية موجهة للعالم العربي”.
وسألتها أيضا عن أولوياتها بالنسبة للمنطقة العربية، فقالت بكل حماس “مواكبة مسارات التحول الديمقراطي ودعمها”، وأضافت “نحن كمنظمات حقوقية، ليس لدينا جيوش أو أحزاب، وكل ما نملك هو مبادئ نؤمن بها، وفي مقدمتها ترسيخ الديمقراطية في المنطقة”.
وتعتقد السيدة سهير بأن أهم الخطوات في هذا المسار الصعب، هو تأكيد استقلالية العدالة وإصلاح القضاء، إلى جانب ضمان حقوق النساء وتوفير الحريات الأساسية، مثل حرية التعبير والتنظيم، كما أنها تنوي العمل من أجل دعم منظمات حقوق الإنسان العربية.
أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التي احتلت مكانة بارزة في الكلمة التي ألقتها بعد انتخابها، فإنها ترى فيها هويتها التي لا يمكن أن تتخلى عنها، وهي تراهن في هذا السياق على تفعيل الآليات الدولية لحقوق الإنسان من أجل دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في إقامة دولته المستقلة.
تألمت السيدة سهير بلحسن كثيرا عندما تجاهلتها وسائل إعلام بلادها في الوقت الذي تصدّر فيه خبر انتخابها مُـعظم صحف العالم وإذاعاته وتلفزيوناته.
كانت تنتظر أن تتلقى مكالمة هاتفية من سفير تونس بالبرتغال، يهنِّـئها باسم الحكومة بثقة أكثر من 140 جمعية حقوقية فاعلة في أكثر من 100 دولة، ويؤكِّـد لها بأن نجاحها هو نجاح لتونس، لكن شيئا من ذلك لم يحصل، ووجدت العزاء، عندما استقبلها بالمطار في وقت متأخر من مساء يوم الخميس 26 أبريل، جمع من النشطاء والأصدقاء الذين هتفوا لها وهنّـأوا أنفسهم والمجتمع المدني التونسي بهذا الحدث التاريخي.
“حسن قيادة سفينة الفدرالية الدولية”
وفي رد على سؤالي: هل تفكِّـرين في بذل جهود من أجل تطبيع العلاقة بين الفدرالية والنظام التونسي؟ أجابت بشيء من المرارة: “ما أتمنّـاه هو أن تستغل السلطة هذه الفرصة لتُـسوّي نهائيا وضعية الرابطة”، وأضافت “أنا ابنة الثورة التونسية ثورة القانون، وأملي في أن تتغذّى بلادي من هذه التجربة التي أخوضها، وأنا على أتم الاستعداد للمساهمة في تصحيح العلاقة وإنهاء مشكلة الرابطة التي وفرت لي هذه الفرصة، مشاغلي الآن أصبحت أكبر من تونس، حيث مشاكل حقوق الإنسان مُـنتهكة في كل مكان في العالم، ومع ذلك إني مستعدة لخِـدمة ما فيه خير لبلدي وللرابطة التي أنتسب إليها”.
عندما اقتربت الجلسة من نهايتها على إثر يوم مرهق، وجّـهت لها ثلاث أسئلة خاطفة، طلبتها أن تذكر لي ثلاث أشخاص أثّـروها فيها، فلم تذكر سوى اثنين: الأول والدها الذي ربّـاها، والثاني هو البشير بن يحمد، صاحب مؤسسة “جون أفريك”، الذي اكتشف فيها روح المغامرة الصحفية.
ثم سألتها ماذا بقي لها من أهداف تُـريد تحقيقها، فلم تجد أمامها إلا هدفا واحدا، هو كيف تتمكّـن من حسن قيادة سفينة الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، التي تمر بمرحلة “تدافع إيجابي”، دون أن تصطدم بالصخور الكثيرة”.
وأخيرا: هل بدأت تدوِّن مذكراتها، ففوجئت وهي التي عاشت تكتب، أن سهير بلحسن لا تزال تبحث عن الجو المناسب لتشرع في كتابة سيرة حياتها.
صلاح الدين الجورشي – ليشبونة
سهير بلحسن، (ولدت المكّي)، يوم 19 يونيو 1943 بمدينة قابس جنوب تونس، وهي أم لبنتين.
1962: نالت شهادة الباكلوريا
1964: حصلت على دبلوم المرحلة الأولى الجامعيّة في الآداب الفرنسيّة ـ تونس
1966: حصلت على دبلوم المرحلة الأولى الجامعيّة في الحقوق ـ تونس
1970 – 1973: دراسات في العلوم السياسيّة ـ باريس
الممارسة المهنيّة:
1962 – 1964: صحفيّة بقسم الأخبار بالإذاعة التونسيّة
1967 – 1970: مراسلة مجلّة «جون أفريك»
1973: رئيسة تحرير يوميّة «لوتون»
1973 – 1975: رئيسة تحرير المجلّة نصف الشهريّة «كونتاكت»
1975 – 1985: مراسلة مجلّة «جون أفريك» ووكالة «رويترز» لدى جامعة الدول العربيّة
1987 – 1990: تحرير بمشاركة صوفي بسيّس لكتاب عن بورقيبة في جزئين، من نشر مجموعة «جون أفريك» في عام 1989. ثم تحرير بمشاركة صوفي بسيّس لبحث بعنوان «نساء المغرب العربي: الرهان» ، من نشر دار لاتاس في 1990.
1998 – 1990: مديرة الإعلام بقناة + أفق ـ فرنسا
1998 – 2000: بعث مجلّة 7 jours et 7 nuits
2000: انتخبت نائبة لرئيس «الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان»
2004: انتخبت نائبة لرئيس الفدراليّة الدوليّة لحقوق الإنسان
أبريل 2007: انتخبت في برشلونة رئيسة للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.