الوهم الامريكي بتغيير العالم العربي
لوح الرئيس بوش في غمار جهوده لإعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة العربية بفكرة إقامة مناطق للتجارة الحرة بين الولايات المتحدة والدول العربية التي تستجيب لمنهج الإصلاح على الطريقة الأمريكية
ولكن عددا من كبار أساتذة وخبراء الاقتصاد العرب الأمريكيين يرون أن عصا بوش للأمة العربية أكثر واقعية من تلك الجزرة..
عندما تعهد جورج مارشال وزير الخارجية الأمريكية في نهاية الحرب العالمية الثانية بإعادة إعمار أوروبا ، كان يستند في ذلك إلى خطة واضحة المعالم سميت “مشروع مارشال” المدعوم آنذاك بما يوازي اليوم أكثر من مائتي ألف مليون دولار.
لذلك، كان وعده حقا وتم الوفاء به، أما تعهد جورج بوش بإقامة مناطق للتجارة الحرة مع دول الشرق الأوسط فلم يكلفه إلا التصريح به والوعد بالتنفيذ على مدى يصل إلى عشرة أعوام، ودون خطة واضحة المعالم ولا دراسة مستفيضة لإمكانيات التنفيذ ولا أموال مرصودة لمساعدة الاقتصاديات العربية التي أكل عليها الدهر وشرب!
ويرى الدكتور إبراهيم عويس أستاذ الاقتصاد بجامعة جورجتاون في واشنطن أن الجزرة التي لوح بها بوش للحكومات والشعوب العربية استهدفت رسم صورة وردية للمستقبل في المنطقة العربية من خلال استعداد أمريكي لتحسين الفرص الاقتصادية لشعوب المنطقة التي تدهورت اقتصادياتها، بحيث أن الدخل القومي لدولة أوروبية واحدة هي إسبانيا يوازي حاليا مجموع الدخول القومية للعالم العربي بأسره.
ويعتبر الدكتور عويس أن فكرة المناطق الحرة التي طرحها الرئيس بوش تنطوي من حيث الشكل على ما سعت إليه الولايات المتحدة منذ بدء عملية السلام في اوسلو لإقامة شرق أوسط جديد تندمج فيه إسرائيل مع الدول العربية، وقال: “إنه سبق وحاولت واشنطن من خلال عقد مؤتمرات القمة الاقتصادية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا بدءا من الدار البيضاء ومرورا بالقاهرة وانتهاء بالدوحة تحقيق ذلك الهدف، ولكنه اصطدم في كل مرة بحاجز الفشل في التوصل إلى تسوية سلمية عادلة للصراع العربي الإسرائيلي”.
ويذهب أستاذ الإقتصاد في جامعة جورجتاون إلى أن المبادرة التي طرحها الرئيس بوش لتحقيق التعاون الاقتصادي في المنطقة من خلال مناطق للتجارة الحرة تقام على مدى عشرة أعوام مرتبطة تماما بما سيمكن تحقيقه لإقرار سلام عادل من خلال خارطة الطريق، والتي لطختها الدماء بعد أيام من قمة العقبة وقد تلنحق بما سبقها من مشروعات أمريكية للاقتصاد الشرق أوسطي .
بــذور الفشـــل
وشدّد الخبير الاقتصادي البارز على عدة نقاط تحمل في طياتها بذور الفشل للخطط الأمريكية المُعلنة:
أولا، إغفال مبادرة بوش لحقائق السياسة القائمة في الولايات المتحدة، حيث لا يمكن لأي رئيس رسم خطة لتنفيذ أي مشروع على مدى عشرة أعوام، لأنه حتى لو تمكن من الفوز بفترة رئاسية ثانية فلن يكون بوسعه سوى تنفيذ ما يخضع منها لفترة بقائه في الحكم والتي تنتهي في أفضل الأحوال في عام 2008 وبعد ذلك يكون بوسع الرئيس التالي وقف تنفيذ المشروع.
ثانيا، لم يحدث أن أجرت حكومة الرئيس بوش دراسات مستفيضة على فرص نجاح مثل ذلك المشروع. وبالتالي، فإنه لا يختلف عن مشروعات التكامل الاقتصادي العربي التي تستند إلى الشعارات البعيدة عن الجدية.
ثالثا، استناد فرص نجاح التعاون الاقتصادي في المنطقة إلى تحقيق تسوية عادلة وشاملة في المنطقة يلقي ظلالا من الشك على جدية المشروع، لأن تحقيق مثل ذلك الهدف سيصطدم بدون شك بعجز الحكومة الأمريكية عن ممارسة الضغط اللازم على إسرائيل لتقديم التنازلات اللازمة لتحقيق السلام بسبب التغلغل الصهيوني في الإدارة الأمريكية الحالية، ولأن سعي الرئيس بوش للفوز بفترة رئاسية ثانية سيجعله تحت رحمة أصوات اليهود الأمريكيين وليس بينهم إلا نسبة قليلة تنادي بالسلام العادل .
جزرة بوش أطروحة مؤقتة
ولكن لماذا يطرح الرئيس بوش مشروعا طموحا كهذا في أعقاب الحرب على العراق والتي شكلت العصا الأمريكية الغليظة الأداة الرئيسية للإدارة الأمريكية بوجه كل من يعصي توجهاتها في المنطقة العربية؟
يجيب الدكتور طارق يوسف، أستاذ الاقتصاد بمركز الدراسات العربية المقارنة بجامعة جورجتاون فيقول، إنه كان يلزم الإدارة الأمريكية بعد الزلزال العنيف الذي هز الأمة العربية من خلال زحف القوات الأمريكية على عاصمة الخلافة في بغداد وممارسة الولايات المتحدة لدور جديد في المنطقة العربية كقوة احتلال، كان يلزم استخدام ورقة توت لتغطية سوءات ذلك العمل وتلميع السياسات الأمريكية بالظهور بمظهر من يتعامل مع القضايا الجوهرية التي يمكن أن تلفت أنظار الشعوب وتلهيها لفترة ما بوجود أمل في نهاية النفق المظلم. فكان طرح الرئيس بوش لخطة خارطة الطريق التي تعد بإقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2005 لكي يمكن التوصل إلى تسوية للصراع الطويل على ارض فلسطين.
ونظرا لإدراك واشنطن لمدى فداحة معاناة الشعوب العربية من تدني معدلات التنمية وتدهور الأداء الاقتصادي ومستوى المعيشة في كثير من الدول العربية، فلا بأس من إطلاق مبادرة للشراكة الاقتصادية وإقامة تعاون اقتصادي مع الدول العربية عن طريق إقامة مناطق للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة. ويقدم الدكتور طارق يوسف عدة أسباب تدعو إلى الاعتقاد بان جزرة بوش هي أطروحة مؤقتة:
أولا، الطرح الأمريكي غلب عليه طابع الخطاب السياسي الشكلي بعيدا عن أي مضمون حقيقي. فالحديث عن تحسين الفرص الاقتصادية في الدول العربية جاء انطلاقا من اعتقاد المسؤولين الأمريكيين بأن الإرهاب الذي تعرضت له الولايات المتحدة في سبتمبر 2001 جاء من خلفية الفشل التنموي والاقتصادي في المنطقة العربية، ومع ذلك، فإن طبيعة طرح مبادرات اقتصادية على هذا المستوى تفضي إلى ضرورة أن يسبقها الكثير من التخطيط والمداولات السياسية والفنية، وهو ما لم يحث على الإطلاق في هذه الحالة. كما أن مبادرة على مثل هذه الدرجة من الأهمية، لم يتم تناولها بأي صورة في قمة شرم الشيخ العربية الأمريكية أو في أي لقاء عربي أمريكي.
ثانيا، إن أي اتفاق اقتصادي أمريكي مع العالم الخارجي يجب أن يتم التصديق عليه في الكونغرس الأمريكي بعد مناقشات مستفيضة، وهو ما لم يتم في هذه المبادرة الشكلية التي لن تحظى باهتمام يذكر فيما تبقي من فترة بوش الرئاسية.
ثالثا، إن تجارب الدول العربية الصديقة بالفعل للولايات المتحدة في محاولة الحصول على ميزات التجارة الحرة مع أمريكا لا تبشر بأي خير. فمصر تحاول منذ سنوات التوصل إلى اتفاق للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة ورغم تنفيذها لجانب لا بأس به من متطلبات إقامة منطقة للتجارة الحرة مع واشنطن، لم يتم تحقيق إنجاز يذكر فيما يتعلق بموافقة الجانب الأمريكي، وعندما سئل الممثل التجاري الأمريكي عن احتمال زوال العقبات أمام مصر في إطار مبادرة الرئيس بوش، قال، إن المبادرة تقتضي تقديم تنازلات كثيرة سياسية وأمنية ليمكن التوصل إلى مستوى من التعاون الاقتصادي على مدى عشرة أعوام.
القصور الكامن في مبادرة التعاون
أما الدكتور إبراهيم البدوي، المستشار والخبير الاقتصادي بالبنك الدولي، فيرى أن مبادرة التعاون الاقتصادي الأمريكي مع دول الشرق الأوسط تستهدف فرض التحول نحو الديمقراطية في العالم العربي بتنفيذ إصلاحات سياسية تحددها الولايات المتحدة مثل زيادة الاهتمام بتعليم المرأة وفرص مشاركتها السياسية، واحتواء فكرة التجمع الاقتصادي العربي لتحل محلها فكرة الشرق أوسطية بدمج إسرائيل في ذلك الإطار، وسيوفر ذلك النسق فرصة لإحكام السيطرة الاقتصادية على المنطقة التي تعاني دولها العربية من حالة ضعف اقتصادي وعجز سياسي يؤهلها لتصبح فريسة للاستفراد الاقتصادي والتبعية السياسية.
وحدد الدكتور إبراهيم بدوي مجموعة من العوامل التي تكشف أوجه القصور في مبادرة بوش للتعاون الاقتصادي مع دول المنطقة هي:
أولا، ارتباطها الشرطي بنجاح خارطة الطريق في إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وفتح آفاق التطبيع والتعاون الإقليمي في كافة المجالات، وهو ارتباط ينطوي على احتمالات من الفشل تفوق بكثير احتمالات النجاح.
ثانيا، ارتباطها العضوي بافتراض حدوث تحول نحو الديمقراطية في العالم العربي من خلال الإصلاحات السياسية التي تحددها الولايات المتحدة، وهو ارتباط يغفل حقيقة انه لا يمكن فرض الديمقراطية من الخارج ولا إملاء تجربة ديمقراطية نمطية على أنها تصلح للتطبيق في كل مجتمع.
ثالثا، الاقتصاديات العربية فشلت أصلا في التعاون فيما بينها على مدى عقود من الزمن بدليل أن الاستثمارات الخليجية في الخارج زادت عن ستمائة مليار دولار في العام، بينما لم تزد الاستثمارات العربية البينية عن ستة مليارات؟
ولن يمكن للدول العربية الاستفادة من الفرص الاقتصادية التي قد يوفرها مشروع المناطق التجارية الحرة مع الولايات المتحدة طالما بقيت طرفا متلقيا وليس شريكا في العملية التجارية، كما سيسهل الاستفراد الأمريكي بكل دولة على حدة باستثمار الفرقة القطرية للأنظمة العربية والتناقض بين القول والعمل، كما سينطوي تنفيذ المشروع على تقديم الدول العربية تنازلات أمنية وسياسية ضخمة قد لا تتناسب مع ما قد يعود عليها من منافع اقتصادية إن صدق الرئيس الأمريكي في مشروعه للتعاون الاقتصادي مع دول المنطقة.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.