اليمن بين نفوذ القبيلة ونفاذ القانون
من المؤكّـد، أن القبيلة في اليمن مُـكَـوِّن اجتماعي، وفاعل سياسي يتعذر تخطّـيه أو التمويه عليه، وهذا المُـكون يزداد تأثيره يوما بعد يوم.
لكن، عندما يغدو ذلك التأثير تجاوزا للقانون وتصرفا خارج المسؤولية والقانون، فإنه يصبح مَـبعثا للمُـحاكاة والتمثل، مما يُـؤدّي إلى شيوع الاستهانة بسُـلطات الدولة.
حاول رئيس الوزراء اليمني عبد القادر باجمال خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده يوم السبت 8 يناير الجاري أن يكون كيسا فطنا، عندما تجاهل سؤال أحد الصحفيين له حول تعرُّضه لاعتداءين متتالين في مجلس النواب في ظرف أقل من شهرين.
وعلى ما يبدو، فإن رئيس الحكومة بالتزامه أسلوب التجاهل الذي اتّـبعه إزاء هذه النازلة منذ أول وهلة، كان يرمي من ورائه إلى وضع حد للجدل الذي ثار في اليمن حول العلاقة بين الدولة والقبيلة عقب الحدث، فيما يبقى لُـبّ إشكالية تلك العلاقة قائمة، وتنتظر مبادرة جريئة لحلحلة التماس والتداخل المعقّـد، بين سلطان القبيلة والدولة.
حساسية السلطة والقبيلة
ويرى المراقبون والمتابعون لمُـجريات الأمور أن الحصافة التي تظاهر بها باجمال وهو يرُد على ذلك التساؤل بقوله “سأعتبر أني لم أسمع السؤال”، كشفت عورة المستور، أكثر من أنها عملت على مواراته أو حجبه في بلد تظل هذه الأخيرة فيه لاعبا سياسيا بارزا، كثيرا ما يجري التّـمويه عليه بسبب الحضور الفاعل والقوي لرموز قبلية داخل مراكز صُـنع القرار، وخِـشية من التّـصادم مع هذه المؤسسة العريقة أو بدافع الحِـرص على أن يبقى الدّور السياسي للقبيلة مؤثّـرا وفعّـالا على اعتبار أنها مُـكوّن من مكوّنات التوازن السياسي في اليمن.
وحسب أولئك المراقبين، فإن عملية التّـمويه هذه على سطوة ونفوذ القبيلة، أمر مُـعتاد ومُـؤشر قوي على الحساسية البالغة التي تُـطرح كلّـما أُثِـير موضوع العلاقة بين سلطان الدولة وسلطان القبيلة، حتى وإن تعلّـق الأمر بتجاوزات وخروقات النظام والقانون من قِـبل بعض العناصر القبلية.
وبالتالي، فإن تعاطي رئيس الحكومة اليمنية مع حادثتي الاعتداء عليه، يأتي ضمن تلك المحدّدات عندما اختار التمويه وآثر الصمت على الحديث، على الرغم من أن الاعتداء وصل حدَّ التهديد بالقتل من قِـبل حِـراسة رئيس مجلس النواب، الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، رئيس الهيئة العليا للتجمع اليمني للإصلاح، ومرافقي نجله الشيخ حسين بن عبد الله، العضو البرلماني عن المؤتمر الشعبي العام “الحزب الحاكم”، حسب ما ذكر حينها.
تطابق الدولة والقبيلة
وكانت حادثة الاعتداء عمِـلت على إنعاش الحديث حول إشكالية قديمة مُـتجدّدة، بعثت على الاعتقاد بأن ثمّـة تحوّلا مُـهمّـا حِـيال علاقة الدولة بالقبيلة، لاسيما بعد أن تزايدت حدّة الانتقاد في الصحافة الرسمية، وبشكل غير مسبوق، ضد مُـرتكبي الحادثة من جهة، وضد ظاهرة الحِـراسات الشخصية “بودي جارد” للمشايخ والمتنفذين من زعماء القبائل، الذين أصبحت مواكب بعضهم تُـنافس مواكب كبار المسؤولين في البلاد.
وفي تعليقه على ما حصل، قال الدكتور فارس السقاف، رئيس مركز دراسات المستقبل، ورئيس الهيئة العامة للكتاب لسويس انفو: “الحادث يُـعيد طرح الإشكال إلى الواجهة في أعلى مُـستوياتها في العلاقة بين مؤسسات الدولة والقبيلة، مما يتردّد يَـقِـينا، هو تـغَـوّل القبيلة على مؤسسات الدولة، وربما أن هذا الحادث يُـساعد السلطة على طرح هذه المشكلة بوضوح، لفضِّ الاشتباك بين المؤسستين، وفصل الدولة، لأن القبيلة أضْـحت تأخُـذ من اختصاصات الدولة ووظائف الدولة الكثير، أما إذا بقت في وضعها الطبيعي ومجالها المعهود في البنية الاجتماعية، فلا ضير من ذلك. ولهذا، يجب أن تُـطرح القضية على كافة المستويات للانتصار لدولة النظام والقانون”.
وحول مع إذا كان يُـمكن تحييد أو تحجيم القبيلة والانتصار للدولة بتلك البساطة، استطرد السقاف قائلا “أعتقد أن الجميع على استعداد للتفاعل مع هذا الأمر والتجاوب، لأن المجتمع بكل فئاته يشكُـو من ضعف دولة النظام والقانون، واعتقد أن الدولة ستكون جادّة في المرحلة القادمة للانحياز لهذا الخيار، وقد شرعت في بعض التأسيسات ونحس بأهمية هذا الموضوع من خلال التصريحات الأخيرة لرئيس الدولة بهذا الشأن”.
ومن جهته، يرى الأستاذ جمال عامر، رئيس تحرير صحيفة “الوسط” اليمنية المستقلة، أنه من الصعوبة بمكان الفصل بين الدولة والقبيلة في اليمن خصوصا وأن معظم صانعي القرار داخل مؤسسات الدولة، هم موجودون فيها بسبب انتمائهم القبلي، كما أن قضايا كثيرة يجري حلها وِفق العرف لا القانون، والنفوذ القبلي صار محميا بالمسؤولية التي تمنح لبعض المنتمين للقبيلة وبعض السياسيين.
ويضيف عامر قائلا: “يطرحون أن اليمن كلها قبائل، وذلك غير صحيح، لأن الذي لا ينتمي لقبيلة، هو من يُـطبَّـق عليه القانون. وبهذا الخصوص، هناك حادثان لهما دلالتهما. الأول، الاعتداء على حسن مكي، القائم بأعمال رئيس الحكومة في عام 1993 وانتهت القضية حينها عرفيا. أما الحادث الثاني، هو ما تعرّض له رئيس الحكومة الحالي. فعقب الاعتداء، شُـكّـلت لجنة للتحقيق، إلا أنها انتهت فور تشكيلها. وبالتالي، يُـمكن الجزم أن الدولة والقبيلة متطابقتان إلى حد يستحيل الفصل بينهما”.
سلطان القانون وسلطان القبيلة
ومن المؤكّـد، أن القبيلة في اليمن مُـكَـوِّن اجتماعي، وفاعل سياسي يتعذر تخطّـيه أو التمويه عليه، وهذا المُـكون يزداد تأثيره يوما بعد يوم.
لكن، عندما يغدو ذلك التأثير تجاوزا للقانون وتصرفا خارج المسؤولية والقانون، وحتى خارج الأعراف القبلية دونما محاسبة، فإن مثل تلك التصرفات تُـصبح مَـبعثا للمُـحاكاة والتمثل، مما يُـؤدّي إلى شيوع الاستهانة بسُـلطات الدولة، وتَـضيع هيبتها في يمّ من الحديث المكرر والمعاد حول مشروع بناء دولة النظام والقانون، إذ أن المعايشة اليومية لكثير أحداث وظواهر متكررة، ارتبطت وترتبط بنفوذ أو صراعات قبلية تستلزم دائما تجديد الحديث عن سلطان القانون، وسلطان القبيلة، وعلى كل لسان يمني في السلطة والمعارضة، وحتى في الشارع الذي يشكّـل المِـحك للمقارنة بين النفوذ القبلي ونفاذ القانون.
عبد الكريم سلام – صنعاء
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.