“انفراج” في ليبيا بعد رفع الحصار
تسعى ليبيا لتطبيع علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد الرفع النهائي للعقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها منذ عام 1992.
وبدا واضحا خلال زيارة خوزيه ماريا أثنار الأخيرة إلى طرابلس أن ليبيا تدرك أن خيار الارتباط بالغرب تترتب عليه تغييرات واسعة سياسية واقتصادية.
ما هي أبرز التطورات المتوقعة داخليا وخارجيا على خلفية طي صفحة “لوكربي” وإنهاء الحظر الذي شل البلد طيلة أكثر من 10 أعوام؟
على رغم الدور الذي لعبته بلدان عربية عدة، خصوصا مصر وتونس، في التوسط لإيجاد تسوية بين فرنسا والولايات المتحدة من جهة، وليبيا من جهة ثانية لحل قضيتي “لوكربي” و”يو. تي.آي”، فإن العنصر الحاسم في تطبيع العلاقات الليبية – الغربية مازال مرهونا بتقدم الاتصالات المباشرة بين الجانبين، والتي يشارك فيها كبار مساعدي الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي، فيما يتولى هو متابعتها والإشراف عليها شخصيا.
حققت ليبيا التي استفادت من الدرس العراقي تقدما كبيرا في استرضاء الإدارة الأمريكية الحالية بعدما اتسمت علاقاتها مع إدارة الرئيس السابق كلينتن بالتوتر، خصوصا لدى تسليم مواطنيها عبد الباسط المقرحي والأمين فحيمة للسلطات الهولندية، تمهيدا لمثولهما أمام محكمة سكتلاندية في قاعدة كامب زاست الأمريكية القريبة من لاهاي.
وأتى التفاهم الأمريكي – الليبي تتويجا لحوار غير معلن، استمر سنوات قبل أن ينتقل إلى العلن اعتبارا من سنة 2001، لما بدأ المندوب الليبي الدائم لدى الأمم المتحدة (سابقا) أبوزيد عمر دوردة جولات حوار مع مسؤولين أمريكيين، أبرزهم القائم بأعمال المندوب الدائم لدى الأمم المتحدة جيمس كانينغهام بعد وساطة قام بها المندوب البريطاني جيريمي غرينستوك الذي حضر جولات الحوار.
خصوصيات الدبلوماسية الليبية!
لكن اللقاءات التي أعقبتها، جمعت مساعد وزير الخارجية الأسبق لشؤون الشرق الأوسط دينيس روس، ولاحقا خلفه وليم بيرنز مع كل من السفير الليبي المكلف بملف “لوكربي” عبد العاطي العبيدي، والسفير الحالي في لندن محمد بلقاسم الزوي، وكلاهما شغلا مناصب حكومية رفيعة سابقا على رأس وزارتي الخارجية والداخلية، مما جعلهما من أقرب مساعدي القذافي.
غير أن المحادثات الرامية لتطبيع العلاقات الثنائية مرت بمرحلة سابقة طرحت خلالها الإدارة الأمريكية شروطا قاسية على الليبيين، من بينها فتح حوار مباشر مع إسرائيل، وتغيير موقفهم المعارض لمسار التسوية السلمية في الشرق الأوسط.
وتم لقاءان في هذا الإطار في جزيرة جربة التونسية بين موفدين ليبيين وإسرائيليين، وساعد محمود عباس (أبو مازن) الذي حضر اللقاءين على ترتيبهما، إلا أنهما لم يسفرا عن نتيجة ملموسة، لأن الليبيين لم يستطيعوا قبول الاقتراحات الإسرائيلية بشأن تطبيع العلاقات.
وبفضل الوساطة التي قام بها كل من رئيس جنوب إفريقيا السابق، نلسن مانديلا والسفير السعودي لدى الولايات المتحدة، الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز بين أمريكا وليبيا، بطلب من العقيد القذافي، أمكن وضع القضية على سكة الحل منذ اللحظة التي قبل فيها الليبيون تسليم المقرحي وفحيمة للمحاكمة في أبريل 1999 لتعلق فورا العقوبات الأممية في حق بلدهم.
واستغرقت المحاكمة حوالي سنتين، إذ نطقت المحكمة الإسكتلندية بحكمها في أواخر فبراير 2001، فبرأت ساحة فحيمة وقضت على المقرحي بالسجن مدى الحياة، وخففت الحكم في الاستئناف إلى عشرين عاما.
إلا أن واشنطن اعتبرت تلك الخطوة غير كافية، وإن رحبت بها، إذ أنها اعتبرت (وما زالت) تطبيع العلاقات الثنائية مرهونا بالاستجابة لأربعة شروط لابد من تحقيقها معا، هي “التوقف عن دعم الإرهاب” و”تحمل الحكومة الليبية المسؤولية الكاملة عن أعمال الرسميين الليبيين” في إشارة إلى المقرحي وفحيمة اللذين تعتبرهما واشنطن عنصرين مهمين في جهاز الاستخبارات، و”كشف ليبيا كل المعلومات التي بحوزتها حول حادثة لوكربي”، وأخيرا دفع تعويضات لأسر الضحايا.
هذا الموقف الذي أعلنه الرئيس جورج بوش تعليقا على إصدار المحكمة الإسكتلندية في هولندا حكمها على المشتبه فيهما يوم 31 يناير 2001 لم يتغير إلى اليوم.
وعليه، فإن دفع التعويضات المجزية التي حصلت عليها أسر ضحايا الطائرة الأمريكية لم يكن كافيا لرفع العقوبات الأمريكية على ليبيا، رغم أن حجم التعويض أثار حفيظة فرنسا.
وكان الناطق باسم الخارجية الأمريكية قال بوضوح في مطلع فبراير 2001 “إن العقوبات الأمريكية السابقة لتفجير طائرة بان. آم 103 ستبقى سارية المفعول، حتى لو رفعت عقوبات الأمم المتحدة أو جرى تعديلها، (لأننا ) نراجع عقوباتنا على أساس كل حالة على حدة”.
الدور البريطاني؟
وعلى رغم هذا التشدد الأمريكي، لعب وزير الخارجية البريطاني السابق روبن كوك، الذي كان مؤيدا للتقارب مع ليبيا، دورا مهما في تليين موقف الإدارة الأمريكية من المسألة، وكشف نظيره باول علنا أنه تحادث معه مرارا في تطبيع العلاقات مع ليبيا. كما صرح مسؤولون أمريكيون آخرون أن واشنطن “تعمل بتعاون وثيق مع البريطانيين في موضوع متابعة ملف لوكربي”.
ومعلوم أن بريطانيا لم تشترط وقف الدعم للمنظمات التي توصف بـ “الإرهابية” لدى تصالحها مع ليبيا، إذ ركّـزت شرطها الرئيسي على دفع تعويض لأسرة شرطية بريطانية قتلت أمام مبنى السفارة الليبية في لندن، واتهم البريطانيون عناصر أمن ليبيين قالوا إنهم كانوا داخل السفارة بإطلاق النار عليها.
وبمجرد الوصول إلى اتفاق بهذا الشأن، رفعت بريطانيا العقوبات التي كانت فرضتها على ليبيا واستُـؤنفت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وعينت طرابلس أمين (وزير) العدل والأمن العام (الداخلية) السابق، محمد بلقاسم الزوي سفيرا لدى بريطانيا.
وتشير معلومات لمصادر أمريكية إلى أن ليبيا استجابت حتى الآن لثلاثة فقط من الشروط الأربعة التي تتمسك بها واشنطن. فهي تعاونت في إلقاء الضوء على ملف “لوكربي” واعترفت بمسؤوليتها عن حادث التفجير، ودفعت تعويضات لأسر الضحايا، لكنها “لم تقدم شواهد وضمانات على الوقف الدائم لكافة أشكال الدعم لنشاطات الإرهابيين” على حد تعبير المصادر الأمريكية.
ويمكن القول إن هذا الشرط المطاط والقابل لقراءات عديدة يدل على أن الإدارة الأمريكية ليست في عجلة من أمرها، وأن رفع العقوبات الأمريكية لن يكون وشيكا، وأبعد منه التطبيع الدبلوماسي بين الجانبين.
ويعتقد دبلوماسيون عرب أن الأمريكيين أفهموا ليبيا أن التطبيع الثنائي مرهون بمدى تعديل الليبيين موقفهم من السلام مع الدولة العبرية، على رغم أن ليبيا أوقفت جميع المساعدات عن الفصائل الفلسطينية والأحزاب اللبنانية التي كانت تقدم لها الدعم في السبعينات والثمانينات.
وتقول الولايات المتحدة إن اتخاذ مجلس الأمن قرارا بالرفع النهائي للعقوبات التي كان قررها في حق ليبيا “ليس شرطا كافيا لإلغاء العقوبات الأمريكية عليها”.
استمرار الحظر الأمريكي
وإذا كانت العقوبات الدولية التي أخضعت لها ليبيا طيلة سبع سنوات، والتي اشتملت على حظر الرحلات الجوية من المطارات الليبية وإليها، وكذلك على المساعدات العسكرية إلى طرابلس وبيع قطع الغيار لصناعة النفط الليبية قد رفعت نهائيا في مطلع الشهر الجاري، فإن ميقات رفع العقوبات الأمريكية المتعلقة ببيع المنتوجات التكنولوجية والعسكرية وحظر عمل الشركات الأمريكية، خصوصا النفطية في ليبيا، مازال بعيدا ولا يمكن التكهن الآن بموعده.
لكن التطبيع الأوروبي – الليبي ليس على مثل هذه الدرجة من الصعوبة، إذ أن الطريق سالكة بين طرابلس والعواصم الأوروبية الرئيسية منذ فترة، وخاصة منذ تعليق العقوبات الدولية في سنة 1999.
أكثر من ذلك، لوحظ تسابق بين الزعماء الغربيين على أخذ حصص من السوق الليبية التي تسيل اللعاب. فكان رئيس الوزراء الإيطالي السابق ماسيمو داليما أول مسؤول غربي حل بطرابلس جوا بعد ساعات من تعليق العقوبات الأممية المفروضة عليها، وفتحت محادثاته مع العقيد القذافي الطريق لمنح الشركات الإيطالية معاملة تفضيلية في ليبيا.
ولم يلبث وزيرا الخارجية الليبي والإيطالي أن وقعا لاحقا في طرابلس معاهدة تعاون وحسن جوار هي الأولى من نوعها حتى الآن مع بلد أوروبي.
واقتفت فرنسا خطى الإيطاليين، فأرسلت وزير التعاون في الحكومة الاشتراكية السابقة، شارل جوسلان للقاء القذافي أملا بتحصيل معاملة مماثلة للتي حصلت عليها روما، على رغم الغيوم التي كانت تلبد سماء العلاقات الثنائية بسبب مضاعفات قضية طائرة “يو.تي .آي” الفرنسية التي أسقطت في عام 1989 فوق صحراء النيجر.
وكانت فرنسا قاضت ستة من كبار المسؤولين في جهاز الأمن الليبي غيابيا بعدما نسبت لهم الضلوع في تفجير الطائرة، وأصدرت ضدهم أحكاما شديدة.
لكن الجانبين توصلا لاحقا إلى تسوية سياسية للملف دفعت بموجبه ليبيا تعويضات لأسر الضحايا قبل أن تتراجع باريس أخيرا وتطالب بتعويضات جديدة في حجم تلك التي حصل عليها ذوو ضحايا حادثة “لوكربي”.
عودة أوروبية قوية إلى ليبيا
أما ألمانيا وإسبانيا، فحافظتا على علاقات طبيعية مع ليبيا، خصوصا على الصعيد الاقتصادي. ولوحظ أن رئيس الوزراء الإسباني خوزي ماريا أزنار انتهز فرصة الرفع النهائي لعقوبات الأمم المتحدة ليسجل سبقا على نظرائه بزيارة ليبيا هذا الأسبوع، والاجتماع مع القذافي سعيا لتوسيع حصة الشركات الإسبانية في السوق الليبية الغنية. ويبدو أن أزنار قدم وعودا بلعب دور مماثل للدور الذي ما انفكت تلعبه إيطاليا دفاعا غن إدماج ليبيا في المسار الأورو متوسطي.
وإذا ما سحبت فرنسا تحفظاتها، فلن تعود هناك عوائق أمام انضمام ليبيا لمسار برشلونة الذي استُـبعِـدت منه لدى إطلاقه في سنة 1995 بالنظر لخضوعها لعقوبات دولية.
إلا أن الليبيين الذين أظهروا في خطابهم المعلن آنذاك انتقادات للمسار الأورو متوسطي بوصفه “مشروعا استعماريا جديدا”، كانوا يوجهون رسائل للحكومات المعنية للمطالبة بمقعدهم في مسار برشلونة مستدلين بكون بلدهم يملك أطول سواحل على البحر المتوسط، إذ يقدر طولها بـ1900 كيلومتر.
ومن هذا المنظور، يعتبر موضوع التطبيع الأوروبي – الليبي هينا وقابلا للحل في الأمد المنظور. وربما ستكون قمة 5+5 التي ستستضيفها تونس يومي 5 و6 ديسمبر المقبل نوعا من “البروفة ” لتكريس المصالحة بين ليبيا والاتحاد الأوروبي، إذ أنها كانت مقررة لمطلع 1992، وألغيت بسبب تفجر أزمة لوكربي.
أما اليوم فلم يعد لقاء الزعيم الليبي القذافي مع الرئيس الفرنسي شيراك أو رئيسي الوزراء الإيطالي برلوسكوني والإسباني أزنار أمرا مربكا.
وفي هذا السياق، يتوقع أن تنضم ليبيا تدريجيا إلى الاجتماعات الوزارية الأورو متوسطية في وضع المراقب كمرحلة أولى، في انتظار تكريس إدماجها رسميا في المسار، علما أنها حصلت منذ الندوة الوزارية التي عقدت في شتوتغارت (ألمانيا) عام 1997 على مقعد مراقب.
الأوضاع الداخلية ودور سيف الإسلام!
أما على الصعيد الداخلي، فإن الطريقة التي حسمت بها قضية التعويضات لضحايا “لوكربي” أشرت إلى اتجاه التطور المستقبلي. فقد عززت مركز سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي، الذي عهد له بتسيير المؤسسة التي تحمل اسمه، والتي ستصرف التعويضات عبرها، وهذا يعزز احتمال أن “خليفة” القذافي قد لا يكون من القادة “التاريخيين” لمجلس قيادة الثورة، خصوصا بعد الإبعاد المستمر للرجل الثاني في القيادة الليبية سابقا، الرائد عبد السلام جلود.
أكثر من ذلك، شكل بروز سيف الإسلام مؤشرا على تقديمه على شقيقه الساعدي الذي كان يعتبر منافسا مهما له في سباق الخلافة. والأرجح أن تقدم أبناء القذافي إلى صدارة الركح السياسي على حساب رجال الأجهزة يشكل بدوره مؤشرا على التخفيف من الخيار الأمني وإرخاء قبضة الأجهزة واللجان الشعبية على المجتمع، واحتمال اتخاذ خطوات انفتاحية استجابة للضغوط الأمريكية والأوروبية من نوع السماح للمنفيين واللاجئين في الخارج بالعودة إلى بلدهم من دون تعرضهم لملاحقات.
ويعتقد مراقبون أن إقرار الحكم في ليبيا بكونه مذنب في قضيتي “لوكربي” و”يو.تي. آي” سيخلخل ثقة النخب والرأي العام فيه ويحرر الألسنة التي كانت معقودة لتنطلق بالنقد للسلطات التي حكمت البلد بيد من حديد طيلة أكثر من ثلاثة عقود.
رشيد خشانة – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.