تعديل كفة الميزان بين الجناحين الغريمين
في حركة باتت مألوفة للعارفين بالشأن الليبي سحب العقيد معمر القذافي "بركته" من رئيس حكومته الدكتور شكري محمد غانم ومنحها لمساعده الطبيب البغدادي علي المحمودي الذي أصبح أمينا للجنة الشعبية العامة (رئيسا للوزراء).
لذلك يندرج التغيير الحكومي في خانة “لعبة التوازن والتعديل” بين الجناحين الغريمين في السلطة.
في حركة باتت مألوفة للعارفين بالشأن الليبي سحب العقيد معمر القذافي “بركته” من رئيس حكومته الدكتور شكري محمد غانم ومنحها لمساعده الطبيب البغدادي علي المحمودي الذي أصبح أمينا للجنة الشعبية العامة (رئيسا للوزراء).
ظاهريا اتُخذ قرارا الإقالة والتكليف في مؤتمر الشعب العام (البرلمان) طبقا للنظام “الجماهيري” الذي يسود ليبيا منذ سنة 1976، غير أن القذافي هو العرَاب الماسك بخيوط اللعبة وراء ستائر “البرلمان” المنعقد في سرت (420 كيلومتر شرق العاصمة الرسمية طرابلس التي لا يرتاح لها “القائد” كما يحب أن يُدعى) طيلة الأسبوع الأول من مارس الجاري.
ويُمكن تشبيه تعاطي القذافي مع الجناحين المتصارعين تحت خيمة حُكمه بحركة الساعة الحائطية، إذ كلما وجه ضربة لأحدهما إلا وأتبعها بضربة مماثلة للفريق المنافس للمحافظة على التوازن.
وعليه توقع المراقبون بعد خطوة العزل المفاجئ لوزير الأمن العام نصر المبروك، أحد رموز القبضة الحديدية للجان الثورية، في أعقاب المظاهرات التي هزت بنغازي ثاني المدن الليبية يوم 17 فبراير الماضي، أن يُطيح برأس بارز من رؤوس الإصلاحيين لتعديل كفة الميزان بين التيارين الغريمين، أي الإصلاحيين والمحافظين.
لكن رئيس الوزراء المعزول غانم لم يُكمل عامه الثالث وقد تسلم المقاليد في يونيو 2003، وكانت تسميته إشارة قوية للتقارب مع الولايات المتحدة ورسالة واضحة على الإنعطاف نحو خط الإصلاحات، خصوصا في المجال الإقتصادي، بيد أن الأكيد أن القذافي لم يُمهله كي يمضي في خطته بسبب ضيق الحرس القديم من إجراءاته وتبرمه المُعلن من تعريض الإمتيازات المُكتسبة للخطر.
مع ذلك قالت شخصية نافذة مُقللة من أبعاد التغيير على رأس الحكومة “ذهب دكتور في الإقتصاد فحل محله دكتور في الطب لعلاج أمراض المجتمع الليبي التي استعصت على الإقتصاديين، فما العيب في ذلك؟”.
نُـــذر الـخـطـر
غير أن الأمر ليس بتلك البساطة لأن غانم المتخرج من الجامعات الأمريكية كان عُنوان مرحلة جديدة دشنها القذافي بالتخلي الطوعي عن أسلحة الدمار الشامل وفتح صفحة جديدة من العلاقات مع واشنطن أذهلت الأمريكيين قبل الليبيين.
وبناء على الثقة التي حصل عليها من القذافي سارع غانم، بتزكية غير خافية من نجله الأكبر سيف الإسلام، إلى تطبيق برنامج إصلاحات واسع وغير مسبوق استرعت اهتمام “اللجان الثورية” فيه ثلاثة عناوين “مُنذرة بالخطر” هي: مكافحة الفساد وخطة خوصصة المنشآت العمومية ورفع الدعم عن المواد الإستهلاكية.
ومادامت تلك اللجان قد تحولت خلال العشريات السابقة إلى أشبه ما يكون ب”النموكلاتورا” Nomenclatura التي حكمت الأنظمة الشمولية السابقة في المعسكر السوفياتي فإنها تخشى من أن تؤدي الخوصصة إلى قطع غصن الزبونية الذي تجلس فوقه، وتخاف من أن تنفلت الجموع تذمرا من الغلاء الجنوني لأسعار مواد الإستهلاك فتخرج عن السيطرة وتُهدد أركان النظام، كما أنها تشعر بخطر النار المقتربة من بيتها كلما ارتفعت نبرة الكلام عن الفساد.
ولم يكن من باب الصدف أن تنحية غانم أتت بعد أسابيع من الإعلان عن تشكيله إدارة جديدة مكلفة بـ “البحث والتحري عن حقيقة ثروات الشخصيات الإعتبارية العامة والخاصة”. وما كان هذا القرار متعارضا مع سياسة العقيد القذافي الذي أطلق دعوة لمحاربة الفساد في يناير الماضي، خلال حضوره جلسة سابقة لمؤتمر الشعب العام، مطالبا بتشغيل جهاز استخبارات مالي “لمكافحة هذه الظاهرة في جميع أشكالها وصورها”.
كما أن غانم واجه انتقادات من المؤتمرات الشعبية لسياسته الليبرالية وخصوصا برنامجه الرامي لخوصصة المؤسسات الاقتصادية العمومية، وكان ينوي أن تشمل حتى المصارف التجارية.
وثالثة الأثافي أنه كان يعتزم الغاء الدعم الحكومي للمواد الاساسية تدريجيا. من هنا يمكن القول إنه اجتاز الخطوط الحُمر وبات القذافي يفكر في التخلص منه، لاسيما بعدما أنشأ موقعا على شبكة الإنترنت قوَض كل التقاليد الإعلامية الجامدة في البلاد وأحرج المحافظين. وكان لافتا أن الإعلان عن تشكيل الإدارة المتخصصة بمكافحة الفساد أتى على موقع اللجنة الشعبية العامة (رئاسة الوزراء) على شبكة الإنترنت.
غير أن القذافي الذي لا يمكن أن يُغامر بإغضاب الأمريكيين حرص على إضعاف غانم لكنه لم يُبعده تماما إذ عهد له بإدارة ملف النفط الذي يُعتبر في قلب العلاقات الليبية – الغربية، مستفيدا أولا من خبرته الأكاديمية في هذا القطاع ثم مستثمرا الثقة التي يتمتع بها لدى الشركات الامريكية في ليـــبيا.
خطوة مزدوجة …
لكن سحب الملف السياسي من يديه يُعتبر رسالة مفادها أن الإصلاحات في إجازة مفتوحة، فليس المطلوب من المحمودي وطاقم التكنوقراط الذي يُؤلف الحكومة الجديدة متابعة تنفيذ الخيارات التي وضعتها الوزارة السابقة وإنما مجاراة المناخ “الثوري” العام على رغم النهج المتقارب مع أمريكا الذي يتوخاه القذافي منذ فترة.
ولم تخلُ تشكيلة الحكومة الجديدة من إشارات إيجابية لأمريكا والغرب عموما، لعل أبرزها تعيين السيدة بخيتة الشلاوي وزيرة للشؤون الإجتماعية وأبو زيد عمر دوردة الذي أمضى سنوات في أمريكا مندوبا دائما لليبيا في الأمم المتحدة وزيرا للإسكان والمرافق. ولم تكن حكومة غانم تضم وزارات الشؤون الاجتماعية والاسكان والصحة والتعليم العالي التي كان يشرف على شؤونها مفتشون تابعون للجنة الشعبية العامة (رئاسة الوزارة).
أما غرماء غانم الذين سعوا للإطاحة به منذ مدة وعارضوا سياسته الإصلاحية فسجلوا نقطة مهمة بترقية نائب وزير الداخلية صلاح رجب المسمري إلى منصب وزير بعدما ظلت الوزارة بلا وزير منذ عزل نصر المبروك عبد الله الذي اقيل من منصبه على خلفية استخدام القوة المفرطة الشهر الماضي في بنغازي.
وتدل سرعة التخلص من غانم الذي يحظى بدعم الأمريكيين على مدى إدراك العقيد القذافي لدرجة المخاتلة الأمريكية في طرح ملف حقوق الإنسان والحريات، فهي تتعاطى مع ليبيا وفقا لأجندة نفطية أولا وأخيرا، لذلك استطاع أن يطوي دفتر الإصلاحات وهو واثق من أن العملية لن تُلقي ظلالا على علاقاته مع الولايات المتحدة. ولا شك بأن هذه القناعة تبلورت من خلال لقاءاته المتكررة مع مسؤولين أمريكيين كُثر زاروا ليبيا وكانوا لا يحملون معهم سوى ملفات أمنية أوعسكرية.
ولعل في خطوة إطلاق سجناء الإخوان المسلمين من المعتقلات الليبية رسالة مزدوجة لواشنطن مؤداها أن النظام واثق من استقراره ولا يخشى من أخطر الخصوم على بقائه، وثانيا أن الإصرار الأمريكي على رفع يافطة الإصلاح (وهو عنوان مشروع “الشرق الأوسط الكبير”) لا يمكن أن يؤول سوى لتقوية التيارات الأصولية المعادية للغرب، في إشارة إلى التجربة الأفغانية التي يغص بها حلق الأمريكيين.
رشيد خشانة – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.