“تـنـاطـح” و “تـنـاصـح” بين الشرق والغرب
شهدت مداولات "مؤتمر قطر الرابع للديمقراطية والتجارة الحرة" حوارات معمقة وهامة بين ممثلين عن النخب العربية والغربية.
وقد تركزت النقاشات على مشاريع الإصلاح الأجنبية الموجهة للمنطقة العربية وإمكانيات نجاحها وعوامل فشلها.
لم يكن عدد رواد مؤتمر قطر للديمقراطية والتجارة الحرة يزيد عن سبعين شخصا في دورته الأولى التي انعقدت قبل ثلاث سنوات.
لكن دورته الرابعة التي احتضنتها الدوحة بداية الأسبوع الجاري، شهدت ارتفاع عدد المشاركين فيه إلى زهاء الخمسمائة شخصية بين أكاديميين وسياسيين وبرلمانيين وصناع قرار إعلامي من مختلف أرجاء العالم، مما أثار قدرا من النقاش حول مدى الفائدة التي يُـمكن تحصيلها من وراء هذا النوع من مؤتمرات “الزوابع الفكرية”، التي تعددت في العالم العربي، في وقت تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط أوج الصدام بين الشرق والغرب، مجسما في العراق وفلسطين.
وفي حين يميل عدد من المراقبين إلى مقولة أن “الشرق شرق والغرب غرب” في إشارة إلى التباين الثقافي والتصادم السياسي وحتى العسكري الواضح بين الجانبين على الميدان، فإن البعض الآخر يعتقد في “وجوب قيام مثل هذه المؤتمرات للحوار العربي الغربي بشكل أعمق وأجَـد”، كما يرى محمد فايق، رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان، والذي يستطرد قائلا لسويس انفو إن “الأمريكيين يسمعون نقدا شديدا في هذه المؤتمرات، ويلمسون ردة فعل النّـخب العربية على سياساتهم بشكل مباشر، مما يساعدهم على تعديل سياساتهم”.
سيطرة المشاركة الأجنبية
ويعتقد أستاذ جامعي مغاربي، فضّـل عدم الكشف عن هويته، أن “العالمين العربي والغربي جربا المواجهة طويلا، فكانت النتيجة تصادما عسكريا أودى إلى عدد قياسي من الحروب في منطقة الشرق الأوسط، بما أوصل الطرفين إلى قناعة مؤداها ضرورة الانفتاح على بعضهما عن طريق الحوار عبر مثل هذه المنابر”.
لكن المتحدث ذاته يعيب على مؤتمر الدوحة سيطرة المشاركة الأجنبية على حساب المشاركة العربية، ويشاطره الرأي في ذلك الدكتور محمد المسفر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة قطر، الذي صرح لسويس انفو أن “الفائدة ستكون أوفر إذا تم الدفع بالنخب القطرية والعربية وبالطلبة لحضور أقوى في المؤتمر”.
ومع ذلك، فقد كان واضحا من خلال بعض الجلسات أن عددا من رموز النّـخب الغربية يتحدثون بلسان زملائهم العرب، مثلما حدث في جلسة العراق التي حملت عنوان: “هل التدخل الأجنبي حافز أم عائق أمام الديمقراطية في الشرق الأوسط؟” التي ساد مداولاتها شبه إجماع على استبعاد نتائج إيجابية من وراء التدخل الأجنبي لنشر الديمقراطية.
قلب الفعل
وتأتى الجلسة الأكثر استقطابا للجمهور في المؤتمر، والتي رأستها “روز ماري هوليس”، رئيس المعهد الملكي للشؤون الدولية ببريطانيا على خلفية مبادرة الإصلاح الأمريكية المعروفة بالشرق الأوسط الكبير، حيث ترى “كلير سبنسر”، مديرة النجدة المسيحية في الشرق الأوسط أن “الوقت الذي نُـعلِّـم فيه الناس قد انتهى، وأنه يجب أن يكون لهؤلاء الناس الدور الأكبر في إقامة مشاريع إصلاحهم”.
واضافت “سبنسر” أن إحساسا يغلب عليها بأن “الأوروبيين والأمريكيين ينفقون وقتا طويلا في تعليم العالم العربي أصول الديمقراطية، في حين أنه يجب عليهم الاهتمام أكثر بتطوير ديمقراطيتهم الناقصة”.
واستعرضت المتحدثة “المثال الإيطالي الذي فكر في إعطاء رئيس الوزراء حصانة مدى الحياة”، كما انتقدت الممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقالت إنها تنتمي إلى الجيل الذي حضر انهيار جدار برلين، لكنها تشعر اليوم “بالصدمة لظهور جدار الفصل الإسرائيلي الذي يُـقام في وجه شعبين” واصفة ذلك بأنه “وصمة عار”، ودعت إلى التوقف عن الكلام والمرور إلى الفعل.. وقلب الفعل هو: “الصراع العربي الفلسطيني” في رأيها.
شراكة مع القيادات
وكان المؤتمر قد شهد جلسة أخرى هامة، ناقشت “تأثير الأزمات وعدم الاستقرار على تطور الديمقراطية في الشرق الأوسط”.
ويتكرس الخلاف حول القضايا الشرق أوسطية بين المتدخلين الأجانب أنفسهم، عندما تقول البرلمانية البريطانية “فيليكس ستاركي” إن بلادها “تضغط على الولايات المتحدة من أجل تعديل مواقفها تجاه قضايا الشرق الأوسط”.
لكن زميلتها “كلير سبنسر” ترد عليها بأن “الناس لا يرون أثرا لذلك الضغط سوى مزيدا من استعمال حق النقض، والقرارات المجحفة”، داعية إلى “ممارسة قدر أكبر من الضغط على واشنطن لتأخذ قضايا منطقة الشرق الأوسط على محمل الجد”.
وتعود “فيليكس ستاركي” للقول إن لا أحد يرفض الإصلاح الديمقراطي في المطلق، “لكن الناس يصابون بالإحباط ويشعرون بالإذلال عندما يرون التغيير يأتي من الخارج”.
واستشهدت البرلمانية البريطانية بآخر استطلاع للرأي في العراق قائلة، إن “41% من العراقيين يعتقدون أنه قد تم تحريرهم، لكن نسبة مماثلة من العراقيين يعتقدون أيضا انهم يشعرون بالمهانة لأنهم محتلون”، مستطردة أن “تطورات الأحداث الأخيرة، ترجح ارتفاع نسبة الذين يشعرون بالإذلال، نتيجة الاحتلال”، وخلصت المتحدثة إلى ضرورة “قيام شراكة حقيقية مع قيادات المنطقة للتوصل إلى التغيير المنشود”.
وفي نفس الاتجاه، قال “بول ستيفنز”، البروفيسور في سياسة البترول والاقتصاد بجامعة داندي، إن “نسبة الاستثمار العالمي في الشرق الأوسط قبل عام 1990 كانت في حدود 10%، لكنها تراجعت اليوم إلى 0,05%”، وأضاف أن من أسباب ذلك هو “غياب الشفافية وضعف العمالة المؤهلة، ووجود الخوف والإرهاب، وبالتالي، غياب بنية اقتصادية سليمة”، لكنه استطرد قائلا إن “التدخل العسكري لن يستطيع تعديل هذه النسب المتدنية”.
في المقابل، يرى المشارك الجزائري سعد جبار من مركز دراسات شمال إفريقيا في جامعة كامبردج أن “الإدارة الأمريكية مطالبة بإقامة نموذج ديمقراطي ناجح في العراق، لأن غير ذلك، سوف يناسب الديكتاتوريات العربية وسوف يزيد من نبرة التلكؤ في الإصلاح ومن مبررات التخلف عنه لدى هذه الأنظمة”، ودعا الأمريكيين الى “اتخاذ خطوات ملموسة لدعم القوى الديمقراطية، مثل الضغط على السلطات الحاكمة بعدم التعرض بالقوة للمسيرات الشعبية على شاكلة ما حدث في صربيا” أو “بمساعدة ديناصورات الحكم في البلدان العربية على الرحيل من السلطة مع التعهد لهم بعدم ملاحقتهم بتهم الفساد”، وأضاف أن “العرب يقاومون مشاريع الإصلاح، لأنهم لا يملكون أي مشروع بديل”.
حــوار مُـفـيـد وانفتاح قطري
وكان الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير قطر الذي افتتح المؤتمر الرابع للديمقراطية والتجارة الحرة في الدوحة، قد دعا إلى “عدم التذرع بما يفعله الآخرون لتبرير عدم اللحاق بركب التقدم”، والى “الانفتاح على ما يعرض من أفكار فيتم دراستها بعناية حتى إذا قُـبلت، كان قبولها مطمئنا، وإذا رُفضت يكون رفضها مبررا يعمل العقل قبل النقل”. فكان واضحا منذ البداية أن مؤتمر الديمقراطية والتجارة الحرة يدور في حلقته الرابعة على وقع مشاريع الإصلاح الأجنبية الموجهة للمنطقة العربية.
ويعتقد الدكتور حمد الكواري، وزير الإعلام القطري السابق أن “الحوار بين القوى المؤثرة في الرأي العام في الشرق وفي الغرب مفيد على الدوام لمحاولة التفاهم حول القضايا المعلقة بين الجانبين”، ويعتقد أن قطر تنطلق من دورها العربي والإسلامي لإتاحة فرصة الحوار بديلا عن الصدام، مضيفا أن لذلك آثارا إيجابية على المستوى الإقليمي، وأيضا من شأنه “إشاعة الوعي بالتحولات العالمية على المستوى المحلي”.
من جهته وصف أحد منظمي المؤتمر، الدكتور حسن الأنصاري، مدير مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية الأمر بأنه “يدخل في إطار تكريس المسار الديمقراطي القطري”.
وكان وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني الذي حضر فعاليات المؤتمر بكثافة، قد عبر عن سعادته بنتائج هذا الحوار، واعتبر المؤتمر ناجحا باطراد، مستدلا على ذلك بالعدد المتزايد من المهتمين بالمشاركة فيه، كما أعلن الوزير القطري عن نية تطوير المؤتمر، رغم أنه فضّـل أن تظل نهاياته بدون توصيات، حفاظا على أجواء الحرية التي يشعر بها المتحدثون، واستبعادا لإلزامهم بأمر ما قد لا يتواءم مع طبيعة المؤتمر الحوارية”.
وفي المحصلة، اتفق الجميع على أن قطر تربح كثيرا من وراء لعب دور المجمع للآراء المختلفة والمتناقضة أحيانا على أراضيها.
فعلاوة على الصيت السياسي الذي تكتسبه من خلال احتضانها لمؤتمرات “الزوابع الفكرية”، تُـكرّس نفسها كرائدة للانفتاح في منطقة يشكل الانفتاح هاجسها وتحديها الأول، داخليا وخارجيا، رغم تأكيد وزير خارجية قطر على أن مؤتمر التجارة الحرة والديمقراطية ليس موجها ضد أحد، بل هو في مصلحة المنطقة، على حد قوله.
فيصل البعطوط – سويس انفو
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.