تونس: تمرّد أهالي الحوض المنجمي يطرح الملف الإجتماعي بقوة
بعد مُـلازمة الحذر والهدوء لفترة استمرّت حوالي ثلاثة أشهر، نفَـد صبر السلطات التونسية وقررت وضع حدٍّ للحركة الاحتجاجية التي اندلعت بمناطق الحوض المنجمي، باللّجوء إلى القوة، وذلك عبر اجتياح عدد واسع من قوات الأمن لمدينة الرديف، الواقعة بالجنوب الغربي والتابعة إداريا لولاية (محافظة) قفصة، المعروفة تاريخيا باستعداد سكّـانها للتمرد والاحتجاج.
وتقول إحدى رِوايات شاهِـد عِـيان، إنه في فجر يوم الاثنين 14 أبريل الجاري، وبينما كان أهالي معتمدية الرديف غارقين في نومِـهم، إذا بعددٍ واسعٍ من رجال فِـرق التدخّـل السريع يقتحمون البيوت وينهالون على السكَّـان المحتجِّـين على ذلك بالعصي..
ولم تمضِ سوى فترة وجيزة، حتى تحولت البلدة إلى ساحة مواجهة مفتوحة على جميع الاحتمالات. من جهة، قوات الأمن بتجهيزاتها المعروفة بما في ذلك الغازات المُـسيلة للدّموع، ومن جهة أخرى، الأهالي وفي مقدِّمتهم الأطفال في سّن اليافعين، يردّون على الشرطة بالحِـجارة وحرق العجلات المطاطية.
لقد تحوّل المشهد بسرعة إلى حالة أشبه ما تكون بالعِـصيان المدني. وبالرغم من الإيقافات التي شملت بعض العناصر، التي اعتبرت محرّضة، إلا أن الاشتباكات تجدّدت يوم الثلاثاء 15 أبريل، بعد أن وضِـعت المدينة تحت حِـصار أمني شِـبه كامل. فما الذي حدث؟
قبل الشروع في اقتحام المدينة، قام عدد من الشبان الملثّـمين بتنظيم هجوم على مركز الأمن الواقع بوسط البلدة وحطّـموا ما فيه من تجهيزات، ممّـا دفع بالعدد القليل من أفراد الشرطة، الذين كانوا بالحراسة إلى الفرار. والسؤال الذي ليس له جواب، قطعي إلى حدّ كتابة هذا المقال: من هم الذين نفَّـذوا هذا الاعتداء؟ ومن يقف وراءهم؟
عرفت تونس بأن من بين ثرواتها الطبيعية القليلة، منجم الفسفاط الذي يقع بجنوب البلاد، وقد كان هذا المنجَـم بالنسبة لسكان الجِـهة، مصدر قوّتهم الوحيد ومحور حياتهم الاقتصادية والاجتماعية، لكن أصيب المنجم بالشيخوخة وتراجع عطاؤه، وهو ما دفع بالشركة القائمة على استغلاله إلى تقليص عدد العاملين به.
اتهامات واعتصامات
أما بالنسبة لانتداب كوادر جديدة للشركة، فقد وضعت قواعد عامة لذلك، إضافة إلى نوع من المحاصصة بين السلطات المحلية والفرع التابع لاتحاد العمال، لكن في هذه المرة، شكَّـك عموم الأهالي في نزاهة نتائج المناظرة التي تمّـت، ووجّـهوا للمسؤولين النقابيين المحليِّـين تُـهمة المحسوبية. ونتيجة ذلك، قرّر الكثير منهم القيام باعتصامٍ مفتوح أمام كل الطرق المؤدِّية إلى مدخّـل الشركة، بما في ذلك سكّـة الحديد الخاصة بنقل الفسفاط.
وشيئا فشيئا، تطوّرت أساليب الاحتجاج وتنوّعت بشكل غير مسبوق، حيث نُـصِـبت الخِـيام في الشوارع وعلى خط السكة الحديدية، وشاركت النساء في الاعتصام وتعدّدت المسيرات وحرق إطارات السيارات.
أبدت السلطات قدرا عاليا من الذّكاء وضبط النفس، وهي المعروفة بردودها الحادّة على مثل هذه التحرّكات الاحتجاجية، سواء كانت طلابية أو حقوقية أو سياسية أو حتى نقابية. وكانت قوات الأمن حاضِـرة بكثافة منذ الأسبوع الأول لانطلاق عمليات الاحتجاج، لكنها كانت تكتفي بالمراقبة وتتجنب كلّ مظاهر الاحتكاك بالمواطنين.
كان هناك وعي بدقّـة الحالة وصعوبتها واختلافها عن بقية الحالات التي عرفتها البلاد، لكن، وبشكل فُـجْـئي، قرّرت السلطة تغيير الأسلوب، ربّـما بعد أن يئِـست من أن يدبّ الإرهاق واليأس إلى صفوف هذه الجُـموع وتقبل بالتكيّـف مع الأمر الواقع، خاصة بعد أن تمّ فكّ الاعتصام على إثر وعود قدمت للمحتجين.
غير أن الأسلوب الذي اعتُـمد جاء قاسيا وفي شكل عقابٍ جماعي، وبدل أن يحقِّـق الهدف منه، وهو الشعور بالخوف وتفكيك حالة التضامن بين السكان وإعادة الأمور إلى نِـصابها، غذّى لدى الأهالي الشعور بالتحدّي وخلق لديهم إحساسا قويا باللّـحمة والترابط بينهم، وهي معانٍ لمستها قوات الأمن في تلك المواجهات الاستثنائية، ممّـا دفع بالسلطات إلى التّـراجع، وذلك عبر إطلاق سراح الموقوفين والتخلّي عن محاكمتهم، وهو ما حوّل المشهد إلى إطلاق الزغاريد وتعدّد مظاهر الفرح بتحقيق هدف “الانتصار”، وللجميع قِـصص وروايات عمّـا حدث ما بين يومي الاثنين 14 والأربعاء 16 أبريل.
الأهمية والخطورة
ما حدث في المناطق المُـحيطة بالحوض المنجمي، ليس أمرا هينا، لأنه، حسب اعتقاد الكثيرين، قد جمع بين الأهمية والخطورة، ويمكن فهم ذلك من خلال التوقّـف عند الجوانب التالية:
– تاريخ هذه المنطقة يشهد بأن أهلها يشعرون باستمرار بأنها لم تحظ بنفس الرِّعاية والأولوية التي تلقتها مناطق أخرى، مثل المدن الساحلية. وليس هذا الشعور وليد الفترة الأخيرة، وإنما كان مُـلازما لأبناء الجهة منذ عهد بعيد. ولهذا، فإن إحساسا بالإهمال والغضب كان ويزال يلازمهم تُـجاه السلطتين، الجهوية والمركزية. فبالرغم من بعض التحسينات التي تمّـت، إلا أن الحالة الاجتماعية الصّعبة لقطاع واسع من سكان معتمديات “الرديف” و “أم العرايس”، عمقت هذا الإحساس وحوّلته إلى نزوع قوي نحو التمرّد.
– ما حدث طيلة الأشهر الثلاثة الماضية، كان عبارة عن ولادة حركة اجتماعية تميّـزت بالعفوية وافتقرت للقيادة الموحّـدة، واختلط فيها البُـعد القبَـلي بالمطلبية المشروعة. وبقدر ما كانت بداية التحرّك واضحة في تعبيراتها وآليتها ومطالبها، إلا أنها كلَّـما تقدّمت في الزمن، إلا وفقدت القُـدرة على التخطيط وحسن إدارة التفاوض ووضع أولويات تحقِّـق الإجماع وتفعل الضغوط بشكل مرحلي وتصاعدي، ويعود ذلك بالأساس إلى عوامل عديدة، من أهمِّـها عدم الخِـبرة والافتقار إلى تقاليد في مجال النِّـضال السِّـلمي. ويعتقِـد أحد رؤساء فروع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، الذي واكب الأحداث عن قرب، بأن الارتجال الذي اتّـصف به هذا التحرّك الاحتجاجي، يعود إلى غياب مجتمع مدني مُـهيكل وفاعل في تلك المناطق، لكن مع ذلك، حاول المحتجّـون أن يمارسوا أشكالا متعدّدة للمقاومة السِّـلمية، ولعل ذلك يعود، حسب اعتقاد بعض المراقبين، إلى محاولة إحياء تقاليد سابقة عُـرف بها أجدادهم من عمال المناجم خلال الحِـقبة الاستعمارية، إلى جانب التأثير بما شاهدوه من إضرابات شبيهة، خاضها العمال المصريون مؤخرا. فالفضائيات أصبحت تولِّـد العدوى وتقدِّم نماذج صالحة للترويج على نطاق واسع.
– لم تكن السلطة وحدها هي التي فوجِـئت باندلاع هذه الحركة الاحتجاجية واستمرارها طيلة الأشهر الثلاثة الماضية. القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني لم تتوقّـع بدورها حدوث تمرّد من هذا القبيل، رغم تِـكرار القول بأن هناك “أزمة خانقة”. النظام السياسي كان ولا يزال مطمئِـنا لإنجازاته الاقتصادية وقدرته على امتصاص حالة الاحتقان الاجتماعي، كما أن انشِـغال المعارضة بلُـعبة الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة، قد شغلها عن الاهتمام بالجَـبهة الاجتماعية. ولعل ذلك هو الذي يفسِّـر تأخُّـر هذه الأطراف السياسية عن العناية بما حصل في الحوض المنجمي وتقدير أهميته لفترة تجاوزت شهرا كاملا. الطرف السياسي الوحيد الذي رصد التحرك منذ بدايته هو “حزب العمال الشيوعي التونسي” (محظور) من خلال موقعه “البديل”، لكن مجموعات أقصى اليسار لم تكُـن بالقوة والحضور لتستوعب حدثا بهذا الحجم. فالمعتصِـمون لا يملكون رصيدا قويا من الثقة في عموم الأحزاب السياسية، أما الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، فإن أزمتها المستمِـرة مع السلطة جعلتها غير قادِرة على أن تلعب دورا حاسما، رغم رصيد الثقة الذي لا تزال تتمتّـع به بين أهالي تلك المناطق. ولعل ذلك يعود للدّور الذي حاولت أن تقوم به فروع الرابطة القريبة من بؤرة التوتر، وهو ما جعلها تُـحاول فيما بعد تدارُك الأمر وملاحقة الحدث، بانتقال رموز المعارضة إلى مكان الاعتصام للتّـعبير عن التّـضامن مع المضربين، أما الخاسر الأكبر فيما حصل، فهو بالتأكيد الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي كاد أن يخسر تأثيره بالكامل داخل هذه الجهة، بسبب سوء إدارة الأزمة، إضافة إلى تلوّث بعض الوُجوه النقابية المحلية، التي فقدت مِـصداقيتها في صفوف العمال والأهالي.
– أما السلطة، التي كانت منتبِـهة طيلة العشرين سنة الماضية للشرائح الاجتماعية الأكثر فقرا، خوفا من ردود فعلها القوية والعشوائية، فقد بدت عاجِـزة طيلة الأشهر الثلاثة الماضية عن تقديم حلول مُـقنِـعة للمحتجِّـين، وهو ما زاد في إضعاف قيمتها الرزية لدى عموم السكان في تلك الجهات. وقد أدركت خطورة ذلك مؤخرا، فحاولت أن تتدارك الأمر بأسلوبين متعاكسين. الأول، من خلال توجيه ضربة قاسية في محاولة لإصابة الحركة الاحتجاجية بالشّـلل العضوي، وعندما لم يحقق ذلك النتائج المرجُـوة، تدخّـل الرئيس بن علي بإجبار شركة فوسفاط قفصة على الإسراع بإنجاز المغاسل التي من شأنها أن تخفِّـف من حجم التلوّث الذي يُـعاني منه كثيرا سكان تلك المنطقة. وحتى يقع تهميش الحركة الاحتجاجية، قام الحزب الحاكم بتنظيم مسيرة كُـبرى في مدينة قفصة، عاصمة المحافظة، لمحاولة لإثبات التِـفاف السكان حول نظام الحكم. ومع أهمية استكمال هذا المشروع الإقتصادي مع نهاية العام الجاري، إلا أن ذلك لن يكون له تأثير مباشر على ملفّـي البطالة وارتفاع مستوى المعيشة، اللذين فجّـرا الموقف في منطقة المناجم.
بداية قلب الأولويات؟
هل تكون أحداث “الحوض المنجمي” هي بداية قلب الأولويات ودخول تونس منطقة الزوابع الخطرة بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية، والإرتفاع المتواصل لأسعار المواد الغذائية الأساسية والمحروقات وانعكاس الإصلاحات الهيكلية على الأمن الاجتماعي لشرائح واسعة من التونسيين؟
يبدو أن هذا هو أكثر الاحتمالات التي يخشى الكثيرون وقوعها، والدليل على ذلك، العنوان الذي تصدّر الصفحة الأولى للصحيفة الأسبوعية الناطقة باسم حزب الوحدة الشعبية، وهي تشكيلة سياسية غير راديكالية ممثلة في البرلمان، وجاء فيه: “انتفاضة الجياع في مصر واليمن، لا نريدها أن تقع في تونس”.
تونس – صلاح الدين الجورشي
تونس (رويترز) – قالت مصادر رسمية يوم الأحد 13 أبريل، إن الحكومة التونسية قرّرت تقديم موعد الانتهاء من جهود تحسين الوضع البيئي لمنطقة تونسية، شهدت احتجاجات خلال الأسابيع الأخيرة بسبب تردّي الأوضاع الاجتماعية.
وأضافت المصادر أن “شركة فسفاط قفصة ستشرع في تنفيذ أشغال استكمال تهيئة أحواض تخزين المياه الطينية المُـتأتية من وحدات غسل الفوسفات بكل من أم العرائس والرديف والمظيلة، لتكون جاهزة قبل نهاية 2008، بدلا من نهاية عام 2011”.
واندلعت منذ أكثر من شهر في منطقة “الحوض المنجمي”، التي تضم قفصة والرديف والمظيلة بالجنوب التونسي والغنية بالفوسفات، احتجاجات ضد غلاء المعيشة وتفشّـي البطالة والتلوّث في أمر نادر الحدوث بتونس.
وانتهت هذه الاحتجاجات بمواجهات بين متظاهرين وقوات الأمن في مدينة الرديف، بعد أن رشق متظاهرون الشرطة بزجاجات حارقة ليتِـم اعتقال العديد منهم قبل أن يُـفرج عنهم يوم الخميس الماضي.
وزار الهادي مهني، الأمين العام للتجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم في تونس منطقة “الحوض المنجمي”، في بادرة وصِـفت بأنها تهدف لطمأنة أهالي المنطقة باهتمام السلطات بمشاكلهم ومحاولة امتصاص غضبهم.
وأكد عزم الدّولة على تعبِـئة المزيد من الإمكانيات ووضع الخُـطط والبرامج، بُـغية دفع مسيرة التنمية بالجهات الداخلية.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 13 أبريل 2008)
تونس (رويترز) – قال مصدر نقابي إن السلطات التونسية أفرجت عن أكثر من 20 متظاهرا يوم الخميس 10 أبريل، بعد أن احتجزتهم في منطقة الرديف بمحافظة قفصة، التي تشهد منذ أسابيع احتجاجات على غلاء المعيشة.
لكن مصدرا رسميا قال، إنه “بناء على حدوث أعمال تشويش بالطريق العام وإضرار بملك الغير، فإنه تمّـت إحالة ثمانية أشخاص للمحكمة الابتدائية بقفصة”، قبل أن “يطلق سراحهم بشكل مؤقّـت”.
وقال مصدر نقابي، طلب عدم نشر اسمه، إن أكثر من 20 شخصا اعتُـقلوا في مدينة الرديف، القريبة من قفصة، التي تقع على بُـعد 300 كيلومتر من العاصمة تونس، بعد أعمال شغب أثناء احتجاجات قبل ثلاثة أيام.
وأضاف أن الاعتقالات جاءت بعد مواجهات بين قوات الأمن والمتظاهرين الذين يطالبون بإصلاحات اجتماعية، تتعلّـق بقطاع التشغيل في المنطقة المعروفة باسم “الحوض المنجمي” والغنية بالفوسفات، وقال إن المواجهات وقعت بعد أن ألقى “متظاهرون مندسون” الحجارة على قسم للشرطة.
وأشارت مصادر نقابية إلى أن مظاهرات اندلعت منذ أكثر من شهر في منطقة “الحوض المنجمي”، التي تضم قفصة والرديف والمظيلة، احتجاجا على غلاء المعيشة وانتشار البطالة، والاحتجاجات أمر نادر الحدوث بتونس.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 10 أبريل 2008)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.