فيلم” شيكون”: صرخة سويسرية تبكي يأسَ معسكرِ السلام في إسرائيل
تؤدّي الممثلة السويسرية الفرنسية، إيرين جاكوب، دور البطولة في فيلم" شيكون"، وهو حصيلة اقتباس حرّ من مسرحية كتبها يوجين يونيسكو عام 1959، بعنوان "وحيد القرن". يصوّر الفيلم، الذي أخرجه الإسرائيلي عاموس جيتاي، قصّة صعود الفاشية، وجرى عرضه لأول مرة في شهر فبراير الماضي في برلين.
وكانت الدورة الأخيرة من مهرجان برلين السنيمائي، وهي الرابعة والسبعون في تاريخ المهرجان، قد انتظمت من 15 إلى 24 فبراير في خضمّ احتجاجات وجدل سياسيرابط خارجي كبيرين.
وبينما حصد “لا توجد أرض أخرى” (No Other Land)، عمل فلسطيني نرويجي مشترك، من إنتاج مجموعة من الصحفيين الفلسطينيين والإسرائيليين، جائزة “الدب الذهبي” لأفضل فيلم وثائقي، أثار خطاب قبول صناع الفيلم للجائزة، ردود فعل عنيفة من جانب الطبقة السياسية الألمانية. في المقابل، حظي فيلم “شيكون” (Shikun)، ( أي”الإسكان الاجتماعي” بالعبرية)، بردّة فعل صامتة، وكان الفيلم الإسرائيلي الوحيد المدرج في البرنامج الرئيسي للمهرجان.
ويحمل هذا العمل الأخير، وهو إنتاج مشترك بين سويسرا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، والبرازيل، توقيع المخرج الإسرائيلي عاموس جيتاي، الذي تم إيداع أرشيفه السينمائي في المؤسسة السويسرية للسينما، ويعدّ ” شيكون” أول إنتاج سويسري مشترك له.
الانقراض السياسي
خلافاً لما حدث في سوق الأفلام الأوروبية (European Film Market) في مساء 18 فبراير، عندما استولى المتظاهرون والمتظاهرات المؤيدون والمؤيدات للفلسطينيين.ات على القاعة الرئيسية، في دعوة إلى وضع حد للحرب والاحتلال، لم يلق العرض الأول لفيلم “شيكون” الكثير من الاحتجاجات.
ووفقًا لصحيفة جيروزاليم بوسترابط خارجي، فقد أفيد أن الأسئلة والأجوبة في القاعة الرئيسية لمهرجان برلين السينمائي، تضمنت دعوة واحدة لوقف إطلاق النار، وسؤالًا موجهًا إلى وزيرة الثقافة الألمانية كلوديا روث، وجيتاي نفسه، حول ما إذا كان ينبغي على ألمانيا قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بسبب “استمرار ارتكابها لإبادة جماعية”.
وربّما يعود ذلك جزئيًا إلى أن الفيلم نفسه، عبارة عن صرخة احتجاج يائسة من مؤلف تم تصنيفه، خلال حياته المهنية الممتدة، كواحد من أعلى الممثلين صوتًا، لآخر مجموعة على وشك الانقراض، ويُشار بذلك إلى “معسكر السلام الاسرائيلي”.
تعترف، هذه القوة السياسية التي تشهد تراجعا، والمرتبطة بشكل رئيسي باليسار الإسرائيلي، بأن الجهود التي تبذلها للدفاع عن الحقوق الفلسطينية وانتقاد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، لم تحقق سوى القليل.
شاهد هنا المقابلة الأخيرة التي أجراها عاموس جيتاي مع قناة فرانس 24 الإخبارية، مباشرة بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر:
“وحيد القرن” بيننا
يشكّل هذا العمل الأخير، اقتباسا حرّا، لمسرحية “وحيد القرن” التي كتبها يوجين يونيسكو في عام 1959، والتي تروي قصة اتجاه سكان بلدة فرنسية في الأربعينيات نحو الفاشية والعدمية السياسية.
وقد قام جيتاي في بداية عام 2023، بتصوير هذا العرض المحدث في تل أبيب ،وبئر السبع، وهي مدينة إسرائيلية كبيرة، تقع في جنوب الضفة الغربية على بعد 40 كيلومترًا من غزة، ردًا على موجة الاحتجاجات الهائلة التي أصابت إسرائيل بالشلل، بعد محاولة التحالف الحكومي، تقييد سلطة القضاء والمحكمة العليا.
الجدير بالذكر أن إيرين جاكوب، نجمة الفيلم ليست إسرائيلية، بل سويسرية. وتقوم بدورامرأة، عضوة جوقة مجنونة، وتتجه نحو الإصابة باجهاد نفسي وجسدي، بينما تشاهد زحفا للفاشية في كل مكان من حولها.
يتخلّى جيتاي، من خلال الممثلة جاكوب، عن أي دقة في تصوير يأس اليسار الإسرائيلي بينما يراقب، عاجزًا، صعود نظام قومي، وعنصري، وعرقي، وثيوقراطي، وفاشي، يعرّض بالفعل حياة اليهود والمسلمين.ات للخطر، في جميع أنحاء العالم.
“كيف تحوّلت الحرب على الإرهاب إلى تدمير أنابيب المياه؟”، يسأل أحد الرجال في الفيلم، بينما يقول آخر: “يجب أن نترك بعض الأثر”.
الإعداد الرمزي
عندما التقيتها في فندقها في برلين، كانت إيرين جاكوب تجلس بمفردها غى طاولة دائرية كبيرة مخصّصة لحفلات العشاء والاحتفالات في مكان قصيّ بغرفة الطعام المستأجرة لهذه المناسبة.
أما عاموس جيتاي، فكان يجلس بالقرب من الباب، على كرسيّ بذراعين، متصفّحا هاتفه. ويبرز، خلف جاكوب، صف النوافذ الواسعة التي تضيء الغرفة، بشكل سريالي، وتسلّط الضوء على منظر النصب التذكاري لقتلى اليهود في أوروبا، بالقرب من بوابة براندنبورغ، وشارع هانا أرندت.
تردّدت وأنا على الطاولة، مع وجود المسجّل بيننا، في البداية في وصف جاكوب بالمرأة السويسرية، محاولًا العثور على الكلمات المناسبة، لأنها ولدت في باريس، ولم تنتقل إلى جنيف من أجل الدراسة، إلا لاحقا. لكنها تردّ مبتسمة “نعم، أنا سويسرية. هذه هي أنا.”
كان هناك صحفيون.ات آخرون وأخريات في الغرفة. “ما هو رأيكِ في الحرب في غزة؟ أو في أوكرانيا؟”، تساءل أحدهم.ن.
ردّت جاكوب بأدب، وهي تشعر أن السؤال يحتاج إلى إجابة حاسمة: “الحرب فظيعة. الظلام والموت والدمار. لا أعتقد أنه يمكننا أن نقول أي شيء آخر. ولم يكن بوسعنا في هذا الفيلم، سوى إحداث مساحة اجتماعية، فنيًا، حيث ترى هؤلاء الأشخاص معًا، يحملون.ن قصص [الحرب] هذه معهم.ن.”
ممرّات ملهمة
تدور أحداث فيلم “شيكون” في أغلبها، ضمن فصول مسرحية طويلة، في سلسلة من المواقع شبه المهجورة في جميع أنحاء إسرائيل: مرآب للسيارات، ومجمع سكني مبني على طراز أشكال وحوش، ومحطة حافلات تل أبيب (مهجورة ليلاً). وتجري أحداث المشهد الأول في ممر في سكن شعبي، وكما هو الحال في معظم أجزاء الفيلم، جرى تصويره في خضم هذه اللقطات المتسلسلة الرائعة.
تقول جاكوب عن جيتاي: “لقد كان هذا الممرّ ملهمًا للغاية بالنسبة له، وقمنا بتشكيل الفيلم من خلال بروفاتنا فقط؛ كنت أحيانا موجودة في باريس، وكنت أرسل مقاطع فيديو ومونولوجات [لجيتاي]. كنا نعمل على المسرحية معًا. ثم اقترحَ أن ألقي نظرة على مسرحية يونسكو. وبحلول الوقت الذي وصلنا فيه إلى ذلك الممر، كان كل ذلك في أذهاننا”.
وتضيف: “كان لدينا جميعًا قصصًا مختلفة لنرويها. لقد جئنا بهذه النصوص المعدّة – باللغات العبرية والفرنسية والأوكرانية – وعملنا من هناك كبداية. ولكن بمجرد حدوث [إعادة انتخاب نتنياهو]، كانت هناك رغبة أكبر لدينا جميعًا، في القيام بذلك بسرعة”.
وحيد القرن بالعبرية تعني “اتّبع القطيع”
ناداني جيتاي، من الجانب الآخر من الغرفة، للتحدث معه أيضًا. وجاءت جاكوب، وجلست على الكرسي المقابل، وكانت تنظر إليه بهدوء، وهو يتحدث.
قال جيتاي: “خلال الحركة الاحتجاجية، بدأت الصحافة الإسرائيلية، الصحافة الليبرالية، في استخدام هذا المصطلح، وحيد القرن، المستوحى مما كتبه يونسكو”. التقيت بابنة [الكاتب المسرحي] في باريس وأخبرتني أن اللغة العبرية هي اللغة الوحيدة التي يكون فيها وحيد القرن اسمًا وفعلًا، ليصبح الاسم، وحيد القرن واتباع القطيع. ومن هنا عدت إلى المصدر”.
ثم يعرّج فيما يشير بيديه نحو إيرين: “[أنّها] ذكية وحساسة وهي امرأة غير عادية. إنها تحب العمل، والتحدي الفكري، والتأمل. لقد جاءت إلى إسرائيل في مهمة للعمل على مسرحيتي الخاصة ‘البيت’، والتي ستنتقل لعرضها قريبًا في لندن، وبرلين، وروما. وأخذتها منذ أن كانت هناك، في جولة، شملت جميع أنحاء البلاد. عندما تكون برفقة الأشخاص الأذكياء، عليك تحفيزهم.ن بمعارف جديدة، حتى يتمكنوا.ن من إعطائك شيئًا أكثر دقة”.
أجابت جاكوب: “قمنا بعد البروفات، وبمجرد وصولنا إلى مواقع التصوير تلك، بتنظيم اللقطات التصويرية، بطريقة تعاونية؛ لقد كانت بالتأكيد تجربة فريدة من نوعها، حيث قمنا بإنجاز الفيلم مع تقدّمنا. وكان ذلك أمرا ملهمًا. محاولة العثور على الأشياء على الفور، وتحقيقها. وتجربة أشياء مختلفة. ماذا نستطيع أن نفعل؟ كان الوقت يمر بطريقة مختلفة مع عاموس. لحظات طويلة حيث يمكن لأي شيء أن يحدث – ويحدث فعلا. وهذا يعطي الكثير للفنان لكي يستغله في عمله.”.
وهم التعدّدية الثقافية
تشير جاكوب إلى أنها عملت مع صديق مصمّم رقصات، لتنسيق حركاتها الجسدية غير المتناسقة، في فيلم “شيكون”، والتي يبدو أنها لم تعد تتحكم فيها، مع تقدم الفيلم، مما يثير الإرباك لدينا، جرّاء جودتها اللاإرادية على ما يبدو. وقلت لها إنه من الصعب عدم اعتبار ذلك، عند مشاهدة الفيلم في برلين في هذا الوقت، الذي يشهد مذبحة للمدنيين والمدنيات، كعرض من أعراض الموت والدمار، الذي يملأ شاشاتنا منذ بداية هذه الحرب.
“لقد كانت كل أعمال العنف، موجودة من قبل. وحاضرة بشكل يومي. ربما لم يكن الأمر واضحًا. هل رأيت ذلك؟ لا، لم أر ذلك. انها ليست منتشرة على نطاق واسع، أليس كذلك؟ انها ليست خطيرة. أم أنها خطيرة؟ أنت على وشك رؤية أمر يقترب، أمر غير طبيعي. يجب أن يكون للجميع رأي بشأنه، أليس كذلك؟ أو إذا لم يعد مسموحًا بأن يكون لك رأي، فهل هذا أمر جيد؟ كل هذا العنف كان موجودا هناك منذ بعض الوقت.”
تتساءل شخصية جاكوب في فيلم “شيكون”، كما لو كانت تتحدث مع نفسها: “هل أنا أتحدث الفرنسية؟ لا أحد يعرف إذا كنت أتحدث الفرنسية. ومن يهتم إذا كنت أتحدثها أم لا؟” حيث تتردد في كل مكان حولها، أصواتُ اللغات الأوكرانية، والعبرية، واليديشية، والعربية. وتبدو إسرائيل متعددة الثقافات، في هذه اللحظة من الزمن، وكأنها مجرّد وهم، وأمل سريع الزوال.
تحرير: مارك ليفينغستون وإدواردو سيمانتوب
ترجمة: مصطفى قنفودي
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي/أم
هل نال المقال إعجابك.كِ؟ اشترك.ي في نشراتنا الإخبارية المتنوّعة للحصول على مجموعة مختارة من أفضل محتوياتنا مباشرة عبر البريد الإلكتروني.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.