الهجرة في مصلحة الطرفيْن … إذا اُحسنت إدارتها
تشير الإحصائيات إلى أن الهجرة تلعب دورا محوريا في الزيادة السكانية في العديد من الدول المتقدمة مثل سويسرا، حيث تعاني هذه الدول من انخفاض معدلات المواليد وشيخوخة السكان، والحاجة إلى المزيد من اليد العاملة. مع ذلك، لا يزال تدفق المهاجرين والمهاجرات يثير جدلا كبيرا وتوترا داخل هذه المجتمعات. فأين يوجد الحد الفاصل في ذلك؟ الجواب من خلال الحقائق والأرقام والرؤى التي يقدمها خبراء وخبيرات الديموغرافيا؟
وإذا كانت العديد من الدول المتقدمة تعاني مما بات يعرف على حد عبارة الكاتب الفرنسي رينو كامو “الشتاء الديمغرافي”، في إشارة إلى انخفاض معدلات المواليد، وشيخوخة السكان، فإن الهجرة في المقابل، توفر دفقا مستمرا من الأفراد في سن العمل، مما يساعد في التعويض عن هذا الانخفاض.
المزيد
نشرتنا الإخبارية حول التغطية السويسرية للشؤون العربية
وهذا ما حصل بالفعل في السنوات الأخيرة في كل ألمانيا، وإسبانيا، والبرتغال، في المقابل، لم يساعد ضعف الهجرة إلى دول أخرى مثل اليابان، وإيطاليا، والمجر، على تجديد التركيبة العمرية أو تقليل نسبة الشيخوخة، عنصران ضروريان للحفاظ على التوازن بين الأجيال وتعزيز نظم التقاعد والرعاية الصحية.
المزيد
معدّلات الإنجاب في تراجع في سويسرا وحول العالم. هل تكفي الحلول المطروحة؟
وتتميز سويسرا وكندا بوضع مختلف، إذ تعوّض الهجرة فيهما كثيرا انخفاض معدل الولادات، الذي وصل إلى 1،3 طفل وطفلة لكل امرأة في كلا البلدين. لذلك، ينمو عدد السكان في كليهما بسرعة.
هذا المقال جزء من سلسلة مقالات تبحث في التحديات الديموغرافية الرئيسية المقبلة. ومن هذه القضايا مستقبل الهجرة الدولية وعلاقتها المتبادلة مع الشيخوخة.
وتعد سياسة الهجرة وإدماج المهاجرين من الموضوعات الساخنة في سويسرا، كما هو الحال في معظم البلدان المتقدمة. فالبلدان المضيفة بشكل رئيسي تسير على حبل مشدود بين حاجتها إلى العمالة والآراء التي تعادي الهجرة بشكل متزايد
وقد ازداد عدد سكان كندا بين عامي 2022 و2023 بنسبة 3%رابط خارجي (نحو 1،2 مليون نسمة)، محقّقا أعلى نموّ في كلّ الدول الغربية، إذ تعود 98% من هذه الزيادة إلى تدفق الهجرة.
ووفقا لغيوم ماروا، تأسست كندا على الهجرة، و“لا يوجد بها حزب سياسي كبير يؤيد فكرة ‘صفر هجرة’. ومع ذلك، فقد طُرح السؤال حول مدى نجاعة الاستمرار في النهج الحالي منذ عدة سنوات”.
شهدت سويسرا هجرة قوية منذ نهاية القرن التاسع عشر، في ثلاث موجات رئيسية متتالية: مرحلة التصنيع حتى الحرب العالمية الأولى؛ والانتعاش الاقتصادي في منتصف القرن العشرين، مع بلوغ ذروته في الستينيات؛ والعصر الحالي لحرية الحركة تنقل الأشخاص مع الاتحاد الأوروبي والعولمة، منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
حتى ذلك الحين، كان وصول العمال الأجانب محكومًا باتفاقيات ثنائية وتصاريح إقامة مؤقتة. وكانت الهجرة تنخفض إلى حد بعيد كلما كانت هناك أزمة توظيف.
وقد أدى إدخال حرية التنقل مع الاتحاد الأوروبي في عام 2002 إلى ارتفاع حاد في عدد مواطني الاتحاد الأوروبي – الذين يمثلون الآن أكثر من ثلثي جميع الرعايا الأجانب في سويسرا – والذي استمر تدفقهم دون انقطاع منذ ذلك الحين. ولا تزال الهجرة من دول ثالثة خاضعة لنظام الحصص.
ولسويسرا أيضاً تقليد عريق في منح اللجوء، وهو ما يفسر سبب كونها الآن واحدة من البلدان التي تضم أعلى نسبة من المهاجرين في العالم: 36% من السكان ولدوا في الخارج، وأكثر من ربعهم من الأجانب.
الخوف من التدفّق المستمّر للهجرة
وأما في أغلب البلدان الأوروبية، فيُنظر إلى الهجرة على أنها تهديد حقيقيً. وغالبا ما تستخدم الأحزاب المناهضة للأجانب في أوروبا ملف الهجرة كأداة سياسية لجذب الناخبين وتعزيز شعبيتها، خاصة في فترات الازمات الاقتصادية أو الاجتماعية.
كما نجد هذا الخوف من استمرار تدفّق المهاجرين والمهاجرات، بل حتى ممّا يسمّى “الاستبدال” (استبدال الشعب الأصلي بشعوب وافدة)، في بلدان جاذبة أخرى مثل الولايات المتحدةرابط خارجي والمملكة المتحدةرابط خارجي، وفي جميع البلدان المتقدّمة تقريبًا. علماً، بأن الهجرة قد ازدادت بنسبة 20% في منطقة منظمة التعاون الاقتصادي والتنميةرابط خارجي، على مدى السنوات العشر الأخيرة.
أمّا في سويسرا، فقد أصبح رفض “الزيادة السكانية”، اتجاها سائدا يتبناه ووظفه حزب الشعب السويسري (اليمين المحافظ)، الذي يعد أكبر قوة سياسية في البلاد، في تبرير دعوته لفرض قيود على الهجرة.
>> لمعرفة المزيد عن هذا الجانب، اقرأ.ي مقالنا أدناه:
المزيد
أيّ تأثير لاتفاقية حرية تنقل الأشخاص على الاقتصاد السويسري؟ هذا ما تقوله الأرقام!
وعموما، يتجنب الحزب مناقشة تأثيرات الهجرة الاقتصادية في سويسرا. فقلّما يُجادَل اليوم في مساهمة حرية التنقل في تلبية احتياجات سوق العمل. ومع ذلك، يُحمّل “الهجرة الجماعية” مسؤولية “كافة مشاكل سويسرا تقريباً”رابط خارجي المتعلّقة بالتماسك الاجتماعي، مثل تراجع القيم السويسرية وزيادة الجريمة، بالإضافة إلى تأثيرها على مستوى المعيشة؛ إذ تشمل تراجع دخل الفرد، وأزمة السكن بأسعار معقولة، والاكتظاظ في وسائل النقل، وارتفاع استهلاك الطاقة، وتشويه المناظر الطبيعية بالمباني الأسمنتية.
ولا يُعدّ الربط بين ارتفاع النمو السكّاني والاستغلال المفرط للموارد أمراً جديداً، ولا ينحصر في أنصار اليمين. بل تضمنته قبل عشر سنوات، ميم مبادرة دعمّتها شخصيات من شتى التيارات (لا سيما البيئية)، دعت إلى الحدّ من الهجرة بدعوى الحفاظ على البيئة.
ورغم ما تلقّاه هذا النصّ من رفض قاطع في عام 2014، لكن لم تتلاش المخاوف من الزيادة الكبيرة في عدد السكان. فيرغب أكثر من نصف الهيئة الناخبة السويسرية اليوم، في الحدّ من الهجرة لهذه الأسباب، وفقاً لأحد أحدث استطلاعات الرأيرابط خارجي حول هذا الموضوع. ولم تشذّ عن ذلك حتى دوائر الأعمال التي أصبحت تدعو إلى “معالجة المشاكل الناجمة عن الهجرةرابط خارجي“.
ويحتد الجدل في كندا كذلك حول ضرورة الحدّ من تدفّقات الهجرة، تغذّيها أزمة السكن الحادة في المدن، حيث يتركّز معظم السكان الأجانب.
ويعتقد نحو 60%رابط خارجي من الشعب الكندي اليوم، وجود الكثير من المهاجرين والمهاجرات. وأعلنت أوتاوا في أكتوبر عن تخفيض أكثر من 20%رابط خارجي من عدد السكان ذوي الإقامة الدائمة ممن سيسمح لهم ولهنّ بالدخول بداية من عام 2025.
مشاكل ذات أسباب متعددّة
ولا يمكن إنكار العواقب السلبيّة التي يمكن أن يؤدّي إليها النمو السكّاني المفرط، ولكن يعتبر العديد من علماء الديموغرافيا أنّ الربط بين هذه المشكلات متعددة الأسباب، والهجرة كسبب رئيسي، مبالغ فيه.
ويشير فيليب فانررابط خارجي، الأستاذ في معهد الديموغرافيا والاقتصاد الاجتماعي بجنيف (Institut de démographie et socio-économie de Genève)، إلى أن قسماً من الهجرة يأتي تحديداً بسبب الحاجة إلى البنية التحتية (فغالباً ما تُبنى مساكن جديدة مثلا، بيد عاملة أجنبية)، وبالتالي، يرى أنّ الحدّ منها بطريقة تعسّفية، قد يؤدّي إلى عواقب أكثر خطورة.
ويبقى القول إنّ البنية التحتية قد وصلت إلى نقطة التشبّع، محلّ نقاش في سويسرا. ويؤكد فيليب فانر هنا، أن “مؤشرات الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية مرتفعة، مما يوحي بأن التغيّر الديموغرافي لا يشكّل خطراً إلى حدّ الآن.”
ثم إن للهجرة فوائد كثيرة على المجتمعات المضيفة، إذ غالبا ما يساهم المهاجرون والمهاجرات في الاقتصادات المحلية من خلال العمل في قطاعات تشكو من نقص اليد العاملة، مثل الزراعة والرعاية الصحية والبناء، كما ان المهاجرين والمهاجرات يجلبون معهم ثقافات وتقاليد متنوعة، مما يثري المجتمع المضيف، ويساهم في تعزيز التفاهم بين الثقافات. وتثبت التجارب التاريخية أن الهجرة كانت مصدرا لإثراء المجتمعات، والعديد من الدول اليوم هي قوية ومزدهرة بفضل المهاجرين الذين قدموا من مختلف أنحاء العالم.
حدّ أقصى للاندماج؟
يعتقد المختصون والمختصات في المجال الديمغرافي، أن تحديد نسبة معينة كحد أقصى لـ “احتواء” الهجرة، غير منطقيّ. إذ تشمل العوامل المؤثرة سياسات الاندماج المعتمدة، وخصوصيات الأفراد مثل الأصول واللغة، والثقافة، ومدى التوافق مع احتياجات سوق العمل، بالإضافة إلى اختيار مناطق الإقامة. وتختلف هذه العوامل كثيرا من بلد إلى آخر.
ويحدّد الخبير الديموغرافي الكندي، غيوم ماروا، الاندماج الناجح في سوق العمل بعاملين فيقول: “نسبة بطالة منخفضة، و’وظائف جيّدة’ للمهاجرين.” وبعبارة أخرى، وظائف بأجور محترمة تسمح بوقف تدني الأجور، كما تساهم في المالية العامة، وتدعّم الاندماج الاجتماعي.
وفي هذا النطاق، تُعدّ البلدان التي تمارس الهجرة الانتقائية على أساس المهارات (منها كندا)، وتلك التي ترّحب أساساً بهجرة مؤهّلة من الاتحاد الأوروبي (سويسرا ولوكسمبورغ)، من البلدان ذات أفضل مؤشّرات الاندماجرابط خارجي، وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
غير أن هذه السياسة الانتقائية تكون لها انعكاسات سلبية على البلدان الاصلية للمهاجرين، حيث تفقد هذه البلدان الكفاءات اللازمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية داخلها، وتعاني فيها قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والهندسة، من نقص الكوادر المؤهلة، وعدم الاستفادة من استثماراتها في التعليم والتدريب، لأنه في مغادرة هذه الكوادر ضياع لهذه الاستثمارات.
ويتوقف “العيش المشترك”، إضافة إلى الجهود المبذولة لإدماج السكان من الهجرة، على موقف المجتمع المضيف تجاههم أيضاً. لكن وفقًا لاستطلاع غالوب العالميرابط خارجي، (Sondage Mondial Gallup) الذي يُعتبر مرجعا في هذا المجال، يميل الترحيب إلى التراجع في معظم البلدان. فقد احتلّت كندا في عام 2020، عند إجراء آخر استطلاع، المرتبة الأولى، فيما سجلّت سويسرا تراجعاً كبيرا في هذا المجال، وإن كانت لا تزال تحقق أعلى النتائج نسبيًا.
ويقول غيوم ماروا، رغم عدم إمكانيّة تقدير مفهوم “عتبة التسامح” كميّاً، وهو موضع خلاف،رابط خارجي إلاّ أن “هذا لا يعني انعدام القدرة على استقبال المهاجرين. وأعتقد أن العجز يكون عندما لا تُلبى التطلعّات الذاتية للسكان، المهاجرين منهم وغير المهاجرين.”
ويرى جياني داماتو، من جامعة نوشاتيل، اعتماد هذه التطلعات بشدة على الأفكار التي تستند إليها الأمم. ويشير إلى أن “الهجرة يمكن أن تصل إلى مستويات مذهلة إذا توفّرت الإرادة”، وأبرز ذلك قائلا: “تتكوّن مجتمعات الخليج مثلا، من حوالي 90% من المهاجرين. وعلى النقيض، يعتبر وجود الهجرة، حتى بنسب ضئيلة، في بلد مثل اليابان عبئًا كبيرًا”.
تضييق الخناق أو انفتاح أكبر
وفي الوقت الذي تنوي فيه بعض الدول تضييق الخناق على الهجرة، قرّرت اليابان مؤخّرا، ولأوّل مرة في تاريخها، تخفيف بعض القيود المفروضة على التأشيرات، من أجل جذب المزيد من اليد العاملة الأجنبية لمواجهة مشكلة الشيخوخة السريعة التي يعانيها سكانها.
وقد دفعت الأسباب نفسها كوريا الجنوبية إلى تحفيز هجرة المهارات العالية، وإسبانيا إلى الإعلان عن تسوية أوضاع حوالي 900 ألف شخصرابط خارجي في غضون السنوات الثلاث المقبلة، رغم المعارضة الداخلية.
وقد تختار بلدان متقدمة أخرى تعاني الشيخوخة، اللجوء إلى مزيد من اليد العاملة الأجنبية في السنوات القادمة، إذ يُتوقّع أن يكون هناك نقصٌ فيها، لا سيما في القطاعات الحيوية مثل الصّحة.
ويلخّص مجلس وكالات الاستخبارات الأمريكيّة الرهانات في مذكرة حول مستقبل الهجرةرابط خارجي، على النحو الآتي: “يجب على البلدان المضيفة أن تجني فوائد اقتصادية كفيلة بتعويض تكاليف هجرة الأشخاص الجدد”، إذا تمكنت من ضبط التوترات الاجتماعية والسياسية الناجمة عنها.
ولا شك أن الهجرة، مثلما أنها تسهم في رقي وازدهار المجتمعات المضيفة، ترافقها أيضا تحديات وتوترات. وبإمكان الدول المضيفة وضع سياسات فعالة لإدارة الهجرة والنظر إلى الوافدين والوافدات من منظور إنساني، لأن الكثير من هؤلاء يفرون من الحروب والاضطهاد والفقر في بلدانهم الأصلية.
تحرير: سامويل جابيرغ
ترجمة: موسى آشرشور
مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.