دروس مستخلصة من معارك النجف
كيف يمكن للمراقب قراءة الصور الواردة من النجف بعد معارك الاسابيع الثلاثة الدامية التي شهدتها المدينة التي تعد الأقدس لدى الملايين من الشيعة في العالم الاسلامي؟
قد تبدو الاجابة على هذا السؤال اليوم متعجلة، فالنار التي اشتعلت في النجف ما يزال دخانها يملأ الافاق وإن خمد أوارها أو هكذا بدا للجميع ، لكن هذا لا يمنع من تحليل الموقف واستخلاص الدروس والعبر منه.
بدءا تجدر الاشارة الى ان النار ستبقى مستعرة في النجف وما حولها او انها مرشحة للاستعار من جديد في وقت لاحق، لأن الشرارة الاولى التي أشعلت حريق الاسابيع الثلاثة ما تزال قائمة ولو تحت الرماد.
فالمشكلة الاساسية التي أشعلت الحريق الكبير هي ببساطة ان التيار الذي يقوده الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر بات سكينا في خاصرة كل القوى السياسية الشيعية التي عملت طوال المرحلة الماضية على التعامل معه بمختلف الدرجات وتراوحت في التعاطي معه سلبا وايجابا حتى أصبح التعامل الايجابي معه او القبول به يعني خسارة استراتيجية لتلك القوى والتيارات جميعها خاصة بعد ان صعد نجمه، لذلك عمدت هذه القوى مجتمعة او متفرقة الى التعجيل بتصفية هذا التيار قبل ان يستفحل خطره عليها ويستحيل حينذاك وبشكل مطلق التعامل معه.
ومن هنا يمكن القول بثقة ان كل القوى السياسية الشيعية جهدت من اجل تصفية الصدر شخصا ورمزا وإنهاء وجود او فاعلية تياره في الساحة العراقية، لأن وجود الشخص والتيار يعني ببساطة خسران تلك القوى رصيدا في الشارع ونصيبا في الكعكة، وكلها تسعى لنيله بشكل أو بآخر.
هنا يمكن تلمس حقيقة ان الصراع بين القوى السياسية الشيعية متوقع بل ووارد جدا، لأن بروز اي تيار انما يأتي بالضرورة على حساب التيار الآخر، وهو أمر يستحيل على القوى القائمة الآن ان تقبل به وان تتنازل عن حصتها لصالح تيار اخر.
وبقدر ما كانت المعارك في النجف حربا أمريكية ضد الصدر وأتباعه فقد كانت من جانب اخر حربا شيعية – شيعية، وتجدر الإشارة هنا الى بيانات وزعت في بغداد ومدن عراقية أخرى تندد بحزب الدعوة الاسلامية – جناح ابراهيم الجعفري، وتندد بجواد المالكي الملقب بـ “ابو اسراء المالكي” الذي مثَّل الحزب في المؤتمر الوطني العراقي، متهمة التيار المذكور بانه يؤمِّن لحكومة الدكتور اياد علاوي ما وصفته بـ “غطاء شيعي لتنفيذ أوامر الاميركان بتصفية التيار الصدري” حسب زعمها.
ويعتقد كثيرون في العراق اليوم ان زيارة الجعفري الى لندن بجوار السيستاني ثم تعريجه على العاصمة الاماراتية انتظارا لجلاء الصورة، كانت تهدف الى التهرب من المسؤولية ومن مساءلة العراقيين له على هذا الصمت وعلى القبول بذبح شيعة العراق وانتهاك حرماتهم وتدنيس مدينة النجف بالآلة العسكرية الامريكية، لذلك لا يترددون في تحميله “إثم كل قطرة دم تسفك من ابناء العراق على يد قوات الحكومة والقوات الاميركية” حسب قولهم.
ومما ورد في البيانات المناهضة لهذا الجناح من حزب الدعوة الإسلامية: “اذا كان ممثلو هذا الجناح من حزب الدعوة حريصين على نفي هذه التهمة عنهم، فكان من المفترض بهم السعي الى تكذيب تصريحات موفق الربيعي واياد علاوي وتصريحات وزيري الداخلية والدفاع الذين اكدوا بأن الحكومة بكامل اعضائها اتخذت قرار مواجهة جيش المهدي ولم يكن قرارا بمعزل عن احد منهم” (انتهى الإقتباس).
وتبعا للبيانات المذكورة فقد كان “الاجدر بهؤلاء الممثلين لحزب الدعوة في حكومة اياد علاوي ممارسة صلاحياتهم في الدفاع عن المظلومين والدفاع عن المقدسات، واذا كانوا عاجزين بالفعل عن القيام بهذا الدور، فكان عليهم لزاما الاستقالة الفورية والالتحاق بابناء شعبهم” مثلما ورد فيها.
كما تهكمت البيانات على ما وصفته بـ “الدموع التي ذرفها الجعفري على الكنائس، وصمته على ذبح النساء والاطفال والشيوخ والرجال في بغداد والكوت والبصرة والعمارة وبقية مدن الجنوب”.
كما هاجمت بيانات أخرى ديوان الوقف الشيعي وتحديدا مسؤوله حسين الشامي وتساءلت كيف يجرؤ رجل دين يتحمل مسؤولية الوقف الشيعي على مساواة القاتل بالقتيل في تصريحاته وبيانات ديوان الوقف الشيعي، وقالت بأنه “كان الاجدر به ان يشارك في التظاهرات الجماهيرية التي انطلقت من مختلف مدن العراق متوجهة الى مدينة النجف الاشرف لتكون دروعا بشرية تحمي مقدسات المسلمين وتصون الحرم الحيدري من التدنيس لا ان يدافع عن حكومة اياد علاوي” بحسب البيانات.
ويكشف اية الله هادي المدرسي رئيس رابطة علماء الدين الشيعة في العراق جانبا من الصراعات الشيعية الداخلية بتأكيده أن “المرجعية الدينية لا تؤيد الحل العسكري في النجف” وان الوضع في العراق “ليس وضعا بسيطا وانما هو وضع مركب فيه تعقيدات مختلفة”. لكن المدرسي حاول إضفاء صفة شرعية على هذه الاختلافات مبينا ان ذلك انما يحدث “بسبب امكانية الاختلاف في الاجتهاد لدى علماء الشيعة”، وذلك تلافيا من جانبه للاصطدام بمرجعية السيستاني التي سهَّلت في رأي كثيرين التصفية العسكرية للتيار الصدري.
موقف السيستاني
ومن سوء حظ مقتدى الصدر وتياره ان تلك القوى السياسية المناهضة وجدت من مرجعية آية الله علي السيستاني سندا لها، فقد بدا واضحا ان حريق النجف ما كان له ان يندلع لو ان المرجع الشيعي الأعلى رفض ذلك على نحو حاسم او لو انه – في أقل تقدير – بقي في المدينة لم يبارحها بينما النار تندلع في أطرافها.
وقد سبق أن أشرنا في مراسلة سابقة إلى أن التراجعات الحاصلة في رصيد مرجعية آية الله السيستاني على المستوى الشعبي تعني رصيدا مضافا – على نحو أو اخر – لصالح تيار الصدر الشاب الذي ظلَّ يقلِّلُ – تدريجيا – من هيبتها ومن سلطتها ويحد من نفوذها. وقلنا حينها ان هذا التراجع المفضوح سيسهم في كسب مقتدى الصدر جولة جديدة في صراعه مع القوى الشيعية الاخرى وبالتالي في الشارع العراقي.
وقد جاءت التطورات الأخيرة لتؤكد صحة هذا الإستقراء للأحداث، فقد باتت مرجعية السيستاني محل نظر – لأول مرة – وبات دوره مثيرا للشكوك بل ان كثيرا من الشارع العراقي السياسي منه والعام رأى في خروج السيستاني في رحلة العلاج الاشارة الخضراء امام قوات الاحتلال الامريكية لاجتياح النجف والاعتداء عليها، وباتت كثير من القوى وبعضها داخل الشارع النجفي تتناول سياسة السيتاني بالنقد وربما بالتجريح ايضا، بل ان البعض ربما تجاوز إلى أبعد من ذلك فاعتبر الرجل “متواطئا” بشكل أو بآخر مع تلك القوى التي تسعى لاغتيال الصدر وهي كثيرة ومتعددة المشارب.
هنا يمكن اعتبار مرجعية السيد السيستاني نموذجا للسلطة الدينية التقليدية المترددة في مواجهة صورة السلطة الدينية الشابة المتمثلة بمقتدى الصدر. ومن المؤكد أن سلطة المرجع الاعلى – على أهميتها وتأثيرها – قد تعرضت الى خلل كبير أمام الشارع العراقي الذي لن يكون بإمكان القوى السياسية الموجودة فيه حاليا ان تحشده ليخرج مؤيدا لمواقفه بالكامل او ان يعطيه تفويضا على بياض كما يقال وكما يسعى لترويجه البعض.
ويعتقد بعض المراقبين ان عودة السيد السيستاني من رحلته العلاجية كانت مثار انتباه، فعامل المفاجئة في عودة الرجل أثار كثيرا من التساؤلات، وربما قال البعض ان عودته جاءت لانقاذ الموقف سياسيا بعد ان تم تضييق الخناق على أتباع الصدر وباتت هزيمة أنصاره عسكريا شبه متحققة، وهي محاولة مزدوجة سعى البعض من خلالها الى اعادة شيء من الهيبة لصورة السيستاني التي اهتزت جراء الموقف السلبي الذي التزمه طيلة أسابيع ثلاث كانت دامية بحق، وانهاء الموقف برمته بصورة سلمية بعد ان تم الحسم الحقيقي عسكريا وبالفعل الأمريكي المباشر وحده.
الموقف من الحكومة المؤقتة
ومن الدروس التي يمكن استخلاصها من معركة النجف ذلك السقوط المريع لحكومة اياد علاوي المؤقتة، فبصرف النظر عن الموقف الأخلاقي منها ومن كونها “منصَّبة على يد الاحتلال وانها تفتقد أغلب معاني الشرعية” مثلما يرى جزء مهم من الشارع العراقي، فقد كانت معركة النجف كفيلة بكشف أوراقها وظهورها على حقيقتها، باعتبارها حكومة تعتزم تنفيذ برنامجها باغتيال وتصفية كل القوى السياسية المناهضة للاحتلال، وانها باختصار “امتداد مفضوح له ليس الا” مثلما يؤكد كثيرون.
لقد برزت على نحو واضح المعارضة القوية واللافتة لحكومة اياد علاوي من جميع الفصائل السياسية والقوى الوطنية وبات موقف المشاركين في الحكومة المؤقتة اكثر من محرج. وهنا يمكن الاشارة الى ما جرى في المؤتمر الوطني، حيث رفضت اعداد متزايدة من القوى السياسية التعاون مع هذه الحكومة والعزوف عن المشاركة في المؤتمر التي سعت الى عقده لاستيلاد جمعية وطنية ضمن منهج توليد المؤسسات والهياكل الفاقدة للشرعية والممهورة بالتبعية سلفا.
ويمكن القول بما يشبه اليقين ان تجربة النجف أدَّت الى ضعف الثقة بالحكومة المؤقتة – برغم محدوديتها سلفا – كما ادَّت الى تنامي ظاهرة معارضة سياسات علاوي وانتقاد تصرفات وتصريحات وزرائه. وفضلا عن ذلك فقد كشفت معارك النجف ضعف الحكومة وهشاشة فاعليتها وكيف انها استعانت بسلطة السيستاني التقليدية لإخراج مسرحية انهاء الأزمة في النجف بعد ان تم الحسم عسكريا بالفعل وبالقرار الامريكي.
المستقبل وانعكاسات الحاضر
ولكن ماذا بعد؟
نظرا لأن الواقع العراقي اليوم شديد الحساسية وقابل لكل الاحتمالات، يسود اعتقاد هذه الأيام بأن التيار الصدري الذي بدا مهزوما عسكريا في هذه الجولة قد يبادر إلى إطلاق جولة قتال جديدة بعد برهة من الزمن يسترد فيها أنفاسه لاعتبارات كثيرة من بينها مؤشرات تتحدث عن خزن مقاتلي التيار الصدري أسلحتهم في مخابئ ومنها ان المشروع الذي يعمل في اطاره لن يستسلم.
ونظرا للتداخلات الكثيرة المحيطة بالقضية العراقية اليوم ونتيجة لما جرى في النجف تحديدا، يعتقد عدد من المراقبين ان ينتج عن ذلك بروز فكر تكفيري تنتشر في ظله جماعات متطرفة هنا وهناك، لذلك يُـخـشـى أن تحرق نيران الانتقام والثأر العراقيين في العهد الجديد خصوصا ضد أولئك الذين يشعر الصدريون أنهم خذلوهم أو ساهموا في قتلهم.
ويرى محللون في بغداد أن حكومة اياد علاوي قد أخطأت باللجوء الى القوة في معالجة أزمة التيار الصدري وكان من الأجدى لها خصوصا وهي مجرد حكومة تصريف أعمال أن تجعل من الخيار السلمي تدشينا عمليا لديمقراطية بدت مفارقتها الصارخة في آلية تشكيل المؤتمر الوطني ووليدته الجمعية الوطنية التي فازت بالتزكية وجاءت على مقاس نظام المحاصصة الحزبية والطائفية الذي دشنه مجلس الحكم الإنتقالي منذ شهر يوليو 2003!
من جهة أخرى يطرح عدد من العراقيين عدة أسئلة من بينها: “حتى لو كان مقتدى الصدر خارجا عن القانون هو وأتباعه فهل ان قتلهم وتصفيتهم سيعيد الأمن والاستقرار المفقودين اصلا الى العراق؟” ويتساءل آخرون ما اذا كان الحل العسكري سينهي أزمة التيار الصدري مع الحكومة الجديدة، ام ان التطرف سيكون شعار المرحلة القادمة في العراق الجديد؟
ذلك ان أزمة التيار الصدري كما يرى كثيرون واحدة من عدة أزمات سياسية لم تكن وليدة اليوم، ولا يمكن حسمها بالخيار العسكري، إذ ليس سهلا على الحكومة القضاء على تيار له أتباع ومريدون في طول العراق وعرضه حتى وإن كانوا “من العاطلين واللصوص” مثلما يقول البعض. بل إن توفير فرص العمل الشريف هي الوسيلة لمعالجة ازمة العاطلين عن العمل، كما ان المعالجة النفسية والاجتماعية هي السبيل الأمثل للتعامل مع “المجرمين واللصوص”، اما قتلهم والاصرار على الحسم العسكري معهم فإنه سيزيد من حجم المشكلة ويجذرها، ويعمِّق من الشروخ في المجتمع العراقي في العهد الجديد.
أخيرا، يمكن القول انه (وبرغم كل ما يقال عنه)، فإن التاريخ سيسجل للتيار الصدري أنه صحَّح بواسطة مقتدى الصدر شيئا من الخلل الخطير عن الشيعة العراقيين الذين باتوا متهمين في العهد الجديد بالتعاون مع امريكا وبالعمالة للاحتلال الأجنبي.
مصطفى كامل – بغداد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.