مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

نهر الرّاين يستعيد ألقه وعافيته.. ولكن ببطء

صورة عن قرب لـموقع "لا يدا توما"، وهو المكان الذي ينبع منه نهر الراين في كانتون غراوبوندن جنوب شرق سويسرا Keystone

بدءاً من منبع نهر الراين في جبال الألب وحتى ضفافه في مدينة بازل الصناعية، باشرت swissinfo.ch رحلتها الإستكشافية للإمتداد السويسري لهذا المَمَر المائي الأوروبي الحيوي. وبالرغم من التدمير المتواصل لمَواطِن تكاثر الأسماك وموائلها نتيجة السدود المتعدّدة المشيدة على هذا الجزء من النهر، إلّا أن بوادر الإنتعاش بدأت في البروز مؤخرا.

يسلك السائل الجليدي الحلو المذاق طريقه في جسدي ليهزني الى الحياة ثانية. وتعينني يداي التي أضمها معاً على إبتلاع جرعة مياه أخرى بشراهة من إحدى الجداول التي تصب في بحيرة توما، أو كما يطلق عليها بالرومانشية “لاي دا توما” Lai da Tuma، الواقعة في كانتون غراوبوندن،على إرتفاع 2,345 متر فوق مستوى سطح البحر، والتي تُعتَبر مياهها الناتجة عن ذوبان ثلوج جبال الألب المصدر الرسمي الرئيسي لنهر الراين.

وعلى عكس مارتا، دليلي المحلي، أتنفس لاهثاً بعد تسلقنا مدة ساعة ونصف من ممر “أوبر الب” Oberalp على الحدود بين كانتونات أوري وغراوبوندن، وأشعر بالسعادة لأخذ قسط من الراحة على الضفة المعشوشبة الخضراء المطلة على بركة السباحة الطبيعية ذات اللون الفضي الأخضر الخاصة بنا.

في “لاي دا توما”

اليوم هو يوم الاثنين، ونحن نملك المكان لوحدنا الى حدٍ كبير.. ليس لي إلّا أن أعترف بانجذابي الشديد نحو هذه الأعجوبة الطبيعية

اليوم هو يوم الاثنين، ونحن نملك المكان لوحدنا الى حدٍ كبير. وهنا، لا وجود لهدير الدراجات النارية التي تقطع الوادي صعوداً ونزولاً. ولا يتعدى ما نسمعه زقزقة الطيور، وصوت صفير الغرير بين الحين والآخر. وليس لي إلّا أن أعترف بانجذابي الشديد نحو هذه الأعجوبة الطبيعية.

مع ذلك، لم تُترك بحيرة توما بمنأى عن البشر تماماً. فقد ساهم افتتاح طريق منابع الأنهار الأربعة عبر جبال سانت غوتهارد في العام الماضي، على جذب بضعة آلآف من الزوار الراغبين بالتمتع بالمياه الجليدية في أيام الصيف الحارة. ويمر طريق السير الذي يبلغ طوله 90 كيلومتراً بمنابع أنهار الراين، ورويس، وتيسينو والرون. يمكن قطع الطريق كسلسلة من النزهات الفردية في النهار سيراً على الأقدام، أو كرحلة واحدة تستمر من أربعة الى خمسة أيام.

وتعلَّق مارتا بالقول:”قبل عشرين عاماً كان الناس سيقولون أنك مجنون لتصعد إلى بحيرة توما، ولكن الكثير من الشباب يقومون بهذه الرحلة اليوم”.

لكن هذا الوضع لا يسعد الجميع، حيث تقول منظمة “برو ناتورا” البيئية المحلية التي تدعو للحفاظ على الطبيعة، بأن إنشاء هذا الطريق لم يخلو من الآثار السلبية.

لكن مارتا لا تتفق مع هذا الرأي، وكما تقول: “قبل عشرة أعوام، كنت ترى الأوراق والزجاجات هنا، ولكن الأشخاص اليوم أكثر إحتراماً وعناية بالطبيعة. أنا لا أشعر بالقلق حيال الأعداد الكبيرة من السياح – ليس بَعد على أي حال. ولكن ما الذي نريده؟ نحن نعيش من السياحة”.

السحب بدأت بالإنغلاق على بعضها، وبالنسبة لي، حان الوقت كي أبدأ رحلتي الطويلة متوجهاً نحو الشرق. عند مخرج البحيرة، يغطس رافد “راين دا توما” الى داخل حفرة جليدية مظلمة تظهر للعيان على إنخفاض 20 متراً نحو الأسفل، في بداية رحلة ملحمية بطول 1,230 كيلومتر الى بحر الشمال.

المزيد

المزيد

السير مع التيار

تم نشر هذا المحتوى على شيئا فشيئا، تشق مياه النهر المتدفقة بسرعة من الجبال الشاهقة مسارا عريضا يكبُر شيئا فشيئا، ثم تتراجع سرعتها كلما اتجه مسارُها شمالا وغربا. وفيما يستمتع كثيرون بممارسة هوايات الصيد والسباحة وركوب القوارب فيه، يُعتبر نهر الراين أيضا من أهم مصادر توفير الطاقة في سويسرا. (جميع الصور: سايمون برادلي، swissinfo.ch)

طالع المزيدالسير مع التيار

الذهاب تحت الأرض

بينما نتسلّق بحَذر إلى أسفل الجبل، يختفي التيار السريع التدفّق مرة أخرى تحت الأرض، ولكنه يُخفق هذه المرة في الظهور إلى السطح ثانية؟ إلى أين يكون قد ذهب يا ترى؟

“هل ترى ذلك النهر الصغير هناك؟” تقول مارتا، مشيرة إلى مسافة بعيدة أسفل الوادي، “هذه المياه ليست من التوما، ولكن من جداول أخرى في منطقة مجمعات المياه”.

ووفقاً لمجموعة “أكسبو” Axpo لإنتاج الطاقة الكهربائية التي تُدير هذا الجزء، يتم احتجاز مياه رافد “راين دا توما”، مثله مثل العديد من روافد المنبع الرئيسي لنهر الراين الأخرى أو “الراين الأمامي” كما يُسمى بالألمانية، ليجري بعدئذٍ إلى مسار من صُنع الإنسان، كجزءٍ من “أهم شبكة كهرومائية للضخّ والتخزين في سويسرا”.

ما لا أستطيع رُؤيته، هي أنفاق المياه المُتعرِّجة التي تصعد سفوح الجبال وتهبط منها ناقلة معها السائل الذهبي عبر السدود إلى محطات توليد الطاقة الكهرومائية التي أنشئت في عام 1960 في مدن صغيرة مثل “تافاناسا” Tavanasa و”رايشناو” Reichenau في كانتون غراوبوندن.

في سويسرا، تبلغ نسبة الطاقة الكهرومائية المنتجة نحو 55% من مجمل الطاقة الكُلية، تُنتَج منها نسبة 21% في كانتون غراوبوندن. وعلى مدى السنوات الـ 35 المقبلة، سوف تُسهم محطات كهرومائية إضافية “صديقة للبيئة” ومحطات جديدة وصغيرة وفعّالة في تلبية الطلب المتزايد على الطاقة في سويسرا. ولكن تبقى هناك بعض الأسئلة: هل يمكن للمصادر المائية السويسرية تحَمّل المزيد من الضغوطات؟

المزيد

تكاليف بيئية

كما خمنتم، فإن هذه الرحلة النهرية هي في الواقع رحلة برية، قررت القيام بها خلال السنة الدولية للتعاون في مجال المياه.

وإلى الأسفل من بلدة ديسينتيس Disentis مباشرة، أتنحى جانباً باتجاه النهر مُتعثراً ببعض الصخور الصغيرة. وفجأة، تستوقفني علامة خطر تُحذر من احتمال حدوث فيضانات مفاجئة ناجمة عن محطات توليد الطاقة الكهرومائية. أصبح واضحاً عندي الآن لمَ لا يوجد أحد هنا.

على إمتداد هذه الأرض، تمثل ظاهرة الذروة المائية Hydropeaking- التي تحدث نتيجة الإطلاق المفاجئ لكميات كبيرة من مياه النهر من خلال توربينات في فترات حمولة الذروة (ارتفاع الطلب على الكهرباء) – إحدى المشاكل الرئيسية في المنطقة. ومن المرجح تأثر مالايقل عن 1,000 كيلومتر من الممرات المائية في سويسرا بهذه الفيضانات الاصطناعية، وبالأخص الراين الأمامي، وشقيقة الراين الخلفي، بالإضافة الى أجزاء من راين جبال الألب (وادي الراين الذي يلتقي فيه فرعي النهر الرئيسيين) الممتد من “ريشناو” (كانتون غراوبوندن) وصولاً لبحيرة كونستانس (الواقعة بين سويسرا وألمانيا والنمسا وإمارة ليختنشتاين).

الثمن الذي تدفعه البيئة هنا يمكن أن يكون غالياً. وكما أخبرني دييغو تونولّا، أحد منتقدي هذه الظاهرة، وخبير المياه في المكتب الفدرالي للبيئة، قد يؤدي هذا الوضع الى جرف الأسماك وغيرها من الكائنات المائية وانقطاع السبل بها، وتدمير بيئة تكاثر الأسماك، وانخفاض الموائل، بالإضافة الى إحتمال تغيير درجة حرارة الماء.

ويتضح لي وأنا أتبع النهر، بأن السدود ومحطات الطاقة الكهرومائية المتعددة، تقطع غالبية مسارات الهجرة للكائنات المائية. وفي معظم الأحيان، لا توجد السلالم المصممة لمساعدة الأسماك على التحرك بإتجاه منبع النهر (ضد التيار). كما تعترض السدود أيضاً الرواسب الناعمة والخشنة كالرمل والحصى والأنقاض الخشبية التي تؤثر على الحياة البرية والطبيعة – كما يحدث مع التكاثر الطبيعي لسمك السلمون المرقط البني في منابع راين جبال الألب

وقُبيل شروعي برحلتي هذه، كانت جمعية “ProFischAlpenrhein” (مع وجود السمك في راين جبال الألب) قد قرعت جرس الإنذار، واصفة الوضع في المنطقة ب “الكارثي”. وحثت الجمعية السلطات وشركات الطاقة على تنفيذ إجراءات تخفيف الفيضانات الاصطناعية التي إتُفق عليها في عام 2011، مثل تحويل أو تفريغ تيار الماء المندفع بشكل منفصل، أو خفض وتلطيف نظم التدفق الداخلة والخارجة من المحطات.

من جهتها، تقول الكانتونات المتضررة مثل غراوبوندن وشركة “اكسبو” Axpo لتوليد الطاقة، أنها بصدد إعداد خطط ينتطر ان تجهز بحلول نهاية عام 2014 لتخفيف هذه الظاهرة. لكن من غير المتوقع أن يكتمل العمل الفعلي على مساحات محددة من النهر، قبل عام 2030.

وتتمثل المشكلة الكبيرة الأخرى بانخفاض منسوب مياه النهر تحت العديد من محطات الطاقة الكهرومائية. ومنذ عام 1992، بينت المتطلبات القانونية الحد الأدنى من المياه التي ينبغي الاحتفاظ بها في قيعان الجداول. ولكن 16 كانتوناً فقط من بين كانتونات سويسرا ال 26، تبدو مهيئة لتحقيق هذا الهدف بحلول عام 2015. وظهر كانتون غراوبوندن متلكئاً هنا، ولكنه يحَمَّل المسؤولية لقضية قانونية برزت مؤخراً.

وفي قرية “فالنداس”Valendas الصغيرة، أواصل سيري الى حافة النهر حيث تصرخ مجموعة من مُمارسي رياضة تجمع المياه البيضاء وهم يبحرون في قاربهم بمحاذاة الساحل. وفي هذا الموقع، يكتشف نهر الراين جانبه الهائج ثانية، قاذفاً بالقوارب عبر المنحدرات وهو يتمايل مُخترقاً قمم الأحجار الجيرية الضخمة عند مدخل أخدود “رويناولتا” Ruinaulta، أو كما يُطلق عليه أيضاً “جراند كانيون سويسرا”

ولا يستغرق الأمر سوى بضعة كيلومترات إضافية، ليعاود النهر تغييره ثانية. ومع خروجه من الوديان في رايشناو، يلتقي الراين الأمامي بشقيقه الخلفي المُنحدِر من ممر سان برناردينو، ليشكلا معاً مزيجاً جديداً بنياً موحلاً.

Keystone

في مشدّ صلب ومستقيم

من هنا تبدو مدينة خور القديمة، والأراضي الخصبة لزراعة الفاكهة والإعناب، والمنطقة التي يُروج لها باعتبارها موطن الطفلة “هايدي” بصورة ضبابية، وأنا أعجل في الطريق السريع إلى جانب النهر المُتَدفق شمالاً.

وعلى طول هذه المسافة الممتدة ل 80 كيلومتراً، يبدأ النهر بالتضخم وهو يلتقي بروافد رئيسية من جهة الشرق، كما يتوسع قاع الوادي تدريجياً. وقبل عدة مئات من السنين كان نهر الراين ينسج طريقه عبر الوادي بأكمله. وكان إتساع قاع النهر يزيد عن الكيلومتر في بلدية تريزين جنوب غرب إمارة ليختنشتاين مباشرة.

ولكن نهاية القرن التاسع عشر(19) شهدت تدخل الإنسانً لتصحيح مجرى النهر بشكل جري، بغرض الحماية من الفيضانات. وقابلت الزيادة في الرقعة الزراعية خسارة في التنوع البيولوجي. ويبدو النهر مُرَوَّضاً تماماً وهو عالق في مشد مستقيم بعرض 100 متر حتى بحيرة كونستانس.

لكن رؤية بعض الأشخاص بشأن مستقبل نهر الراين تبدو مختلفة. لوكاس إيندرماور، الخبير في الصندوق العالمي للحياة البرية (WWF)، يحلم بإعادة تجنيس أجزاء من راين جبال الألب. وهو يستوحي حلمه هذا من عمله على السهول الفيضية المَجدولة كالجُزُر على نهر “تاليامنتو” شمال شرق ايطاليا – التي تعكس موطناً لنظام بيئي غني.

وكما يقول:” نهر الراين يشبه الكائن الحي، وينبغي علينا العناية به”. ويضيف وهو يراقب النهر في بلدية “ديبولدساو”Diepoldsau في كانتون سانت غالن “لهذا النهر إمكانات هائلة للتنوع البيولوجي، أنه ممر للهجرة بين مرحلة ما قبل جبال الألب وجبال الألب” مشيراً إلى طول النهر بين مدينة خور وبحيرة كونستانس دون أي محطات للطاقة الكهرومائية.

يبدو أن مشاريع الحفاظ على الأنهار الكبيرة تميل إلى البقاء على الورق. ولكن إحدى المبادرات السويسرية – النمساوية التي تمضي قدماً وتولد بعض الصعوبات هي مشروع “ريزي” Rhesi” (الذي يحمل الحروف الأولى لكلمات: الراين، الترفيه والأمان بالالمانية). ويهدف المشروع الذي تبلغ تكلفته 600 مليون فرنك سويسري الى الوقاية من الفيضانات وإعادة التجنس على امتداد 30 كيلومتراً بين مصب رافد “إيل” Ill أعلى إمارة ليختنشتاين وبحيرة كونستانس.

وبغرض حماية المنطقة وسكانها البالغ عددهم 300,000 نسمة من فيضان يحتمل حدوثه مرة كل 300 عام، والذي قد تنجم عنه أضرار تقدر بالمليارات، إحتدت المناقشات حول المشروع في الخريف الماضي، حينما تم إستعراض خيارين بشكل علني. ويشعر البعض بالقلق من أن الحل الأكثر إيكولوجية قد يعني فقدان مصادر مياه الشرب بالإضافة الى 450 هكتاراً من الأراضي الزراعية. وبالنتيجة، صدر تكليف بإعداد المزيد من الدراسات، وتم تأجيل تاريخ البدء بالمشروع الذي يستغرق 20 عاماً حتى عام 2019.

محتويات خارجية

ملعب الحياة البرية السياحية

تدور اليعاسيب حول رأسي بمرح وأنا أسير على إمتداد قناة الراين الجديدة باتجاه مصب النهر. وعلى مقربة مني، تنساب المياه بلونها الأخضر الليموني من خلال حفرة، كاشطة معها الحصى وغيرها من الرواسب الثقيلة لتقوم بكبها في بارجة تقف بالإنتظار.

وتُقدرَّ الأنقاض المتدفقة في بحيرة كونستانس كل عام بنحو ثلاثة ملايين متر مكعب. ولمنع انجراف التربة حتى مصب النهر، أصبح تكريك (تجريف) النهر عملاً قائماً بدوام كامل.

وتمتد دلتا نهر الراين، وهي منطقة مثلثة أنشأت في عام 1900، بين القناة ونهر الراين الأصلي على أكثر من 2,000 هكتاراً. وهي تُعَدُّ موطنا غنياً للثروة الحيوانية و 600 نوع مختلف من النباتات، و300 نوع من الطيور، بضمنها طائر الخرشنة الشائعة والقطقاط المطور الصغير.

ويعيش ما يقدر بنحو مليوني شخص حول ثالث أكبر بحيرة في أوروبا الوسطى. وتمثل ال 48 مليار متر مكعب من مياه الشرب مستودعاً قيماً لأربعة ملايين شخص، بضمنهم سكان مدينة شتوتغارت الألمانية على بعد 120 كيلومتراً. كما تعتبر البحيرة أيضا ملعباً مزدحماً لمن يريد قضاء أيام العطل.

بصرف النظر عن لعبة القرص الطائر (الفرسبي)، وأجزاء صغيرة أخرى من البلاستيك المتناثر التي عثرت عليها خلال رحلتي القصيرة عبر الدلتا، تظهر القليل من البقايا الطافية من صنع الإنسان على الشواطئ، كما تبدوالمياه نظيفة جداً. وإذا كان بوسعنا تصديق البحث الذي أعدته اللجنة الدولية لحماية مياه بحيرة كونستانس في عام 2011، لا تبدو الملوثات الدقيقة مسألة رئيسية هنا أيضاً.

وفي تدفق البحيرة السفلى (وهي البحيرة الأصغر من بين بحيرتين تشكلان بحيرة كونستانس) في بلدة “شتاين آم راين” التي تعود للعصور الوسطى، يقفز الشباب من الجسر الرئيسي الى النهر.

تبدأ رحلتي بالتباطؤ وأنا أجول على طول الحدود السويسرية الألمانية بمحاذاة قرية “ديسَّنهوفن” Diessenhofen الخلابة وضفاف الأنهار المبطنة بالقصب والغابات الغرينية. وعند مدخل مدينة “شافهاوزن” شمال سويسرا، يُبَرِّد السباحون الصغار والكبار أجسادهم في حوض نهر “ريبادي” Rhybadi الخشبي الذي أنجز في عام 1870.

swissinfo/Rhybadi

الطاقة والصناعة

وقد انشات هذه الحمامات التاريخية قبل 30 عاماً من إقامة سد شافهاوزن، وهو الأول من أحد عشر سداً يمكن مشاهدتها على طول الراين الأعلى الممتد بطول165 كيلومتراً والذي يتدفق غرباً من بحيرة كونستانس إلى بازل.

وخلال وقوفنا أعلى الجدار الكونكريتي للسد الذي يمر النهر هادراً من تحته، يخبرني سامويل غرونر، عالم الأحياء المختص بالأسماك من الفرع المحلي لجمعية الصيد السويسرية، عن التأثير الكبير الذي احدثته السدودعلى طبيعة النهر في هذا الجزء.

وكما يوضح:”لاوجود لظاهرة الذروة المائية hydropeaking على طول نهر الراين الأعلى. غير أن المشكلة الأساسية تكمن في السدود التي تمنع هجرة الأسماك. تيار النهر يبدأ بالتباطؤ، كما تتغير البيئة، ويتحول النظام البيئي من نظام نهري الى نظام بحيرة”.

وترغب كل من السلطات السويسرية والألمانية بإتخاذ إجراء ما لتحسين قيعان الأنهر المتآكلة وغيرها من الأضرار البيئية الناجمة عن السدود. وكان المكتب الفدرالي للطاقة قد قدَّم في شهر مارس 2013 خطة شاملة مشتركة لدفع السلطات المحلية وشركات الطاقة لتنشيط رواسب قيعان الأنهار في أجزاء معينة.

وعلى مسافة غير بعيدة، يبدأ الوادي بالتضييق وصولاً الى شلالات الراين – الأقوى والأكبر في أوروبا- حيث يتقافز السواح بحماسة مبتعدين عن المياه الساقطة من ارتفاع 23 متراً لترتطم بمياه الشلال الذي يبلغ عرضه 150 متراً.

إبتداءاً من هنا، يبدأ مسار النهر بالتباطؤ ليسلك طريقه بشكل طبيعي بين منحدرات الغابة السوداء وسفوح جبال الجورا. وبصرف النظر عن بعض الأقسام المتدفقة بحرية، مثل منحدرات كوبلنز، يعود النهر ثانية ليكون تحت سيطرة الإنسان.

ويصبح الطلب الهائل على الطاقة المفروض على النهر واضحاً وأنا أمر بمحطة “ليبشتات” Liebstadt، أكبر محطة لتوليد الطاقة النووية في سويسرا، ومركز الشبكة الوطنية لتوليد الطاقة الكهربائية “سويس غريد” Swissgrid، في مدينة “لاوفينبيرغ” Laufenberg (كانتون آرغاو). ومن هذا الموقع، يمر خُمس مجموع الطاقة الكهربائية في سويسرا.

وتبرز الأهمية الاقتصادية لهذه المنطقة أكثر مع إقترابنا من بازل ذات الموانئ الداخلية في بلدية “موتينز” Muttenz و”بيرسفيلدن” Birsfelden (في كانتون ريف بازل)، وميناء آخرالى شمال المدينة قرب الحدود الفرنسية الألمانية.

وعلى الرغم من كل الأنشطة الصناعية، مازال بوسع الطبيعة أن تؤمن لها موطئ قدم.

ويشير أورس كريتيان من منظمة “برو ناتورا” لحماية الطبيعة الى نزل شُيِّد حديثاً على ضفة النهر في بلدية”غرينساخ فيهلن” Grenzach-Wyhlen،(في بادن – فورتنبيرغ بألمانيا بالقرب من بازل) قائلاً: “لو كنت قندساً ماكنت لأعيش بجانب مصنع شركة “باسف” BASF، أكبر شركة كيميائية في العالم، ولكنه موجود هنا”.

وكانت القنادس قد أعيدت الى سويسرا ببطء منذ عام 1956. وتعيش نصف دزينة من عائلاتها على طول نهر الراين وروافده في الجزء المكتظ بالمباني من كانتون ريف بازل، بمساعدة منظمات مثل “بروناتورا”. ويأمل زملاء آخرين من المدافعين عن البيئة من الصندوق العالمي للحياة في البرية WWF أن تعمل جهود مماثلة على تشجيع عودة سمك السلمون إلى نهري الراين والآر.

محتويات خارجية

شواطئ رائقة ومياه متلألئة

وعلى سطح المياه الخضراء المتلألئة، تتمايل أكياس حمراء وصفراء وزرقاء مقاومة للماء على هيئة أسماك صعوداً ونزولاً. ولتجنب العبّارة الغريبة، تنجرف مارة بالكاتدرائية المشيدة بالطوب الأحمر، قبل خروجها مع أصحابها من على مدجرات حافة النهر وسط مئات من السكان المحليين الذين يتشمسون كالفِقَم.

وتعتبر السباحة في مياه نهر الراين الباردة هواية صيفية أساسية بالنسبة لسكان بازل، بجانب تمضية الوقت مع الأصدقاء على ضفاف النهر المشمسة في حي “كلاين بازل” Kleinbasel (بازل الصغيرة).

وتبدو مياه نهر الراين اليوم أنظف بكثير، منذ إدخال تدابير التنقية والرصد لحالات الطوارئ، بعد الحريق الهائل الذي شب في مستودع للمواد الكيميائية تابع لشركة “ساندوز” للكيميائيات في عام 1986، والذي أسفر عن تسرب هذه المواد الى النهر. وكان الحادث الذي وقع في موقع “شفايتسر هالي” Schweizerhalle واحداً من أسوأ الكوارث البيئية التي عرفتها أوروبا.

وفي بلدية “فايل أم راين” التابعة لألمانيا شمال بازل، يمكن مشاهدة مبنى أبيض منفصل بجوار النهر، يمثل المحطة الدولية السويسرية الألمانية لرصد نهر الراين، التي أنشأت في عام 1986 في أعقاب كارثة ساندوز. وتعمل هذه المحطة كواحدة من سبع محطات هامة للتحذير، وتقوم بفحص نوعية المياه ودرجة الحرارة ومستوى ثاني أكسيد الكربون باستمرار.

وفي داخل المحطة، يشير بول سفوبودا، المسؤول عن المياه وقضايا التلوث في بازل، إلى جدار من الجداول والرسوم البيانية. وهو على قناعة تامة بتحسن نوعية المياه بشكل كبير.

وكما يقول “يمكنك رؤية ذلك في القياسات”، مضيفاً “هناك مواد لم تنخفض فَحَسب، ولكن لم يعد بالإمكان كشفها، مثل مبيد الأترازين الذي تم حظره في ألمانيا في عام 1991، ولاحقاً في وسويسرا في عام 2012”.

وتؤخذ عينات من المياه بشكل يومي لتُرسل لاحقاً إلى مختبر في بازل حيث يتم تحليلها باستخدام مطياف الكتلة العالي الدقة. ومنذ بداية عام 2012، أصبح بالإمكان القيام بفحص دقيق يومي لأكثر من 300 مادة في المياه.

ومنذ تسعينيات القرن الماضي، تحول محور العمل في المحطة من الكشف عن المعادن الثقيلة، والمواد الغذائية والمنتجات المكلورة، الى المبيدات الحشرية، والأدوية، والمواد الكيميائية المنزلية اليومية وغيرها من الملوثات الدقيقة.

وكما يخبرني سفوبودا، يستبق السويسريون جيرانهم الألمان والفرنسيين بخطوة هنا. وترغب السلطات السويسرية بإدخال عمليات إضافية مثل التنقية بالأوزون وتطهير المياه بالأشعة فوق البنفسجية في 100 محطة مختارة من مجموع محطات المعالَجة ال 700، للقضاء على ما يصل إلى 80 % من الملوثات الدقيقة. ويتهيأ البرلمان السويسري هذا الخريف لمناقشة تمويل هذه الإجراءات الجديدة، التي قد تصل كلفتها الى 1.2 مليار فرنك سويسري، وتستغرق 20 عاماً للتنفيذ.

وكان حادث الحريق في شركة “ساندوز” للكيميائيات في عام 1986 قد حول نهر الراين الى اللون الأحمر. أما في هذا اليوم المشمس، فالمياه زرقاء مخضرة.

وبرأي سارة، موظفة الإستقبال في الفندق الذي أقيم فيه في بازل :” المياه نظيفة بما فيه الكفاية للسباحة، ولكني لن أشربه”.

ها هي الشمس تضرب الأرض بحراراتها ثانية، مما يدفعني لإتباع نصيحة سارة. ومع كلمات أنشودة “في بازل على الراين ملكي” التي ترن في أذني، أمسك بإحكام بحقيبتي الحمراء المضادة للمياه ذات الشكل السمكي التي تحتوي على ملابسي، وأغلق فمي بقوة وأنا أغطس في المياه المتلألئة.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية