رغم السلام في السودان.. عقوبات أمريكا مستمرة
خلال زيارة كير إلى واشنطن، كانت الآمال السودانية معلقة على العودة بقرار أو على الأقل بتعهد رسمي برفع العقوبات الأمريكية المفروضة على البلاد منذ سبع سنوات.
وكانت حجة الخرطوم وما زالت، أن السلام قد بدأ وأن الأوضاع تغيرت والحركة الشعبية باتت شريكا في الحكم وفي المسؤولية وفي تحمل الأعباء.
لماذا تستمر العقوبات إذن؟ خاصة وأن هناك تعهدات أمريكية قيلت أكثر من مرة بأن توقيع اتفاقية السلام والبدء في تطبيقها سيؤدي تلقائيا إلى رفع العقوبات، وإعادة النظر إلى السودان كشريك في الاستقرار الإقليمي، ومؤهل للحصول على مِـنح أمريكية ومن المؤسسات الدولية المختلفة.
المنطق السوداني الذي حمله كير لم يجد القبول لدى الدوائر الأمريكية، وتمثل ذلك في اتخاذ قرار بمد العقوبات لمدة عام آخر، استنادا إلى ـ وهذا هو الجديد ـ أن الأوضاع في إقليم دارفور ما زالت متفجرة، وأن الحكومة لم تقم بواجباتها إزاء إحلال الأمن والسلام في هذا الإقليم، ومن ثم، فالعقوبات ستظل سارية المفعول وصولا إلى حل سلمي.
ولم يشر القرار أبدا إلى أن مسؤولية تردي الأوضاع في الإقليم مسؤولية مشتركة بين الحكومة وحركتي التمرد، اللتين فشلتا في الاستمرار في مفاوضات أبوجا، رغم الجهود الكبيرة التي بذلها الاتحاد الإفريقي والوساطة التشادية في الأشهر الأربعة الماضية، ورغم مرونة الطرح الحكومي السوداني في هذه المفاوضات وقبولها مبدأ أن ما طبق على الجنوب قابل للتطبيق على دار فور.
وفي الوقت نفسه، تعيش فيه حركة تحرير السودان انقسامات عميقة تنذر بتصفية حسابات شديدة الوطأة بين جناحي الرئيس الجديد للحركة، وأمينها العام السابق منى أركو مناوي، وجناح عبد الواحد محمد نور رئيسها السابق والمحصن مع أنصار له في جبل مرة، والمعزول مطلع نوفمبر الجاري من قبل مؤتمر عام للحركة، مشكوك في شرعية انعقاده، وهو ما سيكون له تأثيراته المباشرة على سوء الوضع في الإقليم وعلى تأخر مساعي إحلال السلام.
مفارقات عميقة
لا يخلو قرار مدّ العقوبات أثناء زيارة كير لواشنطن، من دلالات عميقة. أولها، أن كير قد عومِـل أمريكيا باعتباره مسؤولا سودانيا له أكثر من قبعة، فهو مسؤول حكومي رفيع المستوى، ولذلك أبلغ باستمرار العقوبات وحُمّـل جزئيا مسؤولية التوصل إلى حل سلمي في دارفور على غرار ما تم التوصل إليه في الجنوب.
صحيح أن طرح كير تمثل في أن الجولة القادمة من المفاوضات ستشهد حضورا لحركته الشعبية على صعيد تشكيل الوفد الحكومي الذي سيحمل رؤية جديدة وعملية وأكثر انفتاحا. لكن الموقف الأمريكي لم يزد عن حال الاستماع والحث على السير قدما إلى المفاوضات. وفي هذا الجانب، يمكن لكير أن يشعر بقدر من الإحباط لأنه لم يوفق في أولى مهامه القومية، ولم يحصل على جائزة أمريكية، ولو معنوية كانت، حتما ستفيده في تعزيز دوره على المستوى الوطني السوداني ككل.
كما عومل كير أيضا باعتباره المسؤول الأول في الجنوب، كرئيس لحكومتها، وكرئيس للحركة الشعبية الأكثر نفوذا وامتدادا في الجنوب، وهنا كانت التعهدات الرسمية الأمريكية بأن يحصل الجنوب على المزيد من المساعدات التنموية، شريطة الاستمرار في الالتزام ببنود السلام. لكن الأمر، عمليا، لم يكن مقنعا. فكيف للجنوب أن يحصل على مزيد من المساعدات وهناك عقوبات مفروضة على البلاد ككل؟ خاصة وأنه لا يوجد ما يشير إلى أن هناك تفكيرا أمريكيا في سن قانون يستثني الجنوب من العقوبات، ويحصرها فقط في الشمال.
حيثيات قديمة.. وجديدة
وهنا، تظهر المفارقة الثالثة، وتتعلق بالمنطق الأمريكي نفسه في مسألة العقوبات. وإذا رجعنا إلى صيغة القرار الأمريكي بمد العقوبات، سوف نجد تغيّـرا، من الناحية الشكلية، ولكنه لا يخلو من دلالة مهمة، حيث ربط مد العقوبات بالوضع المتفجر في دارفور، وبضرورة إحلال السلام هناك، وهو أمر جديد على الحيثيات التقليدية التي فرض على أساسها قانون فرض العقوبات على السودان منذ سبع سنوات، والتي تشمل تأخر السلام في الجنوب، وتقاعس حكومة الخرطوم بهذا الصدد، وكون السودان ضالعا في الإرهاب الدولي، وانه متورط فى عمليات زعزعة الاستقرار الإقليمي، وهي حيثيات كان لها ما يسندها في ذلك الوقت، ولو نسبيا.
هذه الحيثيات الثلاثة لم تعد موجودة بحكم التطورات في الجنوب، وتحسن علاقات السودان مع كل جيرانه، وأيضا بحكم التقييمات الأمريكية نفسها، التي وصلت إلى أن السودان، حسب تقرير الخارجية الأمريكية لعام 2004 بات متعاونا في جهود الحرب على الإرهاب الدولي. كما يبدو أن مد العقوبات دون ذكر الحيثيات التقليدية، تأكيدا لانتفاء وجودها.
منطق العقوبات الأمريكي
كيف يمكن تفسير ذلك؟ بداية، هناك ما يمكن وصفه “الولع الأمريكي” بمنطق العقوبات على من يوصفون بالمخالفين للسياسات والمصالح الأمريكية، استنادا إلى أن واشنطن تقوم بدور المعلم الأكبر، وباقي العالم هم التلاميذ الصغار الذين لا ينفع معهم سوى منطق الزجر والتعنيف وفرض الشروط، حين الغضب، وإعطاء صكوك السلوك الحسن، حين الرضا.
ولذلك، فإن سن قانون أمريكي بفرض عقوبات على بلد ما، يبدو دائما أسهل وأيسر، وذلك مقارنة باتخاذ قرار برفع هذه العقوبات، وهو الأمر الذي يتطلب مساومات، ليس فقط مع الطرف الخاضع للعقوبة، بل مع أطراف محلية وقوى ضغط مختلفة تكون لها حساباتها الذاتية بعيدا عن الحسابات الأمريكية العامة.
والواضح أن هناك في الداخل الأمريكي، وهم من يوصفون بأنهم قوى الضغط ذات الهوى الإفريقي، من يفضلون دائما أن تكون الدول المغضوب عليها لأسباب شتى واقعة دائما تحت سيف العقوبات الأمريكية، لأن ذلك يساعد في تغيير سلوكها وسحبها مرة أخرى إلى دائرة المصالح الأمريكية الأوسع.
والسودان، وفقا لهذه الرؤية العامة، ما زال تحت الاختبار، حتى بالرغم من أنه نجح في اختبار السلام في الجنوب، على الأقل في بنوده والتزاماته الأولى. أما اختباره الجديد، فهو دارفور، التي يُراد لها أن تكون بصورة أو بأخرى نسخة جديدة من الجنوب، من حيث تقسيم الثروة والسلطة والعلاقة التي تسمح بعد حين إلى انفصال ودّي يؤدي إلى بلورة أكثر من كيان ذي شخصية دولية متميزة.
والظاهر، أن خيارات السودان الجديد وحكومته القومية، ليس لها سوى طريق واحد وحسب.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.