سلام السودان.. غياهب التفاصيل والتطبيق
تؤكّـد الحكومة السودانية ومتمردو جيش تحرير الشعب السوداني إصرارهما على إنجاح عملية السلام بينهما ووضع حدّ لحرب أهلية متواصلة منذ أكثر من 20 عاما.
وتقول الولايات المتحدة إن هنالك إمكانيات لتوصل الطرفين إلى اتفاق سلام شامل في غضون الأسابيع المقبلة.
يدخل المفاوضون السودانيون من الحكومة والحركة الشعبية جولتهم المخصصة لاقتسام السلطة والثروة وتحديد مستقبل العاصمة يوم الاثنين 6 أكتوبر الجاري في كينيا تحت رعاية منظمة “الإيقاد” بروح جديدة وإيجابية معقولة، عكسها التوقيع على الاتفاق الخاص بالترتيبات الأمنية، الذى جاء بعد ثلاثة أسابيع من المفاوضات المكثفة، قادها من الجانب الحكومي علي عثمان طه نائب الرئيس عمر حسن البشير، ومن جانب الحركة الشعبية جون غارانغ زعيمها القوي، وأسهم فيها كثيرا الوسيط الكيني المدعوم بتدخلات وأفكار أمريكية وأوروبية، بينما ظل الدور العربى بعيدا ومن وراء ستار كثيف.
وهذا الاتفاق هو الذي حلّ عُـقدة أساسية طالما نظر إليها الجانبان باعتبارها المحك الفعلي لنية السلام لدى الطرف الآخر، فيما ظلّـت قناعة الجبهة الشعبية وقوى جنوبية عديدة في أن خبرة اتفاقيات أديس أبابا لعام 1972 (والتي استمرت عقدا كاملا، وانتهت عمليا بقرار من الرئيس نميرى حين أعلن تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية في سبتمبر 1982)، تفرض عليهم عدم الوقوع فى الخطأ ذاته مرتين، وهو خطأ تجاهل الترتيبات الأمنية، وحل المشكلات المختلفة الناتجة عن وجود قوى عسكرية أو شبه عسكرية، طالما تحاربت لفترة طويلة ولم يعد لها نفس الدور فى ظل السلام.
وبالرغم من وجاهة ومنطقية حل المشكلات الأمنية والتفكير فى أوضاع القوات المسلحة الحكومية وغير الحكومية فى الفترة الانتقالية وما بعدها، فإن التركيز على أنها هي المحك الرئيسي لسلام دائم ومستقر، يحمل قدرا من المبالغة، وذلك دون نفي أن تجاوز القادة العسكريين في كلا الجانبين ورؤيتهم لأوضاعهم الجديدة في ظل السلام ليس من الحكمة بمكان.
فهم أولا وأخيرا مشاركون فى صنع القرار على الضفتين، وإشراكهم فى بلورة مستقبل وطنهم ودورهم المستقبلي والمهني بكافة جوانبه، يُـسهِّـل تجاوز الكثير من العقبات الحيوية.
ويكفى الإشارة إلى أن الأيام الأولى للمباحثات بين علي عثمان طه وجون غارانغ في منتجع نيفاشا الكيني شهدت تسويات شفهية كثيرة، ومن بينها أمور أمنية.
وحين جاء الوفد العسكري الحكومي برئاسة وزير الدفاع اللواء بكري حسن صالح، تم إعادة النظر فى الكثير من هذه التسويات الشفهية، لاسيما مساواة وضع قوات الحركة الشعبية مع قوات الجيش النظامي الحكومي، وأن يتم انسحاب القوات النظامية في مدة أقصاها 6 اشهر من الجنوب، وجاء الرفض استنادا إلى أسباب تقنية أحيانا، وأسباب أمنية بحتة أحيانا أخرى، ومن ثم أعيد التباحث وحدث ما فيه من صعود وهبوط وتدخلات عدة من الرعاة حتى الإعلان عن الاتفاق الإطاري في 25 سبتمبر الماضي.
تحولات جوهرية
يعكس الاتفاق تحولا جوهريا في فكر الطرفين، ويعكس أيضا روح التنازلات المتبادلة على نحو واضح، وهو ما ظهر في قبول الحكومة مبدأ وجود جيش للحركة طوال الفترة الانتقالية، أو بتعبير محايد قوات عسكرية للحركة تستمر فى صورة مستقلة بعيدة عن سيطرة المركز، ولكنها تتساوى مع القوات الحكومية، وذلك مقابل قبول الحركة تشكيل قوات مشتركة مع قوات من الجيش الحكومي بأعداد كبيرة نسبيا عما كانت تطالب به (كانت تطالب بعدد أقصى 24 آلف، ولكنها قبلت في النهاية بـ 39 ألف)، فضلا عن قبولها مدة زمنية أطول وصلت إلى عامين ونصف يتم خلالها انسحاب القوات الحكومية وتخفيضها إلى 12 ألف جندي بدلا من 100 ألف الموجودين حاليا. ناهيك عن قبول انسحاب قوات الحركة من شرق السودان خلال سنة واحدة من بداية الفترة الانتقالية.
ولعل أهم التنازلات المشتركة تكمُـن في قبول مبدأ التخفيض النسبي لقوات الطرفين المسلحة. وعلى صعيد التطبيق، فقد ربط هذا الأمر بالتوصل إلى ترتيبات وقف إطلاق نار شامل، الذي تم الاتفاق عليه من حيث المبدأ، وذلك بدوره سيأخذ وقتا آخر من التفاوض والبحث وتدخلات من الأطراف الراعية.
وتذهب بعض الأفكار المطروحة في هذا الصدد إلى حدّ الاستعانة بمراقبين دوليين أو من بلاد إفريقية، بحيث تتضمن جدولا زمنيا لإعادة نشر القوات جنوبا وشمالا مع تحديد مواقعها. والواضح أن الأمر سيكون بحاجة إلى صبر وبناء ثقة متبادلة وصولا إلى ترتيبات شاملة غير قابلة للنكوص أو التراجع، ومن ثم إفساد كل شيء.
البحث عن عقيدة مشتركة
الجدير بالذكر هنا أن القوات المشتركة تم التعامل معها باعتبارها نواة لجيش السودان الجديد الموحد، إذا ما وافق الجنوبيون على الاستمرار في سودان موحد في الاستفتاء الخاص بحق تقرير المصير المتّـفق عليه بعد نهاية الفترة الانتقالية.
ومن هنا، تضمن الاتفاق إشارات إلى أن يكون لهذه القوات التي سيصل عددها إلى 39 ألف موزعة على أربعة مناطق، عقيدة عسكرية جديدة لم تحدد بعد، وترك تحديدها لاحقا لعمل لجان مختصة، وتلك بدورها مسألة شائكة ولن تخلو من عقبات ووجهات نظر مختلفة، خاصة وأن الذين سيقودون هذه القوات هم من القوات المسلحة لكلا الجانبين، وهم ليسوا بعيدين عن التنشئة العقائدية القائمة على العداء مع الطرف الآخر، والتي سادت في الفترة الماضية.
وبعيدا عن هذه الإشكالية، فقد حدد الرئيس البشير مهام هذه القوات المشتركة في أنها مهام سيادية تعنى بحماية الوطن السوداني ومواجهة الاعتداءات الخارجية، ولن تكلف بأي مهام أمنية داخلية إلا إذا اتفق على ذلك، ويفهم أن هذا الاتفاق حال حصوله سيكون بموافقة الرئيس ونائبه.
والواضح هنا، كما تشير المادة 6 من الاتفاق، أن الطرفين يضعان نصب أعينهما أن السودان الموحد ليس سوى أحد احتمالين، وأن الانفصال السلمي احتمال آخر، وهو توجه من شأنه أن يؤثر نسبيا على عملية بناء عقيدة مشتركة لسودان موحد بالفعل، إذ يٌتصور أن يظل كل طرف متمسكا بكثير من مبادئ عقيدته الأصلية التي هي عقيدة مواجهة.
ومثل هذا الإحساس بإمكانية التراجع لحالة مواجهة أو انفصال وتباعد، تمثل خصما من الجهود الحقيقية المفترض بذلها لبناء سودان موحد على أسس جديدة، بما في ذلك بناء قوات مسلحة مشتركة يهمها الحفاظ على وحدة الأراضي السودانية ككل، ولا تقوم فلسفتها على مجرد الدفاع عن جزء فى مواجهة جزء آخر.
والأمل معقود أن يتم تدارك هذه النقطة فى التطبيق، وأن يسهم مناخ السلام فى بلورة رغبة حقيقة لبناء قوات مسلحة محترفة وتعمل وفق الأسس المتعارف عليها في الدول الموحدة.
مستقبل الميليشيات الأخرى
لقد شكلت التفاصيل الأمنية التقنية المخلوطة بفهم معين للمبادئ التي اتفق عليها مأزقا للطرفين وأيضا للميليشيات الأخرى المتعاونة مع هذا الطرف أو ذاك. وفي حين أن المفاوضات اقتصرت على طرفي الحكومة والجيش الشعبي، وتلك بدورها مأخذ خطير، فإن بنود الاتفاق تتطلب تعاونا في تطبيقها مع قوى جنوبية أخرى استُـبعدت عمليا من هذه المفاوضات، وهذه بدورها واحدة من أهم تحديات التطبيق لهذا الاتفاق الأمني.
والمعلن، أنه سيتم التشاور مع القوى السياسية الأخرى، خاصة التي لها ميليشيات عسكرية تحديدا، ومن بينها قوى شمالية تنضوي تحت لواء التجمع الوطني الديموقراطي المعارض، وأخرى مستقلة بنفسها، كما هو حال قوات حركة تحرير السودان العاملة فى دارفور، وميليشيات جنوبية أخرى متحالفة سياسيا مع حكومة الرئيس البشير، وذلك بهدف بحث مستقبل تلك القوات وإلى أي مدى سيتم دمج بعضها في القوات المشتركة التي يُـفترض تشكيلها، حسب الاتفاق، من قوات الجيش الحكومي والحركة الشعبية، أو سيتم تسريحها واستيعابها في المؤسسات المدنية المختلفة التي ستُـشكّـل في ظل السلام، لاسيما فى الولايات الجنوبية، أو ربما يتم دمج بعضها داخل القوات التي ستبقى امتدادا لما هو قائم الآن.
اللافت للنظر هنا أن مجمل الاتفاقات التي تم التوصل إليها من قبل، تصب فى تخصيص حصص سياسية وإدارية وأمنية للحركة الشعبية في الولايات الجنوبية، ولا يمكن التنازل عنها، إضافة إلى حصص أخرى على الصعيد المركزي، وهو ما لم يحدث بالنسبة للقوى الجنوبية الأخرى، والمتصور في هذه الحالة أن تلعب سيطرة الحركة الشعبية على المؤسسات المدنية الناشئة في الجنوب دورا سلبيا في استيعاب غير المنتمين للحركة داخل هذه المؤسسات، الأمر الذي يوفر مناخا للتمرد والاستياء تجاه عملية السلام ككل.
وفي حال عدم تحديد آليات واضحة لعملية الاستيعاب هذه في جولات التفاوض المقبلة، فستظل هناك بؤرة قابلة للانفجار على نحو أو آخر، ولا تنفع معه مجرد تطمينات عابرة من قبيل القول أن من غير المعقول أن تقبل الحكومة الجديدة في ظل السلام ببقاء قوات تعمل على مواجهتها مستقبلا.
د.حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.