سويسرا أمام مجلس حقوق الإنسان: ارتياحٌ وانتقادات
دافعت وزيرة الخارجية السويسرية ميشلين كالمي - ري عن ملف سويسرا في مجال حقوق الإنسان أمام آلية الاستعراض الدوري الشامل لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، مُـحاولة توضيح تعقيدات خصوصية النظام الفدرالي وانتهاج الديمقراطية المباشرة.
لكن تساؤلات الدول تركزت على “افتقار سويسرا لهيئة وطنية لحقوق الإنسان وتعارض بعض مبادراتها الشعبية مع مبادئ القانون الدولي وعدم اتخاذ إجراءات فعالة لمواجهة تعاظم مظاهر العنصرية والإحساس المعادي للأجانب والتمييز ضد الأفارقة والمسلمين”.
سويسرا التي كانت من بين الدول المتطوعة للخضوع لآلية الاستعراض الدوري الشامل التابعة لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، قدمت صباح الخميس 8 مايو 2008 تقريرها المكون من 22 صفحة.
وقد أُوفِدت وزيرة الخارجية ميشلين كالمي – ري لتقديم التقرير والدفاع عنه مصحوبة برئيس القسم القانوني في الوزارة بول زيغرس.
وإذا كانت تمارين آلية المراجعة الدورية الشاملة السابقة قد تميزت نوعا ما بالمبالغة في مدح خصال وإنجازات البلد المقدم للتقرير، فإن الطريقة التي تم بها استعراض تقرير سويسرا، تعكس رغبة في الدخول في صلب الموضوع بدون إطالة أو مبالغة، حيث أشادت الغالبية الساحقة من الدول بالدور الرائد الذي تلعبه سويسرا في مجال تطبيق معايير حقوق الإنسان، ولكن ذلك لم يثن كل المتدخلين الذين فاق عددهم الأربعين عن الإشارة الى نقائص سويسرا في هذا المجال وتقديم التوصيات بهذا الشأن.
العولمة وتعقيدات النظام الفدرالي
وزيرة الخارجية حاولت في بداية عرضها تقديم شروح عن واقع النظام الفدرالي السويسري وتقاسم المهام بين سلطات فدرالية وسلطات محلية في الكانتونات في مجال التطبيق مثل التعليم والصحة والشرطة، وما يترتب عن ذلك من صعوبات أو تأخير في اتخاذ الإجراءات التصحيحية الضرورية.
كما أوضحت كالمي – ري أن “سويسرا، كباقي بلدان العالم، لا يمكنها الاكتفاء بما حققته في مجال حقوق الإنسان، لأن الديناميكية التي تفرضها العولمة قد تقود الى توترات بخصوص الهوية، يمكن أن تستغل سياسيا”، مضيفة في استباق للانتقادات العديدة بخصوص مظاهر التمييز العنصري أن “الانكماش على النفس لا يقتصر على انزواء على أساس الانتماء الوطني، بل قد يتعداه الى النفور من الآخر”.
ضرورة إنشاء مؤسسة وطنية لحقوق الإنسان
من الانتقادات التي قدمتها منظمات المجتمع المدني السويسرية منذ سنوات لنظام حقوق الإنسان في الكنفدرالية، افتقار هذا البلد لمؤسسة وطنية مستقلة تعنى بتطبيق حقوق الإنسان، وهو الانتقاد الذي أعادت العديد من الدول، نامية أو متقدمة، طرحه أمام آلية الاستعراض الدوري الشامل، قبل ان تقدم توصية، على غرار ممثل الجزائر الذي شجع سويسرا على “تأسيس مؤسسة مماثلة لأن ذلك قد يساعد سويسرا على الاستمرار في القيام بدور رائد في مجال محاربة العنصرية”.
وفي ردها على هذه النقطة أمام مجلس حقوق الإنسان، قالت الوزيرة كالمي – ري “إن هناك لجنة تضم مختلف الشركاء هي بصدد إعداد تقرير بهذا الخصوص سيُرفع للحكومة الفدرالية قريبا لاتخاذ موقف بهذا الشأن”.
وإذا كان ممثلو منظمات المجتمع المدني السويسرية قد عبروا عن الارتياح لكون العديد من الدول طرحت موضوع إقامة مؤسسة وطنية على أساس توصيات باريس، فإن الريب ينتابهم على غرار دانيال بولومي رئيس الفرع السويسري لمنظمة العفو الدولية، الذي “يشك في إمكانية حصول هذا المشروع على الأغلبية في لجنة العمل هذه التي هو عضو فيها”. ويرى بولومي أن “قيام مؤسسة وطنية لحقوق الإنسان على أساس توصيات باريس، أي بقانون أو بقرار، ما زال أمرا بعيد المنال”.
إعتماد معاهدات بصورة انتقائية؟
وإذا كانت وزيرة الخارجية قد سارعت إلى الإعلان أمام آلية الاستعراض الدوري الشامل عن “دراسة السلطات الفدرالية حاليا لإمكانية التوقيع على معاهدة مناهضة الاختفاءات القسرية ومعاهدة حقوق المعوقين”، فإن العديد من الدول(من بينها دول عربية وإفريقية) تساءلت لماذا لم تسارع سويسرا إلى توقيع معاهدة حقوق المهاجرين؟
جواب الوزيرة شدد على أن “بعض بنود هذه المعاهدة يتعارض وقانون اللجوء السويسري الجديد”، وكأن القانون السويسري يسمو على القانون الدولي أو على المعاهدات التي وقعت عليها سويسرا. وأثار هذا التعليل الذي جاء على لسان الوزيرة غضب منظمات المجتمع المدني السويسرية بحيث قال دانيال بولومي “إننا نتساءل عن تبريرات هذا الرد لأن أي دولة يمكن أن تجيب بنفس الرد على رفض أي قانون من القوانين”. ولا يستغرب ممثل منظمة العفو الدولية لكون أن دول الجنوب هي التي أثارت هذا الموضوع.
الحاجة لقانون فدرالي لمناهضة التمييز والعنصرية
ومن الانتقادات التي وجهت بكثرة لسويسرا أمام مجلس حقوق الإنسان، وبالأخص من قبل دول عربية وإسلامية وإفريقية، تعاظم مظاهر تصرفات عنصرية. وكانت منظمات المجتمع المدني السويسرية قد طالبت بإصدار قانون فدرالي لمناهضة العنصرية، كما وجهت عدة دول من الشمال والجنوب انتقادات للتمييز بين الجنسيين في مجال الأجور.
في هذا الصدد، اعترفت الوزيرة بوجود الهوة قائلا ” إننا لم نقض على كل أوجه التمييز”، لكنها أعربت في المقابل عن اعتقادها بأن المعالجة لا تتم عبر إصدار القوانين بل عبر برامج الاندماج الاجتماعي والتكوين المدرسي، والرفع من مستوى معيشة كل الفئات الاجتماعية.
وشددت منظمات المجتمع المدني السويسرية على أن “التوصيات التي وجهها المقرر الخاص لحقوق الإنسان المكلف بمناهضة أوجه التمييز العنصري دودو ديان لسويسرا، لم تتبع بإجراءات عملية لحد الآن”.
مبادرات شعبة قد تتعارض مع القانون الدولي
رغم محاولة تقديم شروح حول تعقيد تقاسم السلطات في نظام فدرالي، ومدى تمسك السويسريين بنظام الديمقراطية المباشرة، تساءلت العديد من الدول حول كيفية التوفيق بين احترام سويسرا لالتزاماتها الدولية وللقانون الدولي، وبين قبول مبادرات شعبية تبدو وكأنها تتعارض مع الدستور ومع القانون الدولي.
وبهذا الخصوص أوضحت وزيرة الخارجية أن “نظام ديمقراطيتنا المباشرة يسمح للشعب بنقض قرارات يتخذها البرلمان وإدخال إصلاحات على بنود الدستور. وهذا يفرض شفافية أكثر في النقاش، ويؤدي إلى طرح حتى المواضيع الأكثر إثارة وحساسية على نقاش في الساحة العمومية، وعادة ما ترافق هذا النقاش تصريحات مستفزة ومبالغ فيها وغير مقبولة في بعض الأحيان”.
وأمام إلحاح بعض الدول مثل كندا عما تنوي سويسرا القيام به لو صوت الشعب بأغلبية لصالح مبادرة مخالفة للقانون الدولي؟ ردت الوزيرة بالقول “إنه سبق للحكومة أن رفضت مبادرة في عام 1967، وفي حال فوز مبادرة شعبية تتعارض مع مبادئ القانون الدولي، فإن أمام الحكومة إمكانية البث عند إصدار قانون تطبيق ما تطالب به تلك المبادرة، كما أن أمام الحكومة إمكانية رفع القضية أمام المحكمة الفدرالية للنظر في مطابقتها أو عدم مطابقتها للقانون الدولي”.
وهذا الغموض في الموقف، انتقدته منظمات المجتمع المدني السويسرية، إذ أوضح ممثل منظمة العفو الدولية دانيال بولومي أن “رد الوزيرة لم يكن مقنعا”، وأن “أحد كبار رجال القانون في هذا البلد، فالتر كيلين، يرى أنه على الحكومة التوضيح قبل تصويت الشعب على مبادرة ما بأن محتواها يطابق أو يخالف الدستور ومبادئ القانون الدولي”.
انتحار الشباب وجمود السلطات
ومن النقاط التي أثارتها العديد من الدول ظاهرة ارتفاع حالات الانتحار بين الشباب في سويسرا، وتساءلت دول أخرى مثل هايتي عن سبب وجود سويسرا على قائمة الدول التي بها أعلى نسبة امتلاك للأسلحة النارية؟
وإذا كانت الوزيرة كالمي – ري قد اكتفت بالرد فقط على الشق الثاني من السؤال بتعليل ذلك بامتلاك سويسرا لجيش ميليشيات، وبأن “هذا السلاح موجه فقط للدفاع عن البلد”، فإن ممثل منظمة الحد من الانتحار بين الشباب في سويسرا، فلوريان ايرمينغر قال “إن نسبة الانتحار عندنا من أعلى النسب في المحيط الجغرافي الذي نعيش فيه، وثانيا، نحن البلد الوحيد الذي ليست لديه برامج محددة للحد من هذه الظاهرة”.
وقد أعرب عن استغرابه من ردود الوزيرة التي اعتبرها محاولات “للتهرب من الخوض في الموضوع”. كما يرى إيرمينغر أن تساؤل ممثل هايتي عن “سبب امتلاك أعلى نسبة من الأسلحة في المنازل لبلد مسالم”، سؤال في محله نظرا لكون سويسرا تسجل أعلى نسبة انتحار بأسلحة نارية. كما يعتقد أن رد الوزيرة لم يكن موفقا عندما أجابت بالقول بـأن “امتلاك الأسلحة موجه لهدف دفاعي”.
سويس إنفو – محمد شريف – جنيف
الطريقة التي تمت بها مناقشة تقرير سويسرا أمام آلية الاستعراض الدوري الشامل لقيت استحسانا من قبل الرسميين السويسريين ومن قبل ممثلي المجتمع المدني السويسريين في آن واحد.
كما أن الطريقة التي تدخلت بها الدول على اختلاف انتماءاتها الجغرافية تترك انطباعا في نظر العديد من المراقبين، بأن هذه الآلية الفتية يبدو أنها قد بدأت تنتهج منهجا موضوعيا في معالجة التقارير بعد “الانحرافات التي عرفتها في بداية التجربة”، خصوصا عند تقديم تقارير بعض الدول العربية، والتي عرفت تماطلا في كسب الوقت في تدخلات للإطناب في المدح وتفادي الخوض في صميم مسائل حقوق الإنسان.
فقد عبرت وزيرة الخارجية السويسرية ميشلين كالمي – ري عن اعتقادها بأن آلية الاستعراض الدوري الشامل “تمثل خطوة حقيقية نحو الأمام” متسائلة “من كان يتصور قبل سنوات أن كل الدول وبدون استثناء ستخضع للمراجعة أمام الدول الأعضاء وأمام ممثلي المجتمع المدني؟”.
واختتمت الوزيرة تقييمها بالقول “إنه لتقدم هائل اعتماد مبدأ المراجعة الدورية، ويا له من تقدم كوننا أصبحنا قادرين على مناقشة أوضاع حقوق الإنسان بشكل مفتوح وبناء في كل البلدان، وأصبحنا قادرين على الإصغاء للآخرين وقادرين على فهم الخصوصيات، وعلى إدراك العقبات التي تحول دون تحقيق الانجازات في مجال حقوق الإنسان هذا الإرث المشترك”.
ومن جهتها عبرت منظمات المجتمع المدني السويسرية، المجتمعة في تحالف يضم أكثر من 30 منظمة غير حكومية، عن الارتياح لسير عملية استعراض التقرير السويسري مع انتظار كيفية متابعة التوصيات التي ستصدر عن آلية الاستعراض الدوري الشامل.
وقد استحسن ممثلو منظمات المجتمع المدني السويسرية أولا استشارتها من قبل الحكومة السويسرية في عملية إعداد التقرير الحكومي، وثانيا إثارة الدول في المجلس لجل النقاط التي تضمنها التقرير الموازي الذي قدمته هذه المنظمات، واستحسنت بالخصوص استغلال الدول الدقائق الثلاث أحسن استغلال بحيث كانت تمر مباشرة إلى صلب الموضوع.
وإذا ما حافظ المجلس على هذا الخط، فقد يوجه آلية الاستعراض الدوري الشامل نحو الأفضل وبشكل يخفف من المخاوف التي أثيرت في الدورة السابقة من قبل بعض المنظمات المدنية الدولية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.