اتفاقية مُتجاوزة وأحاديّة الجانب.. أم مُحيّنة وعادلة؟
خلال ندوة صحفية عقدت يوم الثلاثاء 26 فبراير 2013 في برن، وجّه "تحالف الجنوب"، وهو ائتلاف يضم منظمات غير حكومية معنية بالتنمية، انتقادات لاذعة للإتفاق الثنائي بين تونس وسويسرا في مجال تشجيع وحماية الإستثمارات.
هذه الإنتقادات ردّ عليها السيد طارق بن حميدة، سفير الجمهورية التونسية لدى الكنفدرالية بالتشديد على أن هذه الإتفاقية “تحقق مصالح تونس وتحترم قوانينها الداخلية، وتأخذ في الإعتبار كل ما هو جديد على مستوى القوانين والأعراف الدولية في المجاليْن التجاري والإستثماري”.
وإذا كان تحالف المنظمات السويسرية غير الحكومية لا يعارض من حيث المبدإ تحفيز الإستثمار وحمايته، فإنه يرهن إسهام هذه الإستثمارات في التنمية بتحقق العديد من الشروط، لعلّ من أبرزها اليوم “اعتماد بلدان الجنوب لسياسات وطنية استباقية، ومراجعة جادة وجذرية لاتفاقيات حماية الإستثمارات”، بحسب بيتر نيغلي، مدير “تحالف الجنوب” الذي يرى أن هذه الإتفاقيات في صيغتها الحالية لا تعدو أن تكون سوى “واحدة من مخلفات الحقبة الإستعمارية”، على حد تعبيره.
هي اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف أو واردة ضمن اتفاقيات التبادل التجاري الحر، وتهدف إلى ضمان حماية استثمارات بلد ما على أراضي بلد آخر.
حتى اليوم، تم إبرام 6100 اتفاقية من هذا القبيل، من بينها 2750 اتفاقية ثنائية، وقد تزايد عدد هذه الإتفاقيات بشكل مطّرد خلال السنوات العشر الأخيرة.
بحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، يتم ابرام أربع اتفاقيات جديدة كل أسبوع من هذا الصنف، وهناك توجه متعاظم لمراجعة الإتفاقيات السابقة.
أبرمت سويسرا حتى الآن 130 اتفاقية لتشجيع وحماية استثماراتها في الخارج، معظمها مع بلدان الجنوب والبلدان التي تمر بمرحلة انتقالية.
سياق وطني ودولي تحكما في الإتفاق
ومع أن بعض البلدان الغربية مثل كندا والولايات المتحدة، أعادت النظر في هذا الصنف من الإتفاقيات وطوّرتها، فإن سويسرا أثبتت – من خلال اتفاقيتها الأخيرة مع تونس – أنها “لا تزال متمسكة بها كما هي في صيغتها الأولى التي تعود إلى الستينات من القرن الماضي”، بحسب نيغلي. وهو ما ينفيه السفير التونسي طارق بن حميدة، حيث أكّد في حديث إلى swissinfo.ch أن الإتفاقية المذكورة بالصياغة التي هي عليها الآن “قد تحكّم فيها السياق الوطني التونسي والسياق الدولي” القائميْن حاليا.
على المستوى الوطني، يذكّر السفير التونسي أن “قوانين الإستثمار في تونس شهدت تطوّرا كبيرا، كما أن إقتصاد البلاد مفتوح على الخارج، ويوفّر العديد من المزايا والمحفّزات للمستثمرين المحليين وللأجانب على وجه خاص، على المستوى الضريبي والمالي والإقتصادي. وهذا خيار سياسي مدروس، ومُؤسس على قواعد متينة”.
أمّا على المستوى الدولي، فإن “التفاوض مع سويسرا بشأن هذه الإتفاقية جرى بالتزامن مع مفاوضات أخرى في المجاليْن التجاري والإستثماري أيضا ولكن مع بلدان الإتحاد الأوروبي (27). وخلال المفاوضات مع الاتحاد الاوروبي تمّ ضبط إطار فيه من الأحكام ما يتعلّق بالإستثمارات والمبادلات التجارية، وفيه ما يتعلّق بآليات حلّ النزاعات والإجراءات الواجب اتباعها، وكانت هناك العديد من التقاطعات بين الإتفاق مع الإتحاد الأوروبي والإتفاق مع سويسرا، وبالنتيجة لم يكن من المُمكن تفضيل طرف على طرف، فضلا عن أن لهذا الإطار أسس أيضا في اتفاقيات منظمة التجارة العالمية”، على حد قول السفير بن حميدة.
المصادرة ومقتضيات التعويض
في مقابل ذلك، تصرّ إيزولدا أغازّي، المسؤولة عن ملف الإستثمارات في “تحالف الجنوب” على أنه “لكي تكون الإستثمارات السويسرية مُجدية على المستوى التنموي في تونس، لا بدّ من إدخال تغييرات أساسية على أحكام وبنود الإتفاقية التي تحميها”. فما هي هذه التغييرات المطلوبة؟
المؤاخذة الاولى التي تسجّلها السيدة أغازّي هو أن هذه الإتفاقية تحظر إجراءات مصادرة الإستثمارات بشكل مباشر أو غير مباشر إلا لأسباب تتعلق بـ “دواعي المصلحة العامة”، لكن حدود وماهية ومدى اتساع مجال هذه المصلحة لا تنص عليه الإتفاقية بصريح العبارة. وتتساءل، هل يدخل ضمن المصلحة العامة “حماية البيئة والحفاظ على الصحة العامة، وحقوق العمال، أم أن الأمر يقتصر على مدّ الطرقات السيارة، وإنشاء المطارات،..”.
هذه المسألة لا تبدو – بالنسبة لأغازّي – واضحة بما فيه الكفاية في نصوص هذه الإتفاقية، ومما يثير مخاوفها أيضا كثرة الشكاوى التي تقدمت بها الشركات الإستثمارية ضد البلدان التي اتخذت إجراءات من هذا القبيل في السنوات الأخيرة، وأصبحت اليوم (أي البلدان المعنية) مُهدّدة بدفع تعويضات قد تبلغ المليارات من الدولارات، كالشكوى التي رفعتها شركة فيليب موريس لصناعة السجائر وتسويقها ضد الأوروغواي، أو كذلك توجّه الصياغات الجديدة لهذه الإتفاقيات إلى التنصيص الصريح والضبط الدقيق لما يستوجب التعويض من عدمه.
هنا أيضا يردّ السيد طارق بن حميدة قائلا: “انطلقنا خلال صياغة هذه الإتفاقية من القوانين والتشريعات التونسية، والتي تنصّ على أنه لا يتمّ اللجوء إلى المصادرة إلا عند الضرورة القصوى، كما أن المشرّع التونسي يبحث ابتداء عن طريقة لتبادل ملكية هنا بأخرى هناك وفقا لمقتضى المصلحة العامة، أما إذا اضطر للمصادرة، فلا بد أن يكون هناك جبر للضرر”، ثم يضيف “ينصّ القانون على أن يكون التعويض مناسبا وعادلا ومنصفا. وهو ما تم فعلا تضمينه حرفيا في الإتفاقية الثنائية بيننا وبين سويسرا”.
المزيد
مساعدة مالية لطالبي اللجوء التونسيين
“المعاملة العادلة والمنصفة”
المؤاخذة الثانية لـ “تحالف الجنوب” على اتفاقية التشجيع على الإستثمارات بين سويسرا وتونس يتعلّق بما اعتبره “الصيغة الغامضة والحمّالة للأوجه للبند المتعلّق بـ “المعاملة العادلة والمنصفة”، ومبعث الخوف هو أن تستغل الشركات المستثمرة ذلك للمطالبة بتعويضات وجبر أضرار بمجرد اعتماد سياسات وطنية تُعلي من المصلحة العامة، أو تحفّز وتدعم الرأسمال الوطني على حساب الرأسمال الأجنبي.
تحالف الجنوب، يرى أنه يتعين على سويسرا أن تستلهم النماذج الجديدة لهذا الصنف من الإتفاقيات في صيغه التي نجدُها لدى الولايات المتحدة وكندا مثلا، التي تنصّ على أن “المعاملة العادلة والمنصفة” الممنوحة للمستثمرين الأجانب “لا يجب أن تتجاوز المبادئ العامة للقوانين الدولية الضابطة للمعيار الأدنى في معاملة الأجانب، بمعنى أن أي بلد لا يجب أن يُتهم بانتهاك هذا المبدأ إلا إذا ثبت أنه يصدر في ذلك عن نيّة سيئة، أو إهمال متعمّد، واستخفاف بالإتفاقات”، على حد عبارة إيزولدا أغازّي.
هنا أيضا، يقول السفير التونسي: “هذا المبدأ لا يطرح أي مشكلة بالنسبة إلينا، لأن الإلتزامات في هذا الجانب متبادلة، بمعنى أن ما يتمتّع به المستثمر السويسري في تونس، يتمتّع به المستثمر التونسي في سويسرا، وحتى المزايا التفضيلية تكون متبادلة من الطرفيْن”.
آلية تسوية المنازعات
على صعيد آخر، وفي حالة حصول خلافات بين المستثمرين الأجانب والسلطات، يرى منتقدو هذه الإتفاقية ضرورة الإحتكام أوّلا وقبل كل شيء إلى المحاكم الوطنية المحلية، وأن لا يُترك الأمر مرهونا، كما هو في الإتفاقية (بحسب قراءتهم لها) بخيار الجهة المُستثمرة، وأن تخضع آليات التحكيم الدولي إلى إصلاحات جذرية، كأن يُسمح فيها بالإستماع إلى شهادات عامة المواطنين، ويتم إقرار حق الإعتراض على أحكامها، ويُسمح للدول بتقديم شكاوى ضد الشركات الإستثمارية إن لزم الأمر.
وبخصوص هذه المسائل، يُذكّــر لوكاس سيغنثالر، رئيس قسم “الإستثمارات الدولية والشركات متعددة الجنسيات” في كتابة الدولة السويسرية للشؤون الإقتصادية في تصريح إلى وكالة الأنباء السويسرية أن “الدولة المضيفة لا تحتاج لإعمال قضائها الوطني على التنصيص على ذلك في الإتفاقية، لأن أي بلد، له إمكانية الإحتكار الكامل للحق في تنفيذ تشريعاته فوق أراضيه، لكن قيمة الإتفاق بالنسبة للمستثمر تتمثل في أنه يترك له الباب مفتوحا للجوء إلى هيئات التحكيم الدولي، إذا ما قامت الدولة بإستعمال حقها في احتكار حق الإحتكام إلى تشريعاتها على أراضيها بشكل متعسّف أو اعتباطي، أو لم يكن قضاؤها مستقلا”.
أخيرا، ورغم كل ما يمكن أن يُقال عن هذه الإتفاقية، يُعلق عليها البلدان آمالا في أن تُسهم في دفع العلاقات الثنائية إلى الأمام وأن تساعد تونس على عبور مرحلة انتقالية صعبة تحتاج فيها إلى الإستثمارات الأجنبية وإلى الدعم الدولي. وفي هذا السياق، يؤكد السيد طارق بن حميدة، سفير الجمهورية التونسية ببرن على أن “الدبلوماسية التونسية لها ثوابتها، وهي لا تنزاح عنها. فهي مثلا منفتحة، ولكن ليس بأي ثمن، كما أن المتطلبات الوطنية غير قابلة للتفاوض”، ثم يضيف قائلا: “رغم حساسية المرحلة، نحن نعمل بتأنّ ووضوح في الرؤية، ولدينا القدرة على إقناع شركائنا، كما لدينا قناعة بأن الفترة الصعبة الحالية سوف تمرّ، وسنعود إلى الإنتعاش الإقتصادي. ولدينا تفاؤل كبير بالنسبة للمستقبل، لذلك ليس هناك أي داع للتخلّي عن ثوابتنا”.
يُـشكل” تحالف الجنوب”، الذي تأسس عام 1971، مجموعة عمل تضم ستة منظمات غير حكومية سويسرية كُـبرى تنشُـط في مجال التعاون والمساعدة من أجل التنمية على المستوى الدولي.
تحظى هذه المنظمات النشيطة في مجالات العون الإنساني والمساعدة من أجل التنمية بالمصداقية والإشعاع في سويسرا وتشمل كلا من “سويس إيد” وصندوق الصَّـوم الكاثوليكي السويسري و”خُـبز للجميع” و”هيلفيتاس” و”كاريتاس” والمساعدة البروتستانتية السويسرية.
يهدف التحالف الذي تحول على مدى السنين إلى مجموعة ضغط مهمة إلى التأثير على سياسة سويسرا لمصلحة المجموعات السكانية الأكثر فقرا في العالم، وخاصة عن طريق تنظيم الحملات الدعائية وعقد المؤتمرات ومساءلة السياسيين في بعض الحالات.
تعدّ سويسرا من البلدان الرائدة في مجال تصدير الإستثمارات المباشرة إلى بلدان الجنوب، وهي تحتلّ المرتبة السابعة عالميا:
الإستثمارات السويسرية في الخارج
رؤوس الأموال المصدّرة : 82.7 مليار فرنك
حجم الإستثمارات المباشرة: 970 مليار فرنك
أرباح رؤوس الاموال: 75.3 مليار فرنك
الطاقة التشغيلية: 2.820 مليون نسمة.
الإستثمارات الأجنبية في سويسرا
رؤوس الاموال المورّدة: 33.9 مليار فرنك
حجم الإستثمارات المباشرة: 580.4 مليار فرنك.
أرباح رؤوس الاموال: 37.5 مليار فرنك
الطاقة التشغيلية: 419.6 ألف نسمة.
(المصدر: المصرف الوطني السويسري)
في عام 2011، قدمت شركة فليب موريس البريطانية النشأة والتي يوجد مقرها في لوزان بسويسرا شكوى ضد الأوروغواي امام محكمة التحكيم الدولية المنشأة عملا بأحكام اتفاقية تسوية المنازعات الإستثمارية بين الدول ورعايا الدول الأخرى.
استندت هذه الشركة في شكواها على اتفاقية تشجيع وحماية الأستثمارات المبرمة بين سويسرا والأورغواي.
اتهمت شركة فليب موريس حكومة هذا البلد الواقع بامريكا اللاتينية بالإضرار بمصالحها، عقب اعتماد حكومته لقانون يهدف إلى الحد من مخاطر التدخين. ولا يزال النزاع تحت نظر محكمة التحكيم الدولية.
هذا النزاع يقدّم خير دليل على التعارض الذي يمكن أن يحصل بين الإتفاقيات الحامية للإستثمارات، والسياسات الهادفة إلى حماية الصحة العامة.
كان بإمكان هذه الشركة متعددة الجنسيات الاستناد في دعواها إلى اتفاقية حماية الإستثمارات الامريكية وليس السويسرية للوصول الى اهدافها، لكن اختيارها مدروس نظرا لكون الإتفاقية السويسرية – الآورغواية تحمي بشكل أوسع وأهمّ الشركات الإستثمارية، وتترك المجال أوسع للمناورة أمام الشركات المعترضة على سياسات البلدان المضيفة.
في حالة أخرى، قدمت شركة فليب موريس دعوى قضائية ضد أستراليا لكن هذه المرة استنادا إلى اتفاقية موقعة بين هونغ- كونغ وأستراليا، ولا يزال النزاع معروضا امام المحكمة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.