الرشوة والسوق السوداء.. “رياضتان شعبيتان” في الجزائر
صُـنِّـفت الجزائر من قِـبل منظمة الشفافية العالمية، في الرتبة الثانية والتسعين ضمن قائمة البلدان الأكثر رشوة في العالم.
وتقول نكتة جزائرية: إن الرّشوة هي الرياضة الأكثر شعبية في البلاد، لكن رياضة شعبية أخرى تفتكِ بمستقبل البلد، وقليل من يهتم بها، إنها السوق السوداء.
شبكة واسعة لتجارة الذهب المُهرب
البداية، مع وضع في غاية الشذوذ قلّ أن تشهده بلاد في العالم، إذ أن الجزائر قد بدأت في استخراج الذهب من مناجمها في أقصى الجنوب، وهو ذهب عالي الجودة بقيمة أربعة وعشرين قيراطا، عليه علامة أكبر مؤسسة سويسرية لتنقية الذهب، غير أن الجزائريين لا يشترون غراما واحدا من ذهب بلادهم، لأنهم يرفضون دفع القيمة المُـضافة أو التصريح بأنهم اشتروا الذهب من مؤسسة حكومية.
وفي المقابل، أسست السوق السوداء شبكة واسعة لتجارة الذهب المهرّب، يدفع بعض قيمته للضرائب وعلى سلع غير معروفة القيمة بشكل دقيق، الأمر الذي أجبر مؤسسة استخراج الذهب الوحيدة في البلاد، على تصدير كل الذهب المستخرج لينعم بقيمته وجماله أناس آخرون.
يعتبِـر عبد السلام، بائع الذهب في حي بابا حسن، غرب العاصمة، أن ارتفاع الضرائب هو السبب، وبأن هذه الضرائب هي التي تمنعه من شراء الذهب الجزائري، رغم أنه عالي الجودة. غير أن المحامي الأستاذ دوان عبد الكريم ينظر للمسألة من ناحية أخرى.
فهو يدافع عن أكبر مصدِّري خردة الحديد في البلاد أمام القضاء الجزائري، ويواجه موكلوه مشاكل مع الإدارة، لا قبِـل للناس العاديين بها. ويؤكد الأستاذ دوان أن تجارة تصدير خردة الحديد هي عملية تصدير في حدّ ذاتها، وعمليات التصدير في القانون الجزائري لا ضرائب عليها، ومع ذلك، يعمد بعض المصدرين إلى تزوير ثمن السلعة المصدرة ويرفضون إعادة تحويل العُـملة الصعبة التي يربحونها إلى البنوك الجزائرية.
“وضعٌ غـريب”
أما في وزارة المالية، فهناك جوّ خاص جدا لا علاقة له بما يجري في الواقع، وربما يُـعتبر هذا الأمر من أسباب الحلّ والمشكلة في نفس الوقت، حسب المحلِّـلة الاقتصادية غنية عكازي، التي ترى أن عمل الموظفين في الوزارة محيِّـر، لأنهم “لا يتناقشون مع أي من المواطنين، ولا نفهَـم سبب تحديدهم لضريبة القيمة المضافة بشكل ينفر المواطنين، ولا نفهم حتى سبب رفعهم للضرائب بهذا الشكل”.
في نفس الاتِّـجاه، يرى سيد علي عزوني، مدير مكتب الدراسات “مفترق الطرق” أن الجزائر هي ثالث بلد في العالم من حيث الضرائب المرتفعة، بعد السويد وفرنسا، ويضيف أن “هذا الوضع غريب، لأننا لو فهِـمنا سبب ارتفاع الضرائب في كل من السويد وفرنسا، لكان هذا معقولا، ولكن ماذا عن الجزائر؟ هل نحن قوة اقتصادية مثلهما”؟
غير أن سلوك وزارة المالية لا يمكن أن يفسِّـر قوة السوق السوداء، التي تُـقيِّـم بعض الجهات قوتها بثمانية ملايير دولار. فهناك أسواق هائلة في شرق البلاد ووسطها لا سلطة للدولة عليها وأموالها قلّ أن تعرِف طريق البنوك.
طرائف غريبة.. لكنها لا تلغي واقعا مأساويا
وهناك شبكات استيراد من الصين والإمارات العربية المتحدة دأبت على استعمال كل الطُّـرق للتهرّب من الجمارك والدولة والضرائب، وسُـجلَّـت حالات في غاية الغرابة والطرافة، من بينها أن موظفي الضرائب اضطروا، في الكثير من الحالات، للبحث عن صاحب السجل التجاري لضبط الحساب معه، فوجدوا أن اسم الشخص يتعلّـق برجل ميِّـت، وفي حالة أخرى بمجنون أو مجنونة. وذات مرة، وجد رجال الضرائب أنفسهم أمام باب مقبَـرة، لأنه العنوان المدوّن في السجل التجاري الذي كانوا يبحثون عن صاحبه.
لكن هذه الطرائف لا يمكن أن تُـلغي واقعا بالغ السّوء والمأساوية، فالحكومة والمواطن البسيط يشتكِـيان من تدهور واقع الطبقة الوسطى من جهة، ومن جهة أخرى، غلاء أسعار العقار الذي بلغت أثمانه أرقاما فلكية، دون تفسير اقتصادي واضح.
وفي هذا الصدد، قال المحلل الاقتصادي عمر أميني في تصريح لسويس إنفو: “لن تتأثر أسعار العقار في الجزائر بالمشاكل الاقتصادية التي يعرفها العالم في الوقت الحالي، حتى لو أخذنا في الحُـسبان تأثر أسعار العقار في المغرب، لأن المغرب ليست مثالا للجزائر، بما أنها مرتبطة بسوق العقار في كل من إسبانيا وفرنسا، أما سوق العقار في الجزائر، فتعيش في عُـزلة تامّـة عن الاقتصاد العالمي ولا تحكمه قوانينه”.
ويضيف عمر أميني، الذي يضارب بالأسهم في بورصة لندن: “السوق الموازية في الجزائر، دولة في حد ذاتها واعتقد أنها مُـرتبطة بالشخصية الجزائرية التي ترفض إعطاء مالها تحت أي مسمّـى كان، ولو كان دفع ضرائب، وهذا في حدّ ذاته مشكلة كبيرة”.
الحكومة وتحدي القضاء على السوق السوداء
لقد فشلت الحكومة في التعامل مع السوق السوداء ولم تستطع القضاء عليها، على الأقل في الوقت الحالي، بسبب وجود بعض المسؤولين الذين يرون في السوق الموازية فُـرصة للتخلص ممّـا يعتبرونه مشاكل مستعصية، مثل البطالة، لأن السوق السوداء تشغِّـل حوالي مليون ونصف مليون شخص، كما أنها تبرّئ مصالح التأمينات الصحية والاجتماعية والتقاعد من كل المسؤوليات التي قد تقَـع على عاتقهم في حال التّـعامل مع مليون عاطل جديد عن العمل.
هناك من يعتقد جازما أن المال الموجود في غرف النوم، قد يوازي الأموال المودعة في البنوك، لأن عمليات الاستيراد تُـثبت أن آلافا من رجال الأعمال يأتون بأكياس الدنانير بالعُـملة الجزائرية لتحويلها إلى العملة الصعبة، ولكن دون أن تتحرّك الحكومة أو مصالح الضرائب.
ولقد وصل التعفّـن إلى درجة اعتماد شركات عالمية لأسلوب السوق السوداء، ومن بينها شركات كندية وفرنسية، حيث تعمد هذه الشركات عند انتهاء صفقة ما وإعطاء المال إلى عميل جزائري، إلى تسجيل العمولة في البنك المسجلة فيه، ثم يعطى العميل المال كاملا ونقدا، دون تحويل إلى حسابه الخاص، مما يعقد إجراءات المتابعة.
يحدث هذا، دون ذكر الأسماء، مع شركة كندية في ولاية بومرداس، 50 كلم شرق العاصمة. وفي هذه المنطقة بالذات، تواجه قوات الأمن مشاكل لا تُـحصى مع تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي. وابتداء من ولاية بومرداس، تشاهد الشاحنات الكبيرة والصغيرة متّـجهة أو عائدة من شرق البلاد، حيث توجد أكبر الأسواق السوداء في البلاد، من دون رقيب أو محاسب.
وبما أن الأموال السوداء لا تعرف بنكا ولا ضريبة، فإنها تبيّـض في القِـيم الثابتة، أي في المصانع، إذا ما كان التاجر واعيا بعض الشيء أو في العقار، وهو الوجهة الغالبة لتجّـار السوق السوداء، الأمر الذي غيّـر من التركيبة السكانية والطبقية في المدن، وتلونت الأحياء السكنية الراقية في العاصمة وغيرها، بأصحاب الوجوه المحمرة أو اللّكنات المحلية، الذين أضحوا الآن جيران عائلات راقية، ذات أسماء عتيقة.
مستقبل غامض
أما مصالح الأمن، فتواجه، بالإضافة إلى المشاكل اليومية، مشاكل أخرى تتعلّـق بالرّبح السريع وإنفاقه في السّهرات المِـلاح داخل الملاهي الليلية في بعض المدن وبسخاء هائل، من ذلك أن بعض الليالي قد تشهد تنافسا حادّا بين الحضور الرجالي للفوز بإحدى بائعات الهوى، ويستمر قذف المرأة بالمال من قبل جمع من الرجال كي ترضى بأحدهم، لكنها تطيل المشهد لدرجة أن إحداهن جمعت تحت أقدامها في ليلة واحدة، ما يعادل مائة ألف يورو…
هناك مشاريع كثيرة لاحتواء الوضع موجودة على رفوف وزارات التجارة والمالية، والرئيس عبد العزيز بوتفليقة على عِـلم كبير بالموضوع، خاصة وأن مدنا بأكملها في ولايات عين البيضاء وأم البواقي، شرق الجزائر، تلوّنت بلون المال الأسود وأصبحت عملية تربية نشء يعرف قيمة المال، دون أن يبالغ في حبه، صعبة المنال.
ولئن استقر الوضع الآن للدولة ولم تقلب السوق السوداء ظهر المِـجَن عليها، إلا أن المستقبل غامض بعض الشيء، لأن جيلا بأكمله قد ولِـد وترعرع في واقع لا وجود للدولة فيه، على الأقل في التجارة وعالم المال.
هيثم رباني – الجزائر
غطى تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2008 مستويات الشفافية في 180 بلدا وإقليما في العالم، ما يعني عدم إضافة دول جديدة. اعتمد المؤشر على 13 استطلاعاً ومسحاً من تنفيذ مؤسسات عالمية، من بينها وحدة المعلومات في مجموعة “الإيكونومست” البريطانية والمنتدى الاقتصادي العالمي والمعهد الدولي للتنمية الإدارية ومركز التنافسية العالمي وبيت الحرية.
وشملت عمليات الاستطلاع وجهات نظر رجال الأعمال والمقيمين الأجانب بخصوص مدى تقبل السياسيين وموظفي القطاع العام الرشا. تشترط المنظمة توافر ثلاث دراسات على الأقل حتى يتم شمول أي بلد في التقرير. وتبين من التقرير استخدام خمس دراسات لتقييم أداء دول مجلس التعاون، باستثناء قطر، حيث تم الاعتماد على أربعة مسوحات.
تعرف منظمة الشفافية الدولية “الفساد” على أنه سوء استعمال الوظيفة في القطاع العام من أجل تحقيق مكاسب شخصية” ولا تميز المنظمة بين الفساد الإداري والفساد السياسي، أو بين الفساد الصغير والفساد الكبير. وترى أن عمليات الفساد تسلب البلدان طاقاتها وتمثل عقبة كأداء في طريق التنمية. تأسست في عام 1993 وتتخذ من برلين (ألمانيا) مقرا لها حيث تعمل على كبح جماح الفساد على مستوى العالم.
تتمتع الدول الإسكندنافية بأفضل سجل في محاربة مختلف أنواع الفساد في المعاملات الرسمية. فقد حلت كل من الدنمارك والسويد إضافة إلى نيوزيلندا في المرتبة الأولى عالميا في محاربة الفساد في المعاملات الرسمية، حيث جمعت كل دولة 9.3 نقطة من أصل عشر نقاط على المقياس، لكن تم اعتبار الدنمارك في المرتبة الأولى بسب أبجدية الحروف في اللغة الإنجليزية. تشترك هذه الدول الثلاث في محدودية إمكانية قبول أصحاب القرارات، خصوصا في الدوائر الرسمية، إغراءات الحصول على فوائد تجارية أو شخصية. كما حلت أربع دول أوروبية أخرى وهي فنلندا وسويسرا وآيسلندا ووهولندا في المراتب العشر الأولى، أما على مستوى قارة آسيا، فكان شرف الدولة الأولى في محاربة الفساد من نصيب سنغافورة، حيث جمعت 9.2 نقطة على المقياس واستحقت بذلك المرتبة الرابعة دوليا، أي ترتيب عام 2007 نفسه. تعتقد منظمة الشفافية الدولية أن الإصلاح الإداري ضروري لأي دولة لم تسجل سبعا من عشر نقاط على المقياس. وكشف تقرير عام 2008 بأن 22 دولة فقط في العالم (من أصل 180 بلدا وإقليما) تمكنت من جمع سبع نقاط أو أكثر.
لم تحظ أي من دول مجلس التعاون الخليجي بشرف الانضمام إلى نادي الكبار في محاربة الفساد المالي والإداري (جمعت قطر 6.5 من النقاط). من جملة الأمور التي تطالب بها منظمة الشفافية الدولية إلزام الحكومات نفسها بنشر إحصاءات دورية دون تدخل من السلطات للتأثير في الأرقام أو تاريخ النشر لأغراض سياسية. يشار إلى أن المستثمرين الدوليين يعتمدون جزئيا على تقرير منظمة الشفافية كمتغير أثناء اتخاذ قرارات الاستثمار في الدول. الأمر المؤكد هو أن مسألة الشفافية في المعاملات بشكل عام باتت مهمة أكثر من أي وقت مضي، حيث أكدت الأزمة المالية الأخيرة، التي لم تنته فصولها، أهمية نشر إحصاءات وأرقام صحيحة في كل الظروف لتفادي خسائر ضخمة.
فقد احتلت دولة قطر للعام الثاني على التوالي مركز الصدارة، من بين دول مجلس التعاون، من حيث مستوى الشفافية وانخفاض معدلات الفساد المالي والإداري. وقفزت رتبة قطر عالميا من المرتبة الـ 32 لعام 2007 إلى المرتبة 28 وهي مرتبة موازية لمرتبة اسبانيا، وتتفوق على دول مثل اسرائيل وكوريا الجنوبية وتايوان. وجاءت دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تقوم بحملة كبيرة على الفساد المالي، في المرتبة الثانية خليجيا، محتلة المرتبة 35 على مستوى العالم، متأخرة برتبة واحدة عن العام الماضي. وقال التقرير الذي يرصد الشفافية والفساد حول العالم وتصدره “منظمة الشفافية الدولية” بشكل سنوي، إن السعودية كانت اسوأ دولة في الخليج العربي في هذا المضمار، حيث احتلت المرتبة الـ 80، من بين 180 دولة شملها التقرير، وهي المرتبة التي شاركتها فيها دول مثل بوركينا فاسو وتايلند وألبانيا والبرازيل والمغرب، فيما احتلت الجزائر المرتبة الثانية والتسعين.
(المصدر: منظمة الشفافية الدولية)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.