برلوسكوني فتح باب التعويضات لكن الفرنسيين يتهربون من الاعتذار
الأرجح، أن فرنسا ستبقى من آخر الإمبراطوريات الاستعمارية السابقة، التي تُـصر على الامتناع عن الاعتذار للشعوب التي احتلّـتها في القرنين التاسع عشر والعشرين.
فلا زال منطِـق المسؤولين الفرنسيين، بل وقطاعات واسعة من النّـخب أيضا، مُمعنا في رفض النّـظر إلى المِـرآة لتعديل الوقفة، أسْـوة بالدول الكثيرة في العالم التي طلبت من شعوب مستعمراتها السابقة الصّـفح عن الجرائم المُرتكبة في حقها.
ومنح الاعتذار الرسمي الذي قدّمته إيطاليا إلى ليبيا في الثلاثين من أغسطس الماضي، على لسان رئيس حكومتها سيلفيو برلوسكوني، مُبرّرا للنخب في البلدان المجاورة، التي عانت من ويلات الاحتلال الفرنسي، لكي تُطالب باريس بتقديم اعتذار مماثل.
غير أن الحكومات المغاربية لم ترُد الفعل حتى الآن على هذا التطور الهام بين روما ومستعمرتها السابقة، رغم مُـضي أسبوعين على الخطوة الإيطالية التي أردفها برلوسكوني بالتوقيع على اتفاقٍ مع الليبيين يقضي بدفع تعويضات تُـساعد على مدّ طريق سريعة تربِـط شرق ليبيا بغربها، وإن كانت الإعتمادات المخصّـصة لهذا المشروع الضّـخم تافهة، وربما كان طبيعيا أن تتردّد الأصداء الأولى للاتفاق الإيطالي – الليبي بين فجاج الجبال الجزائرية التي كانت مسرحا لمجازِر شنيعة، خصوصا خلال حِـقبة حرب التحرير التي امتدّت من 1954 إلى 1962.
وسرعان ما طالبت الأحزاب الجزائرية الرئيسية باريس بالإقتداء بجيرانها الإيطاليين والاعتذار عن 132 عاما من الاستعمار وتقديم تعويضات للجزائر، وكان من ضمنها حزب “التجمع الوطني الديمقراطي”، الذي يقوده رئيس الحكومة أحمد أويحيى، إذ قال الناطق الرسمي باسم الحزب ميلود شرفي “إن ما فعلته فرنسا في الجزائر، لا يمكن تجاوزه أو نسيانه مهما طال الزمن”.
وتكلم سعيد بوحجة، مسؤول الإعلام في حزب “جبهة التحرير الوطني” الذي يقوده رئيس الحكومة السابق عبد العزيز بلخادم، في الاتجاه نفسه، مُعتبرا أن “خطوة الاعتذار (الإيطالية) إيجابية وينبغي أن تكون بمثابة ضغط على الدول الأوروبية الأخرى للاعتذار عمّـا ارتكبته جيوشها في الجزائر”، لكن هذه الأصوات اقتصرت على مسؤولي الصفّـين الثاني والثالث في الأحزاب، ولم يُسجل أي موقف علني من المسؤولين الرسميين في المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا، تعليقا على المبادرة الإيطالية.
ولعل هذا ما شجّـع الفرنسيين على التلكّـؤ في تقديم الاعتذار، إذ سارع الناطق باسم الخارجية الفرنسية إيريك شوفاليي في محاولة لاحتواء الأصوات المُطالبة بالاعتذار، إلى التقليل من أهمية الخطوة الليبية مُعتبِـرا أنها “تتعلق بجانب محدّد من العلاقات الليبية – الإيطالية، ذات الطابع الخصوصي”، وعلى هذا الأساس، تقصت باريس من تركتها الاستعمارية مُستندة إلى ذريعة “الخصوصيات”.
وهناك موقف فرنسي أكثر اعتدالا عبّـر عنه السفير الفرنسي في تونس سيرج ديغالي، الذي اعتبر في لقاء مع الصحفيين مساء الأربعاء 10 سبتمبر، أن الفرنسيين قاموا بما عليهم (من واجب الاعتذار) في الخطاب “التاريخي” للرئيس الفرنسي جاك شيراك في مدينة سطيف الجزائرية لدى زيارته لها سنة 2002، حيث اعترف بالأخطاء التي ارتُكِـبت أيام الاحتلال.
وتتبَـوّأ سطيف مكانة خاصة في سِـجل جرائم الاستعمار، لأن الطائرات والرشاشات الفرنسية حصدت آلاف الأرواح من أبناء المدينة يوم 5 أغسطس 1945، بمجرّد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، لمجرّد أنهم خرجوا في مسيرة سلمية للمطالبة بتنفيذ الوعود التي قطعها الحلفاء (وفرنسا منهم) للشعوب التي عارضت النازية بمنحها تقرير المصير بعد نهاية الحرب. وأبصرت مُـدن ومناطق جزائرية أخرى، قبل سطيف وبعدها، مجازر أقل حجما، لكنها ليست أقل فظاعة.
مجازر وغارات
وعلى رغم أن التاريخ سجّـل اقتراف جرائم استعمارية في كل من المغرب وتونس، فإن الشخصيات التي طالبت بالاعتذار ما زال صوتها خفيضا في البلدين. ومن أشهر الأعمال الوحشية التي اقترفها المستعمرون في المغرب، قمع المظاهرات الحاشدة التي اندلعت في الدار البيضاء سنة 1952 احتجاجا على اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، وأسفر القمع عن مقتل ألف مغربي، أما في تونس، فاعتدت عناصر الجيش الفرنسي على أهالي قرية تازركة التونسية في مطلع الخمسينات، حيث بُقرت بطون الحاملات وقُتل أطفال لردع الحركة الوطنية، ونفذ الطيران الحربي الفرنسي غارة على قرية ساقية سيدي يوسف القريبة من الحدود الجزائرية سنة 1958، انتقاما من مؤازرة التونسيين لجيش التحرير الجزائري الذي أقام مركز قيادته العامة في جوار مدينة غار الدماء، لكن قليلا ما طلب المغاربة أو التونسيون اعتذارا من الفرنسيين على تلك الأعمال، لذلك، شكّـل إقدام إيطاليا على طلب الصفح من ليبيا، حافِـزا على ظهور أصوات في وسائل الإعلام المغربية والتونسية حثّـت فرنسا على النسج على منوال جارتها.
وفي هذا السياق، قالت صحيفة “الشروق” التونسية، إن المطلوب من باريس هو “كلمة اعتذار فقط تفتح صفحة جديدة في سجِـل العلاقات المغاربية الفرنسية، لأن الحديث عن الشراكة ومستقبل العلاقات لا يستقيم من دون طيّ صفحات الماضي القاتمة، والعمل على تنصيعها والنظر بعين الحِـكمة والتبصّـر إلى مصالح البلدان المعنية”.
واعتبرت الصحيفة في تعليقها على الاعتذار الإيطالي أن فرنسا “ستغنم كثيرا، إن هي نسجت على منوال إيطاليا وتخلّـت عن غرورها الزائد وتجاهلها غير المبرّر لما ارتكبته قواتها من جرائم، خاصة في أرض الجزائر”.
الغرور هو إذن السر الذي يكمُـن وراء إصرار فرنسا على رفض الاعتذار، طِـبقا لتحاليل بعض الإعلام المغاربي. ومن الحالات بالغة الدلالة في هذا المجال، استمرار التكتّـم على ملف اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، على رغم مرور 56 عاما على العملية. وقال نجله السفير نور الدين حشاد، إنه طرق جميع الأبواب في فرنسا لجمع الوثائق المتصلة بالاغتيال، ولم يستجِـب له أحد، ما جعل تحديد المسؤولين عن الجريمة بشكل دقيق، أمرا بالغ الصعوبة.
لكن أكاديميين يعتقدون أن فرنسا ليست الوحيدة في هذا الموقف، فإسبانيا أيضا تمتنِـع عن طلب الصفح من المغاربة الذين احتلّـت النصف الشمالي من بلدهم، بالإضافة إلى مناطق أخرى على الساحل الجنوبي، وعن الحقبة الاستعمارية الحديثة عموما المرتبطة باحتلالها للصحراء الغربية، وقبلها سبتة ومليلية، وكذلك عن حملة الطّـرد الواسعة من الأندلس في مطلع القرن السابع عشر.
وفي هذا السياق، أفاد الأكاديمي التونسي الدكتور عبد الجليل التميمي أنه طلب من إسبانيا في رسالة وجّـهها إلى الملك خوان كارلوس سنة 1992 في ذكرى مرور 500 عام على سقوط غرناطة، الاعتذار عن طرد أعداد كبيرة من المسلمين واليهود. فوجّـه له موراتينوس (وزير الخارجية الحالي) دعوة للمشاركة في ندوة أقِـيمت في غرناطة عن الموضوع، وكان من بين الحضور الأمين العام للجامعة العربية آنذاك عصمت عبد المجيد والشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش.
وأوضح التميمي أن الملك ألقى خطابا في الندوة لم يُجب على جوهر السؤال، بل برّر الامتناع عن الاعتذار بسلطة الدولة وهيبتها، فاضطرّ للكتابة إليه مجدّدا بعد الندوة. وقال التميمي “تلقّـيت ردا من موراتينوس، لكنه كان بائسا”، وأفاد سويس أنفو أنه يعتزم كتابة رسالة جديدة إلى أرفع المراجِـع في إسبانيا بمناسبة مرور أربعة قرون على حملة الطرد الجماعية لحثها على الاعتذار.
فُـرص مهدورة
ومن الواضح أن الحكومات المغاربية تتحاشى إثارة الموضوع، مخافة تعكير مزاج شركائِـها الأوروبيين، على رغم الفرصة الفريدة التي منحتها إياهم خطوة الاعتذار الإيطالية.
وعزا السياسي والمحامي المغربي خالد السفياني هذا الإعراض عن استثمار الفرصة، إلى أن “الحكومات المغاربية لا تبحث عن الفرص، فحتى ليبيا أعطيت لها الفرصة ولم تسعَ إليها”، مثلما قال، وأضاف معلِّـقا لسويس أنفو على التعاطي الرسمي المغاربي مع المتغيرات، “لديهم آلاف الفُـرص، وأفضل مثال هو القضية الفلسطينية. فلو رغبت الأنظمة وسعت لتوحيد الصفوف والعمل المشترك، لاستفادَت من فرصة الوضع الحالي المُتّـسم بتهلهل الإدارة الأمريكية في فترة الارتخاء الراهنة، لكنهم ما زالوا يعبُدون الإدارة الحالية التي لم يعُـد لها أي تأثير، حتى لو فاز الجمهوريون في الانتخابات”.
وتابع السفياني “هناك ترهّـل في إسرائيل، من علاماته البارزة هبوط شعبية رئيس الحكومة إلى 3%، لكن لا أحد يفكِّـر في الضغط عليه أو إحراجه، بل سيستقبلونه بكل حفاوة. ألم تَـر أن إسرائيل سمحت لسفن النشطاء بالوصول إلى ميناء غزة، بينما تمنعهم مصر من ذلك”؟
لكن بعيدا عن موقف الحكومات، لوحظ أن مؤسسات المجتمع الأهلي كانت تمُـر بما يُشبه الإغفاءة، عندما أقدمت إيطاليا على خطوة الاعتذار، ولم يلتقط الرسالة أحد من النّـخب المغاربية تقريبا. فهل معنى ذلك الصّـمت أنها غير قادرة على التأثير وأن الشعوب مستكينة؟
ردّ السفياني، الذي هو أيضا الأمين العام للمؤتمر القومي العربي، على السؤال بلهجة قاطعة قائلا “من الأكيد أن الجماهير قوية… لا أؤمن بأن الشعوب مسكينة لأنها مستضعفة، فهي ككل الشعوب في التاريخ تأمل أن تُحقِّـق التغيير، لكن لابد من أن يكون هناك استعداد للتضحية لدى النُّـخب، ومعظم هذه النخب مُـنهار. ففي بعض الدول العربية نجِـد أن النخب التي كانت تحظى بالشعبية، صارت هي مُرتكزات الأنظمة، بل هي الأنظمة”.
واستدرك قائلا “هذا لا يعني أن التغيير مستحيل، فهو حتمي، لكنه مؤجّـل، ويخطئ الحاكم الذي يعتقد أنه سيستطيع المُـضي في قمع الشعب ونهب ثرواته. الحاكم العاقل هو الذي يسعى لكسب محبّـة شعبه ويأخذ الحِـماية منه، وليس من الإدارة الأمريكية، وأفضل مثال على ذلك، الشاه السابق الذي فرّ من إيران، فرفضت الولايات المتحدة استقباله أو حتى منحه حق اللجوء السياسي”.
تونس – رشيد خشانة
بنغازي (ليبيا) (رويترز) – وقع الزعيم الليبي معمر القذافي ورئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلسكوني في ليبيا يوم السبت 30 أغسطس، اتفاقا تقدم ايطاليا بموجبه تعويضات قيمتها خمسة مليارات دولار عن الاضرار التي الحقها الاستعمار الايطالي الذي استمر اكثر من ثلاثة عقود بالدولة الواقعة في شمال افريقيا.
وقال القذافي في حفل التوقيع في قصر كان يوما ما مقرا لمسؤول بارز في الحكومة الايطالية اثناء الحكم الاستعماري بين عامي 1911 و1943، إن الاتفاق يفتح الباب للتعاون المستقبلي والشراكة بين إيطاليا وليبيا.
وقال برلسكوني، الاتفاق ينهي “40 عاما من سوء التفاهم”، مضيفا انه “اقرار كامل واخلاقي بالاضرار التي لحقت بليبيا على يد ايطاليا في عهد الاستعمار”. وقال برلسكوني وفق نص نشره موقع الحكومة على الانترنت “باسم الشعب الايطالي… اشعر بواجب الاعتذار والاعراب عن الالم لما حدث منذ سنوات عديدة مضت والذي اثر على الكثير من اسركم”.
وتتهم ليبيا ايطاليا بقتل الاف الليبيين وتشريد الاف اخرين من قراهم ومدنهم المطلة على البحر المتوسط خلال فترة الاستعمار. وكانت ايطاليا تجد صعوبات في العلاقة مع القذافي منذ توليه السلطة عام 1969، ولكنها دعمت مساعي طرابلس الاخيرة لاصلاح العلاقات مع الغرب. ويزيل “اتفاق الصداقة” عقبة رئيسية امام تحسن العلاقات.
وقال القذافي، ان ايطاليا تعتذر في هذه الوثيقة التاريخية عن القتل والدمار والظلم ضد الليبيين اثناء الحكم الاستعماري، وأضاف القذافي الذي طرد السكان الايطاليين في عام 1970 وصادر ممتلكلتهم، ان ايطاليا اليوم هي دولة صديقة.
ولم يعط القذافي تفاصيل عن المبالغ التي يشملها الاتفاق، ولكن برلسكوني قال اإ ايطاليا ستستثمر 200 مليون دولارا سنويا في ليبيا على مدى 25 عاما، وأضاف دون ذكر تفاصيل “الشركات الايطالية ستقوم بمزيد من الاعمال في ليبيا”.
وذكر مسؤولون ايطاليون ان حجم التعويضات سيبلغ خمسة مليارات دولار كأستثمارات، تشمل شق طريق سريع عبر ليبيا من الحدود التونسية الى مصر. ويشمل الاتفاق أيضا مشروعا لازالة ألغام ترجع الى عهد الاستعمار الايطالي لليبيا.
وتتوقع ايطاليا في المقابل أن تفوز بعقود في مجال الطاقة وأن تشدد حكومة طرابلس من الاجراءات الامنية لوقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين، بما في ذلك تنظيم دوريات بحرية مشتركة.
وذكرت وسائل الاعلام الليبية، انه في بادرة لحسن النوايا، اعادت ايطاليا تمثالا قديما لفينوس اخذ الى روما خلال الحكم الاستعماري. واخذت القوات الايطالية “فينوس قورينا”، وهو تمثال بدون رأس، من بلدة قورينا المستعمرة الاغريقية القديمة وعرض في روما.
وتحسنت علاقات ليبيا بالغرب بدرجة كبيرة منذ عام 2003، عندما قبلت ليبيا تحمل المسؤولية عن تفجير طائرة ركاب أمريكية فوق لوكربي في اسكتلندا عام 1988.
وقالت ليبيا كذلك، انها ستكف عن السعي لامتلاك أسلحة نووية وكيماوية وبيولوجية. ووقعت ليبيا يوم 14 أغسطس اتفاقا مع الولايات المتحدة لتسوية مطالب البلدين بشأن تعويضات تتعلق بتفجيرات.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 30 أغسطس 2008)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.