الإنسحاب الأمريكي من العراق: هزيمة استراتيجية ونهاية لهيمنة قوة عظمى؟
مع إنزال العلم الأمريكي في حفل أقيم في مطار بغداد بمناسبة انسحاب قوات الغزو الأمريكي للعراق وتسليم كافة المسؤوليات إلى السلطات العراقية بعد قرابة تسعة أعوام من الإحتلال...
… بدأ المحللون العسكريون والسياسيون الأمريكيون عملية تقييم لتلك المغامرة العسكرية في بلاد الرافدين التي خسرت خلالها الولايات المتحدة 4474 قتيلا و33 ألف جريح حسب الأرقام الرسمية وأنفقت حوالي تريليون دولار. هل حققت أي أهداف أم كانت عملية خاسرة؟
في واشنطن، التقت swissinfo.ch بالدكتور أنتوني كوردسمان، الخبير العسكري بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن لمعرفة تقييمه لتلك الحرب التي ساند إنهاءها حوالي خمسة وسبعين في المائة من الأمريكيين في أحدث استطلاع لمركز بيو لأبحاث الرأي العام فقال: “لقد خاضت القوات الأمريكية تلك الحرب في عام 2004 لأسباب خاطئة حيث ثبت بالدليل القاطع أن العراق لم يكن يمتلك صواريخ طويلة المدى وأسلحة دمار شامل كما لم يكن النظام العراقي مرتبطا بشكل أو بآخر بتنظيم القاعدة أو بأي هجمات تم شنها على الولايات المتحدة أو حلفائها، وكل ما حققته الغزوة الأمريكية هو تدمير قدرات القوات المسلحة العراقية على ردع إيران دون أن يكون لدى الولايات المتحدة أي خطة واضحة لاستعادة الأمن والنظام من خلال نظام حكم ديمقراطي لا يستهدف عزل وتهميش السّنّة”.
نصر تكتيكي.. وهزيمة إستراتيجية!
وأصر الخبير العسكري الأمريكي على وصف الحرب الأمريكية في العراق وما انتهت إليه من سحب للقوات الأمريكية بأنها حققت نصرا تكتيكيا تمثل في تشكيل قدرات فعالة في كبح جماح حركات التمرد وتحقيق انتصارات هامة بالتعاون مع قوات الأمن العراقية خلال عامي 2007 و2008 والتعويض عن دخول العراق خمسة أعوام من الحرب الأهلية وكذلك خلق هيكل هش لديمقراطية غير فعالة قد تقود العراق إلى العودة لنظام حكم الرجل القوي الواحد.
وفي هذا الصدد، قال الدكتور كورسمان: “إن الانتصارات التكتيكية التي قادتها القوات الأمريكية لم تتمخض إلا عن تقليص عدد الحوادث الأمنية وبالتالي تخفيض مستوى الصراع الذي نتج من الإخفاقات الأمريكية في سنوات الغزو الأولى، إلا أن الولايات المتحدة خسرت تلك الحرب استراتيجيا” على حد رأيه.
ودلل الدكتور كوردسمان على ذلك بالأسباب التالية:
أولا: الإخفاق في التفاوض مع العراقيين على اتفاقية إطار استراتيجي فعالة تخدم أهداف الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
ثانيا: الانسحاب دون وجود هيكل محدد للنظام السياسي في العراق بسبب التسرع الأمريكي في صياغة دستور وإجراء انتخابات دون تمهيد مناسب للمجتمع العراقي.
ثالثا: الإخفاق في إعادة تمكين القوات المسلحة العراقية من الوصول بقدراتها إلى المستوى الكفيل بردع إيران ويشكل ذلك خطأ استراتيجيا فادحا.
رابعا: عدم وجود خطة إستراتيجية للتعاون مع دول الخليج العربية من خلال تشكيل قوة أمريكية متقدمة تتعاون مع قوات الدول العربية الحليفة في إيجاد رادع بديل لإيران.
وخلص الدكتور كوردسمان إلى أن انسحاب القوات الأمريكية من العراق “لا يشكل إعلان نصر أمريكي في الحرب التي شنتها على العراق في عام 2003 وإنما يشكل نهاية لحرب باهظة التكاليف من الناحية الإستراتيجية حيث تركت القوات الأمريكية عراقا غير قادر حتى على ضمان أمنه واستقراره الداخلي ومنطقة إستراتيجية بدون بناء هيكل استراتيجي جديد لمرحلة ما بعد انسحاب آخر جندي أمريكي من العراق”.
هل كانت الحرب تستحق شنها؟
سؤال وجهته swissinfo.ch إلى مايكل أوهانلون، كبير الباحثين بمركز دراسات السياسة الخارجية بمعهد بروكنجز في واشنطن فقال: “أول ما يتبادر لذهني للإجابة على هذا السؤال هو أنني لا أعرف على وجه اليقين، حيث أن تكاليف تلك الحرب كانت باهظة وكان بعض تلك التكاليف نتيجة لسوء الإعداد لها وخاصة في بداية الحرب، ولكن هل يمكن أن يتخيل أحد ما الذي كان سيفعله الرئيس صدام حسين وولديه عدي وقصي في مستقبل العراق والمنطقة إذا استمروا في الحكم مع قلة حيلة تأثير العقوبات؟ ولا يعني هذا بطبيعة الحال أنه يمكن الجزم بأن تكاليف الحرب الأمريكية الباهظة في العراق تبرر نتائجها المتواضعة ولكن حساب الفوائد والخسائر صعب في هذه المرحلة وإن كنت أميل إلى التشكك فيما إذا كان ما تكبدته الولايات المتحدة في حرب العراق يوازي ما أمكنها تحقيقه هناك”.
وكان البروفيسور آندرو باكيفتش أستاذ العلاقات الدولية والتاريخ بجامعة بوسطن أكثر صراحة في الإجابة على هذا السؤال حيث سارع إلى استعارة عبارة ونستون تشرشل الشهيرة: “من النادر في التاريخ البشري أن حدث هذا الكم الهائل من التضحيات الغالية والنفيسة لتحقيق ذلك القدر الهزيل من النتائج”. ودلل البروفيسور باكيفتش على ذلك بعدة أمثلة:
أولا: لم تحقق الولايات المتحدة نصرا عسكريا ولم تنجز أهدافا إستراتيجية من حرب كلفتها آلاف القتلى والجرحى وخلفت مئات الآلاف من القتلى والجرحى العراقيين.
ثانيا: التراث الكارثي للحرب الأمريكية في العراق يتخطى الخسائر المالية والخسائر في الأرواح حيث أنه أظهر للعالم افتقار القيادة السياسية الأمريكية للقدرة على ضبط النفس ونزوعها إلى استخدام القوة كأداة في السياسة الدولية.
ثالثا: بغض النظر عما يمكن تحقيقه أو لا يمكن إنجازه، اندفعت الولايات المتحدة في شن الحرب وكأنها أصبحت وسيلة عادية من وسائل العلاقات الدولية سيتقبلها الشعب الأمريكي بدون أي معارضة.
الإنسحاب نهاية للهيمنة الأمريكية
ويري البروفيسور باكيفتش أنه بعد قرابة تسعة أعوام من بداية الحرب التي شنها جورج بوش الابن على العراق ووعده بنصر سريع أسدل خلفه باراك أوباما الستار على تلك الحرب راضيا بالقليل الذي أمكن تحقيقه من حرب كلفت الغالي والنفيس لتظهر للعالم أجمع القدرات المحدودة للقوة الأمريكية فقد كان الهدف الحقيقي لعملية حرية العراق التي اتخذت تسمية للغزو الأمريكي للعراق هو أن تظهر الولايات المتحدة لعالم ما بعد هجمات سبتمبر أن القوة العسكرية الأمريكية هي التي ستحدد النغمة التي سيسير التاريخ على هداها وكان نظام صدام حسين الهش هدفا مثاليا لإثبات ذلك من وجهة نظر بوش الابن لتحقيق نصر سريع وحصد النتائج وإثبات اليد الطولي للقوة العسكرية الأمريكية.
ويستعيد البروفيسور بكيفتش بعض التواريخ التي أوحت في أول الأمر بأن النظرية قابلة للتطبيق: “للوهلة الأولى بدا من تتابع الأحداث بشن الحرب في 20 مارس 2003 ودخول القوات الأمريكية العراق ثم سقوط بغداد في التاسع من أبريل أن المهمة سوف تتحقق حتى أن بوش سارع إلى الاحتفال على ظهر حاملة الطائرات الأمريكية إبراهام لنكولن ومن خلفه لافتة كبيرة تقول” تحققت المهمة” متحديا من شنوا هجمات سبتمبر بقوله لقد ظنوا أنهم سيجبرون الولايات المتحدة على الإنزواء بعيدا عن دورها الرائد في العالم ولكنهم فشلوا وها هي أمريكا تتقدم من نصر إلى نصر”.
لكن أتت الرياح في العراق بما لم يشته بوش كما يقول البروفيسور باكيفتش الذي خدم في حرب فيتنام برتبة عقيد في الجيش الأمريكي. وكانت تلك الحرب قد أثبتت أنه “رغم أنه لا توجد قوة عسكرية في العالم تفوق قوة الولايات المتحدة فإن تلك القوة لا يمكن الإعتماد عليها وحدها في تحقيق النصر”، كما أن “الإنسحاب الأمريكي من العراق يشكل نهاية لفكرة الهيمنة الأمريكية اعتمادا على تلك القوة”، على حد قوله.
بغداد (رويترز) – “بغداد بناها المنصور وأعزها صدام”.. كان هذا شعارا زيّـن الكثير من المباني في العاصمة العراقية بغداد قبل غزو عام 2003 الذي أطاح بالزعيم العراقي الراحل صدام حسين. بعد ذلك بنحو تسعة أعوام ومع رحيل آخر ما تبقى من القوات الامريكية حل شعار جديد محل هذا الشعار وهو “بغداد بناها المنصور وأذلها صدام ودمرها الأمريكيون”. وسحبت واشنطن اخر ما تبقى من قواتها في العراق يوم الأحد 18 ديسمبر 2011.
وهم يتركون وراءهم دولة تعاني من انقسامات طائفية وعرقية ومازالت تسعى جاهدة لاحتواء تمرد وارتباك سياسي بعد الصراع الطائفي الذي دفع البلاد الى شفا حرب أهلية عامي 2006 و2007 .
وليس هناك من مكان يدلل على تشرذم العراق أفضل من بغداد العاصمة التي بناها الخليفة العباسي ابو جعفر المنصور عام 762 ميلادية على نهر دجلة وكانت مركزا للعالم الاسلامي لفترة طويلة.
ومن بين رموز الانقسام جسر الكريعات وهو جسر للمشاة بني عام 2008 حتى يتمكن الناس من التنقل بين المناطق التي يغلب على سكانها الشيعة دون أن يضطروا للمرور بمنطقة الأعظمية التي يغلب على سكانها السنة.
وفر الآلاف من ديارهم خلال أسوأ فترات الصراع الطائفي خوفا من أن يُهاجَموا في أحيائهم بسبب انتماءاتهم الدينية. ولم يعد كثيرون قط.
وقال ابو حسن وهو شيعي كان يقف على الجسر الذي يحمل الزوار يوميا من الكريعات الى ضريح شيعي في الكاظمية “بعنا منزلنا في الأعظمية عام 2006 خلال الحرب وجئنا الى هنا… كان هناك الكثير من المشاكل آنذاك فرحلنا واستأجرنا منزلا هنا. الوضع أفضل هنا”.
ويتهم كثيرون الغزو الأمريكي مباشرة باثارة الإنقسامات الطائفية في دولة سحق فيها صدام الذي ينتمي للأقلية السنية أيّ بوادر على المعارضة من جانب الأغلبية الشيعية بلا رحمة لكنه نجح في تقليص مظاهر الإنقسامات الطائفية في الحياة اليومية. وقال ابو عصام وهو يعبر الجسر “لم يكن هناك سنة أو شيعة قبل الأمريكيين. لم تكن هناك طائفية. أنا شيعي وابناي متزوجان من امرأتين سنيتين”.
كان العراق ذات يوم قوة سياسية مؤثرة ومركزا ثقافيا مزدهرا في الشرق الاوسط لكن هويته على مر السنين تغيرت بناء على من يحكمه وتنعكس هذه التغيرات في المناظر الموجودة بمناطق الحضر ببغداد.
في عهد صدام كانت تماثيل وصور الرئيس منتشرة في كل حي وشارع تقريبا. بعد الغزو صعدت الأغلبية الشيعية بالعراق الى الحكم ووضعت بصمتها على العاصمة. أصبحت الآن منطقة مدينة صدام مدينة الصدر وتحول اسم جسر صدام الى جسر الحسنين. وترفرف رايات الشيعة بألوانها الاخضر أو الاسود او الاحمر واللافتات التي تحمل صورة الامام الحسين حفيد النبي محمد عاليا فوق المباني وهو منظر كان محرما في عهد صدام.
ويقول الكثير من العراقيين إنهم كانوا يعتقدون أن الغزو الامريكي سيحقق لهم الديمقراطية والرخاء بعد سنوات من الحرب والعقوبات الإقتصادية والقمع على يد أجهزة الأمن في عهد الرئيس العراقي الراحل. ويشعر كثيرون الآن بالخيانة.
لقد تركت القوافل الأمريكية وأفراد الميليشيات الملثمون الذين كانوا يسيطرون على أحياء بالكامل منذ خمس سنوات شوارع المدينة. لكن التفجيرات وعمليات القتل ظلت ملمحا من الحياة اليومية.
ويغلف المدينة في كثير من الاحيان التراب والدخان كما أن مبانيها متداعية وتتناثر فيها القمامة. ومازالت الحواجز الخرسانية والأسلاك الشائكة المنصوبة لحماية المباني من التفجيرات تغطي وجه العاصمة.
ويشعر العراقيون بالقلق بسبب البطالة وانعدام الإستقرار الأمني وفي ظل كل هذا يعانون من نقص حاد في المياه ولا يتمتعون بالتيار الكهربائي سوى لبضع ساعات في اليوم ما لم يكونوا يملكون مولدات خاصة بهم.
وقال عباس جابر وهو موظف حكومي ان الأمريكيين “جلبوا لنا حكومة فاسدة لا تعكس ما يريده الشعب. انهم راحلون لانهم تركوا الفوضى وراءهم… والشعب العراقي هو من يعاني”. كما يخشى العراقيون من تدخل جيرانهم في المنطقة في شؤون بلادهم بعد انسحاب الولايات المتحدة. ويخشى السنة من النفوذ المتزايد لايران التي تزداد تقاربا مع الحكومة في بغداد ويقول الشيعة انهم يخشون من انقلاب سني تحركه السعودية التي لم تتقبل قط الحكم الشيعي في العراق.
من مدينة البصرة التي يغلب على سكانها الشيعة في الجنوب وعبر الرمادي معقل السنة في الغرب وحتى مدينة أربيل الكردية يتفق العراقيون فيما يبدو على أمر واحد. انهم يريدون أن يخرج الامريكيون لكن ما يقلقهم هو التوقيت. وقال مهدي وهو موظف حكومي في البصرة “نعم نريد أن يرحل الإحتلال لكن هذا الوقت غير مناسب لرحيلهم”. وأضاف “الأمريكيون سيخرجون من هنا وسيبدأ كل من سواهم في الدخول إلى هنا من أماكن أخرى”.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 19 ديسمبر 2011)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.