عراق ما بعد الانتخابات .. سلطتان تحكمان
في العراق سلطتان تحكمان اليوم :السفارة الأمريكية ومعها التواجد العسكري الأمريكي الواسع والمتنوع..
والحكومة العراقية بكل مفرداتها من رئاسة ورئاسة وزراء، وجمعية وطنية سيتحول اسمها إلى “مجلس نواب”…
السفارة الأمريكية تقوم بتوجيه السياسيين العراقيين ليقوموا بماينبغي فعله في العراق، والقوات الأمريكية تملك السلطة المباشرة فهي تعتقل من تشاء وتفرج عمن تشاء، تعز من تشاء وتذل من تشاء، ولاتستمع لنداءات السلطة العراقية إلا إذا كانت هي مقتنعة بما تفعل.
ونضرب مثلا: مراسل قناة “العربية” ماجد حميد الذي اعتقل منذ أكثر من أربعة شهور،بتهمة التعاون مع المسلحين في المنطقة الغربية، فقد أعلن الرئيس العراقي جلال طالباني أنه سيطلب من السفير الأمريكي، ومن قائد القوات الأمريكية( ) الافراج عنه، ولم يحصل ذلك ، بغض النظر عن حقيقة التهمة الموجهة للمراسل الشاب.
في قضية مماثلة، السلطة العراقية ومن خلال مسؤولين كبار فيها، طلبت الافراج عن الحاج أبوزينب (مهدي عبد مهدي) أمين عام منظمة مجاهدي الثورة الاسلامية في العراق التي كانت تعمل في الأهوار قبل سقوط النظام السابق،ولم تفعل القوات الأمريكية غير أنها وجهت لهذا القيادي السابق في حزب الدعوة الاسلامية الذي عارض بقوة مشروع تعاون (المعارضة) مع الأمريكيين لاسقاط نظام صدام، تهمة التورط في تفجير السفارة الأمريكية بالكويت عام 1983،دون أن تقدمه للمحاكمة على الرغم من مرور نحو ثلاث سنوات على اعتقاله في ظروف غامضة.
القوات الأمريكية أفرجت مؤخرا عن تسعة من مسؤولي النظام السابق، بينما السلطة العراقية أعلنت أنها ستصدر مذكرة اعتقال بحقهم،ومعلومات مؤكدة تتحدث عن رغبة أمريكية للافراج عن صدام وفق صفقة سياسية لتهدئة ما أصبح يعرف بالمثلث السني،والسلطة العراقية محرجة أمام الناخب، وتعلن انها مع استمرار المحاكمةالطويلة ولو بلغ مابلغ.
قبل أيام أشارت مصادر الى فرض السلطة الأمريكية الاقامة الجبرية على وزير الداخلية باقر صولاغ جبر(بيان جبر)، لأنه تجرأ واعتقل أمريكيين في بغداد، ضبطا في عملية مهاجمة عراقيين سنة وقتل البعض منهم واصابة آخرين،كما حصل (مع الفارق) في قضية الجنديين البريطانيين اللذين ضبطا بالجرم المشهود متلبسين بعمليات ارهابية استهدفت الشيعة في البصرة.
معتقل الجادرية، ضم الأمريكيين المعتقلين، الى جانب عدد من المتهمين بأعمال عنف وقتل وخطف،واستخدمت القوات الأمريكية ما قيل عن تعذيب سجناء الجادرية،للنيل من الوزير جبر،ليبعث السفير الأمريكي زلماي خليل زادة برسالة واضحة للائتلاف الشيعي قاربت في حدتها درجة “التعليمات” عندما أعلن زادة أن حقيبة وزارة الداخلية لن تسلم في المستقبل لوزير طائفي..
خلافات وتحالفات
معظم العراقيين الذين شاركوا في الانتخابات الأخيرة، يتطلعون الى حكومة عراقية توافقية من الجميع لاتعتمد كثيرا على الاستحقاق الانتخابي، لأنهم ينشدون قبل كل شيء الأمن والاستقرار، ولايفكرون كما تفكر النخب السياسية،المحكومة بعقدة المحاصصة: طائفية كانت أم عرقية.
وتتواصل المشاورات لتشكيل حكومة جديدة، هي أول حكومة عراقية دائمة في عهد مابعد نظام صدام حسين، الذي سقط وانهار في التاسع من نيسان أبريل عام 2003، بعملية عسكرية قادتها الولايات المتحدة… وماتزال هذه العملية مستمرة.
وحتى قبل الانتهاء من حسم الخلاف بشأن نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة، فان القوى السياسية والدينية الفاعلة في معادلة العراق الجديد، بدأت بالفعل اجراءات تشكيل الحكومة القادمة على ضوء النتائج غير النهائية للانتخابات التي أكدت تقدم الائتلاف العراقي الموحد الشيعي وتراجع نفوذ الكيانات العلمانية.
الائتلاف الشيعي أعاد(حتى الآن) ربط عقد تحالفه مع التحالف الكردستاني، وقيل في هذا السياق إن السيد عبد العزيز الحكيم زعيم الائتلاف ورئيس المجلس الأعلى للثورة الاسلامية الذي زار أربيل والسليمانية، تعهد أمام الأكراد بتطبيق المادة 58 من قانون إدارة الدولة بشأن تطبيع الأوضاع في كركوك، ربما لصالح وجهة النظر الكردية، وإعادة اختيار جلال طالباني رئيسا للعراق لمدة أربع سنوات، مع منحه صلاحيات إضافية، مقابل دعم مطلب الائتلاف بإقامة فيدرالية للوسط والجنوب، يجد الشيعة أنفسهم غير متفقين حولها، إذ يريد البعض فيدرالية للجنوب وأخرى للوسط، بينما يسعى آخرون الى فيدرالية واحدة من الجنوب والوسط تضم تسع محافظات، تكون النجف الأشرف عاصمتها.
طبعا يجب أن لايغيب عن البال أن السيد الحكيم زار كردستان بصفته رئيسا للمجلس الأعلى للثورة الاسلامية (هكذا يقول حلفاؤه في الدعوة والتيار الصدري وحزب الفضيلة) للحصول على دعم الأكراد لترشيح عادل عبد المهدي رئيسا للوزراء، بدلا من ابراهيم الجعفري الذي مرّت علاقته معهم بفترة حرجة حول صلاحيات الرئيس وتطبيع الأوضاع في كركوك.
اللاعب الأكبر
وعن الحكومة المقبلة فان التصريحات التي يدلي بها أقطاب الائتلاف الشيعي تتراوح بين من يدعو الى تشكيل حكومة وحدة وطنية كمخرج لتجنب الأزمة السياسية التي يثيرها المطالبون بالغاء النتائج واعادة الانتخابات (وهنا يبرز الدكتور ابراهيم الجعفري رئيس الحكومة الحالية)، ومن ينادي بحكومة تقوم على أساس الاستحقاق الانتخابي، (ويمثل هذا الرأي السيد عبد العزيز الحكيم) ما يثير مخاوف لدى السنة والعلمانيين، من هيمنة شيعية شبه كاملة على المواقع السيادية في الحكومة القادمة.
الادارة الأمريكية، اللاعب الأكبر في العراق الجديد، تُرسل من تشاء الى العراق دون علم مسؤولي السلطة العراقية، وكذلك تفعل الحكومة البريطانية فتوني بلير رئيس الوزراء، ووزير خارجيته جاك سترو ووزير الدفاع وغيرهم يصلون البصرة وكأنها محمية بريطانية ومشيخة من مشيخات القرن الماضي، ولا أحد من المسؤولين العراقيين يعلم بهذه الزيارات إلا عبر وسائل الاعلام.
زير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد خلال زيارته الى العراق في عيد الميلاد وقبله ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي،أعلنا أن واشنطن لن تتدخل ولن تضع خطوطا حمراء، على شكل الحكومة المقبلة، مكتفية بارسال اشارات مباشرة عن أهمية أن تأخذ الحكومة القادمة، في الحسبان، التطورات الاقليمية والدولية، والحاجة الى حكومة من جميع الأطياف، كطوق نجاة من ازمة تتصاعد، تُنذر من وجهة نظر الأمريكيين، وبعض السياسيين العراقيين، باندلاع حرب أهلية.
وفي هذا الواقع فان الانتخابات العراقية مهما كانت نتائجها، لن تخرج العراق الجديد عن نظام المحاصصة الذي أرساه السفير الأمريكي زلماي خليل زاده منذ اجتماع المعارضة العراقية في لندن منتصف ديسمبر من العام الذي سبق سقوط نظام صدام.
خليل زادة كان أكثر وضوحا من رامسفيلد. فهو الموجود على الأرض، وقد اجتمع الى عدد من الزعماء العراقيين الفائزين في الانتخابات وشدد على المطالبة بان تشكل حكومة ائتلافية تمثل جميع مكونات الشعب العراقي من عرب سنة وشيعة ومن الكرد، حتى قبل لقائه مع الرئيس العراقي جلال طالباني في السليمانية، وهو يعمل في إطار “تقديم الدعم اللوجيستي” للأطراف العراقية تحت سقف “المحاصصة” التي يمسك هو بخيوطها العنكبوتية.
مناورات وضغوطات
زلماي زادة وبغطاء تشجيع الأطراف على انتظار النتائج الانتخابية بشكل نهائي، يعمل على تهدئة مخاوف العلمانيين والليبراليين، وشجع على ظهور انقسامات داخل الكيانات الشيعية وتحديدا في أوساط موالية للدعوة الاسلامية، للانضمام الى “مرام” وهو التجمع المعارض لنتائج الانتخابات لاستخدامهم كورقة ضغط على الجعفري وعموم الائتلاف في المحادثات الجارية حول الحكومة.
وقام زلماي خليل زادة بزيارتين لهما أكثر من دلالة الى المملكة العربية السعودية، والامارات العربية المتحدة، وطلب تدخلهما لاقناع الرافضين نتائج الانتخابات، بالعدول عن فكرة إعادة الانتخابات، معلنا أن الامم المتحدة صادقت على عمل المفوضية المستقلة(العراقية)، وأن لاشيء سيلغي الانتخابات، أو يعيدها.
أثناء كتابة الدستور والخلافات بشأنه، وقبل التصويت عليه فضل السفير الأمريكي في العراق استخدام كلمة “مساعدة” بدلا من “ضغوطات” قيل إنه مارسها على قادة الأحزاب السياسية لإجراء تعديلات على مسودة الدستور، وذلك بعد أن بدا العديد من الزعماء مرغمين على ذلك، وتأكد أنه أبرم اتفاقا مع “السنّة” لاجراء بعض التعديلات على الدستور لتشجيعهم على المشاركة السياسية، وتخفيف العبء عن القوات الأمريكية.
زلماي خليل زادة قال إن “ضغوطات” هي ليست الكلمة الصحيحة بالنسبة لما قام به، مشيرا الى أن ما قام به هو “توضيح” بعض المسائل لهم.
من جهته، يسعى جلال طالباني لاحتضان السنة العرب (وكان أعلن ذلك بُعيد تسلمه منصبه كرئيس انتقالي للعراق)، وهو يدعم مشاركتهم في العملية السياسية، ويقوم من مقره في السليمانية بمحاولات تنقية للاجواء المتوترة لتشكيل حكومة وحدة وطنية من دون اقصاء، تشارك فيها جميع القوائم الفائزة في الانتخابات، لأن البديل سيكون غياب السلام..
وبين هذا وذاك، تزيد جميع الأطراف المشاركة في الانتخابات الأخيرة، من حدة خطابها السياسي، وبعضها يلوح باستمرار نزف الدم، للحصول على مزيد من المكاسب السياسية، دون أن تنسى أبدا وجود الراعي الأمريكي في المعادلة…
نجاح محمد علي – دبي
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.