شروط تطبيق الديمقراطية المباشرة “غير متوفرة” عربيا
أوضح خبراء ومحلِّلون سياسيون مصريون مهتمون بدراسة الأنظمة الديمقراطية، أن النموذج الديمقراطي المباشر في سويسرا يتميّز ببعده التاريخي وعراقته، غير أن محاولة تطبيقه في دول المجال العربي، قد تساعد على تكثيف الإنقِسامات وليس العكس؛ واعتبروا أن الحل يكمن حاليا في "بناء ديمقراطي تمثيلي، يتوسّع في إطاره استِخدام أدوات الديمقراطية المباشرة، كالإستطلاعات والإستبيانات الرسمية، لاسيما في القضايا المصيرية".
وفي تصريحات خاصة لـ swissinfo.ch أكد عدد من الخبراء أن “نجاح أي نظام ديمقراطي مرتبط بتوعية الجماهير”، وأن “الديمقراطية التشاركية لها سلبياتها ومخاطرها” وأن “تطبيقها يحتاج إلى توافر شروط؛ أهمها وجود “ثقافة الديمقراطية” لدى الشعب ووجود مجتمع مدني قوي وفعّال”؛ مُشيرين إلى أن “هذه الشروط غيْر متوافرة حالياً في بلدان الربيع العربي، خاصة في مصر، التي تعيش مناخا سياسيا هو الأسوأ”.
التراث الإسلامي والنظام الشوري
في البداية؛ يقول الباحث السياسي أنس القصّاص: “لم تشهَد أي دولة عربية هذا النَّمط في التنظيم الديمقراطي منذ اندلاع ثورات الربيع العربي وحتى الآن، ولا يُنتَظَـر حدوث أمر كهذا في المستقبل القريب داخل المجال العربي، وذلك لعدّة أسباب؛ أهمها: الطبيعة التاريخية والبنيوية للسلطة في الإقليم والتي لا تقبل بوجود كِيان مرجِعي لها من خارج مركزها، إضافة إلى التراث السياسي الحضاري الإسلامي، الذي يُفَضِّلُ النظام الشوري التمثيلي (الممثل في أهل الحلّ والعقد) على التشاركي المباشر، حيث يلتقي مع الديمقراطية العِلمانية في هذه النقطة تحديدا”.
ويضيف القصاص، محلل الشؤون الإستراتيجية والدولية في تصريحات خاصة لـ swissinfo.ch: “رغم اعتبار الديمقراطية الأثينية (نسبة إلى أثينا) المباشرة، أولى نماذج الديمقراطية، وأكثرها إلهاما في التاريخ، لكنها أدّت إلى مشكلات ليست قليلة، كان من بينها نشوب الحرب البيلونوسية بين أثينا وأسبرطة”؛ مشيرا إلى أن بعض المفكرين والسياسيين مثل ألكساندر هاميلتون اعتبروا أن “الديمقراطية المباشرة هي أكبر أبواب استبداد الأقلية” (أي الأوليجاركية).
آليات بالغة الأهمية
في السياق، أشار القصاص إلى أنه “على الرغم من عدم وجود القابلية التاريخية والديموغرافية بالمنطقة للإرتكان إلى الديمقراطية المباشرة في تسيير شؤونها العامة، فإن بعض آليات الديمقراطية المباشرة مثل الإستفتاءات والإستطلاعات الرسمية والمبادرات الشعبية، تُعتبر بالغة الأهمية، خصوصا خلال عمليات تقرير المصير القومي، ورغم انطباق المعايير الإجرائية لأغلب عمليات الإستفتاء التي جرت بالمنطقة في الأعوام القليلة الماضية، إلا أن أحدا منها حقق الغرض الذي تُقام لأجله، ألا وهو كسر احتكار السلطة لعمليات تقرير المصير”.
وللتدليل على كلامه، ذكّـر الخبير بما حصل مع الإعلان الدستوري الذي “صدر في 30 مارس 2011 من قِبل المجلس العسكري الحاكم في مصر آنذاك، في 60 مادة، لم يتم الإستفتاء سوى على بعضٍ منها في استفتاء 19 مارس الشهير. على الجانب الآخر، اعتبر محمد مرسي، رئيس مصر الأسبق، أن التصويت الإنتخابي، بمثابة تفويض مفتوح في قيادة البلاد، واتخاذ القرارات المصيرية. وبناءً عليه، أصدر إعلان نوفمبر الدستوري في عام 2012، الذي منح نفسه فيه صلاحيات مُطلقة غير خاضعة لأي منظومة قضائية، في وقت كان يُعتبر مثاليا لإجراء استفتاء شعبي لكسر الإحتقان المتنامي في مهده وتقرير الوجهة في وقت ملبّد بالغيوم”، على حد رأيه.
وفي هذا الصدد، يرى القصّاص بشيء من التشاؤم أنه “من غير المتوقّع أن يشهد المستقبل القريب بالمنطقة العربية أي معلم من معالم الديمقراطية المباشرة، سواء كانت تشاركية أو تداولية، نظرا لتشرذُم وتشظِّي المجتمعات وعدم وجود أدنى توجّه نحو تطوير أو تغيير بنية السلطة العربية، على الأقل في السنوات الخمس المقبلة، كذلك يُعتبر المناخ الإستراتيجي الضاغِط على المنطقة، من المحيط إلى الخليج، سببا أساسيا في تعطيل وتأخير أي خطة من خطط الإصلاح، الهيكلي والمؤسسي لدول المجال العربي”.
حالة عدم اليقين السياسي والتخبط الإستراتيجي التي يعيشها المجال العربي ستؤجّل أي محاولات لدَمَقرَطة البيئة العربية أنس القصّاص، باحث سياسي
النموذج السويسري قد “يُكثف الإنقسامات”
القصاص ذكّـر أيضا بأن “النموذج الديمقراطي المباشر في سويسرا له بُعدٌ تاريخي (منذ تأسيس الكنفدرالية السويسرية القديمة في موفى القرن الثالث عشر ميلادي)، وهو ما أهَّـله للإستمرار”، لكنه يرى أن “تطبيق النموذج السويسري في دُول المجال العربي، قد يساعد على تكثيف الإنقسامات وليس العكس”؛ معتبرا أن “الحل في بناء ديمقراطي تمثيلي، يتوسع في إطاره استخدام أدوات الديمقراطية المباشرة، كالإستطلاعات والإستبيانات الرسمية، لاسيما في حالة القضايا المصيرية”.
ويضيف الخبير المهتم بدراسة الديمقراطية التشاركية أنه “من المفترض؛ حسب نظرية اللعبة game theory، أن السلطة والمجتمع لا يربطهما سوى منطق الصراع، وليس الثقة المتبادلة، وفي العادة لا يهدأ الصراع بين المجتمعات وأنظِمة الحُكم إلا بعد استكمال الأسس المنصوص عليها منهجيا، في نظرية الترسخ الديمقراطي Democratic Consolidation”؛ موضحا أنه، وفي هذا الإطار، لا يُعتبَر نظريا أي شكل من أشكال التمثيل الديمقراطي تفويضا مفتوحا، إلا إذا رضخ المجتمع لذلك”.
ويختتم القصاص قائلاً: “لاشك أن حالة عدم اليقين السياسي والتخبط الإستراتيجي، والتي يعيشها المجال العربي قاطِبة اليوم، ستؤجّل وبلا أدنى شك أي محاولات لدَمَقرَطة البيئة العربية، وسيحتاج العرب وقتا ليس بالقليل ودماءً ليست بالضئيلة، حتى يتعلّم كيفيات التعايُش مع الآخر، السياسي والإجتماعي والإثني داخل البلاد، وآليات الوصول إلى أرضيات مشتركة لإدارة الخلافات والتوافقات”.
سلبيات ومخاطر وتحديات
من جانبه؛ لفت الخبير السياسي والأكاديمي الدكتور علاء عبد الحفيظ إلى أن “في مفهوم الديمقراطية التشاركية مفهوم مثالي من الصعب تطبيقه على أرض الواقع، وأنه رغم أزمة الديمقراطية التمثيلية في بعدها التمثيلي، فإنها لا تزال الخيار الأفضل للديمقراطية، في حالة الدولة الحالية”؛ مشيرا إلى أن “اعتماد نظام تمثيل نسبي في هذه الديمقراطية، يضمَن تمثيلَ كلِّ القوى السياسية الفاعلة، قد يُحَسِّن من أدائها”.
وفي تصريح خاص لـ swissinfo.ch؛ أكد عبد الحفيظ؛ رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة أسيوط، أن “نجاح أي نظام ديمقراطي مرتبطٌ بتوعية الجماهير وتحريرها من الهيمنة الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، للمجموعات والفئات الإنتهازية والمسيطرة على أدوات الإنتاج”؛ متوقعا أن يتم “إشراك المواطن في عملية اتخاذ القرار، أي أن يكون للمواطن الناخب رأيه الحاسم والمسموع، في شتى المسائل، محليا وإقليميا ووطنيا، في المستقبل، إذا زاد الوعْي السياسي لأفراد المجتمع وحدث تطوُّر ديمقراطي”.
في المقابل، أشار الخبير السياسي إلى أن “للديمقراطية التشاركية سلبياتها ومخاطرها، والتي تتمثل في تعدّد مراكز إتخاذ القرار، مما يحُول أحيانًا دون القُدرة على اتِّخاذ القرار، وقد ينحرِف الإختلاف بين هذه المراكز إلى صراع متواصل حوْل السلطة”، إضافة إلى ذلك يبقى “من الصّعب معرفة ما إذا كانت آراء الأشخاص المشاركين في صُنع القرار، تتأسّس على اعتبارات موضوعية أو أنها تعبيرٌ فقط عن مصالح شخصية أو فئوية أو طبقية”.
الديمقراطية التشاركية لا زالت استثناء
ثالث هذه السلبيات – من وجهة نظر عبد الحفيظ دائما – تتمثل في “الانخِراط المتزايد والمكثّف للجمعيات في الديمقراطية التشاركية، وهو ما يؤدّي إلى تحجيم دوْر الفاعلين التقليديين (المُنتَخبين وممثلي الإدارة)، بل ويُخفي أحيانا التأثير غيْر المباشر للمنظمات الدولية، ممّا ينتج عنه إنقاص للسيادة الوطنية وتقليص سلطة الدولة والمؤسسات المنتخبة، فضلاً عن أنها قد تتحوّل إلى نوع من الشعبوية السياسية”؛ موضحا أن “الرجوع إلى الشعب بدون الوساطات التي تمنحها الديمقراطية التمثيلية، ينطوي على صعوبات وتعقيدات ومخاطر”، على حد رأيه.
متفقا مع عبد الحفيظ؛ يرى الكاتب والمحلل السياسي أحمد طه أن “الديمقراطية المباشرة أو التشاركية، يظل تطبيقها هو الإستثناء وليس القاعدة في كل دول العالم، حيث أنها طُبقت في أماكن معدودة، اتسمت بصِغر الوعاء السكاني؛ حيث يحتاج تطبيقُها إلى توافر عدّة شروط؛ أهمها: مدى تواجد “ثقافة الديمقراطية” لدى الشعب ووجود مجتمع مدني قوي وعلى درجة عالية من الفاعلية”.
وفي تصريح خاص لـ swissinfo.ch؛ اعتبر طه، المهتم بملف الديمقراطية المباشرة، أن “هذه الشروط غيْر متوافرة حالياً في العالم العربي، وخاصة في مصر التي تعيش مناخا سياسيا هو الأسوأ منذ عقود طويلة، كما أن المجال العام في مصر، خاصة السياسي، يُعاني من عيوب هيكلية تحتاج بعضَ الوقت من أجل التعامل معها بنجاعة وفاعلية، تسمح بتطبيق الديمقراطية غير المباشرة، أما الديمقراطية المباشرة فمن المحتمل تطبيقها على المدى الطويل”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.