عندما تتضارب التقارير الأمنية والإعلامية ..
بعد 12 عاما عاشتها الجزائر في ظروف حرب أهلية قاسية، لا زال معدل القتلى الأسبوعي ثابتا في حدود 40 شخص يلقون حتفهم بسبب أعمال العنف المستمرة.
وفي أعقاب مذبحة أدت إلى مقتل خمسة رُعاة قرب العاصمة مؤخرا، ذهب مراقبون إلى أن التباين الخطير في تغطية الحدث من طرف بعض الصحف يعكس “ما يجري في أعلى هرم الحكم”.
بعد 12 عاما عاشتها الجزائر في ظروف حرب أهلية تحمل اسم الحرب على الإرهاب، حسب المصطلحات الأمريكية الجديدة، لا زال معدل القتلى الأسبوعي ثابتا في حدود 40 جزائري يلقون حتفهم بسبب أعمال العنف المستمرة التي تتّـسم أحيانا بطعم الانتقام السياسي المشبوه.
تعرف كل الطبقة السياسية الجزائرية، بالإضافة إلى رجال الإعلام، أن سؤال: “من يقتل من”، يشمئز منه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، وتشمئز منه المؤسسة العسكرية، لأنه يوجه إليها أصابع الإتهام بشكل مباشر في استهداف المدنيين ضمن سياسة تُـتَّـهم بها أيضا من قبل خصومها، هدفها تشويه صورة الإسلاميين المسلحين.
غير أن نظرة فاحصة إلى ما جرى قبل أسبوعين، عندما قًُـتل خمسة مدنيين في الحظيرة الوطنية (محمية طبيعية) بمنطقة الشريعة الواقعة 50 كلم غرب العاصمة، تدلّ على أن الوضع في أعلى هرم السلطة لا زال هشّـا أو بالأحرى العلاقة المعقّـدة بين أجهزة الحكم القائمة في البلاد، والتي يُـحاول بوتفليقة لجمَـها ضمن رغبات رئيس الجمهورية عبر تعديل دستوري يحدّد نوعية اللجام، من المنتظر إجراؤه قبل نهاية العام الجاري.
خلافات خطيرة
بعد المذبحة التي طالت مدنيين عُـزَّل، رشحت خلافات من نوع غريب بين مدراء صُـحف أقل ما يُـقال عنهم بأنهم واعون بما يقولون ويفعلون. فمن جهتها عنونت يومية ليبرتي الناطقة بالفرنسية، والتي يملكها رجل الأعمال القبائلي يسعد ربراب، موضوع المذبحة: “الجماعة السلفية للدعوة والقتال، تعود إلى المتيجة”.
أما يومية لوجور دالجيري، التي تأسست عبر القرب من الدوائر المؤيّـدة لعبد العزيز بوتفليقة، فقد عنونت موضوع المذبحة: “المافيا السياسية الاقتصادية”، وهو ما عنى أن العمل المنسوب إلى تنظيم يُـفترض أنه همجي، غير صحيح، إنما هناك “مافيا” تريد تعكير الأجواء دعما لمصالحها الخاصة.
والأغرب من هذا كله، أنه، بخلاف العنوان، لا ذكر للجماعة السلفية ولا للمافيا السياسية الاقتصادية في صلب الموضوعين الصحفيين، مما يدلّ على أن المسألة تتعلّـق بتراشق بين جهات تتناقض في التوجهات، ليس إلا.
وللاستمرار في هذا النهج المتناقض، تشهد دائرة الشراقة التابعة للعاصمة، حالة من الاختناق الإداري لم يسبق لها مثيل. فقد أمر الرئيس الجزائري بتعويض ضحايا الأزمة التي عاشتها البلاد ماديا، عبر دعم عائلات المفقودين والقتلى، سواء أكانوا من قوات الأمن أو من الجماعات المسلحة أو من المواطنين العاديين.
غير أن دائرة الشراقة، وحسب المُـشرفين على المصادقة على ملفات ورثة الهالكين من الفئة المذكورة سابقا، تتعلل للموثقين الذين يسجلون فرائض الهالكين مجانا، بأنها لم تحصل على النصوص التنفيذية للقرار الرئاسي، وقد استعجب المُـوثقُـون في معلومات حصلت عليها سويس إنفو، من وصول الأوامر التنفيذية إليهم (وهم من القطاع الخاص)، وتأكيد مسؤولين في الإدارة الحكومية في المقابل، أنهم لم يحصلوا عليها.
وبعد أن اتهم بعض المسؤولين من طرف مواطنين غاضبين بأنهم يعارضون المصالحة الوطنية التي أمر بها بوتفليقة، قبلوا وبصورة عجيبة أن يُحضر لهم الموثقون كُـتيب النصوص التنفيذية كي يطبّـقوها في صورة إدارية معكوسة يندر أن يحصل مثلها في أي مكان آخر.
“من يسيطر على أجهزة الحكم المتصارعة”؟
وفي تصريح خاص لسويس إنفو لأحد الموظفين الكبار السابقين في المكتب السياسي في حزب جبهة التحرير الوطني، يقول هذا الموظف المتقاعد: “يجب أن تعلم أن السؤال المحرّم، ليس من يقتل من؟ بل أن السؤال الذي ينبغي عدم تكراره، هو من يُـسيطر على أجهزة الحكم المتصارعة”؟
ويضيف هذا الموظف: “من المسلَّـم به أن الأجهزة بتناقضاتها، هي سبب عدم المبالاة التي يتميّـز بها الكثير من المسؤولين. فهناك من لا يعتبر بوتفليقة رئيسا له، بل من جاء به وأوصله إلى ما هو فيه، وهذه كارثة لا يستطيع الرئيس حلّـها، فوصوله إلى السلطة من الأساس، يحتاج إلى إجماع من قبل هذه الأجهزة كلها، وهي بدورها تقاد من الجهة الأقوى في تلك الفترة الزمنية المعيّـنة”.
وتعبيرا عن مدى التّـيه وسط هذه المعادلة الصعبة، أكّـد مصدر دبلوماسي غربي لسويس إنفو أن سفارة بلاده “لا تعتبر بما يُلقى إليها من بيانات رسمية حيال مواضيع كثيرة، والسبب هو أن ما يُـقال أحيانا كثيرة، تُـناقضه أفعال في الواقع كأنها صادرة من دولة أخرى”.
ويضيف هذا المصدر الدبلوماسي الغربي: “يجب أن نعترف أن قيادة فرنسا لموضوع فهم ما يجري في الجزائر، بدأت تتآكل لأن الجيل السياسي الذي يعرف الجزائر وفرنسا بسبب الولادة فيها أو بسبب العلاقات العائلية، بدأ يختفي، لتُـصبح فرنسا جاهلة تلقائيا لهذه اللّـعبة الجزائرية المعقدة”.
ومن الواضح أن هذا التناقض السياسي الذي يعجز الدبلوماسيون المقيمون في الجزائر عن استيعابه وفهمه كي يتمكنوا من شرحه بدورهم إلى رؤساءهم في حكوماتهم المختلفة، تثير نتائجه السلبية صورة سيئة للبلاد هي في غنى عنها في الوقت الحالي.
تناقض الصحف لن يتوقف
وفي نفس السياق، لا يبدو أن تناقض الصحف الجزائرية عند السجال حول المواضيع ذات الخلاف سيتوقف، والموضوع الوحيد الذي لا خلاف فيه، هو أن الصحراء الغربية ليست ملكا للمغرب، أما إمكانية الاختلاف حول هذا الموضوع، فواردة إذا ما نشب خلاف حاد ما بين الأجهزة حول مسألة ما بالغة الحساسية.
في هذا الاتجاه، اتضح أكثر من أي وقت مضى أن ارتفاع معدل القتلى الأسبوعي بسبب أعمال العنف، قد ازداد بشكل ملحوظ منذ أن قرر عبد العزيز بلخادم إعلام الجزائريين برغبة بوتفليقة في تعديل الدستور.
وبطريقة غريبة، اتهمت يومية ليبرتي الجماعة السلفية للدعوة والقتال بتنفيذ مجزرة الحظيرة الوطنية للشريعة، لأن الجماعة السلفية لم تطأ قدمها يوما واحدا أرض الحظيرة، كما أن قوات الأمن التي حقّـقت في الموضوع، اشتبهت في خلاف بين الأهالي أو في عودة مزعومة لما يُسمى بـ “الجماعة الإسلامية المسلحة” ذات توجّـهات التكفير والهجرة.
كما أن اتهام يومية لوجور دالجيري، المقربة من رئاسة الجمهورية، للمفايا السياسية الاقتصادية، يُـعتبر خروجا فاضحا عن تقارير مصالح الأمن، يُضاف إلى هذا كله، احتراف صحف دون غيرها لمواضيع الفضائح المالية التي يكون وراءها رجال أعمال لا يهضمهم مذاق بوتفليقة السياسي، فيما تغض صحف أخرى الطرف عنهم كأن ما يتعلق بهم لا يمثل حدثا بالمرة، بسبب امتلاك رجال أعمال معينين لتلك الصحف، والتي تعلَّـم محرروها قاعدة: “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”.
تبادل الاتهامات
تبعا لما سبق، يُـتوقع أن تزداد أعمال العنف ويزداد معها معدل القتلى الأسبوعي، كلما زاد حديث بوتفليقة عن التعديل الدستوري المرتقب قبل نهاية العام الجاري، على أساس أن الجماعة السلفية للدعوة والقتال ذات العلاقة بتنظيم القاعدة، لا يهمها الشكل السياسي ببوتفليقة أو بغيره، كما أن الجماعة الأخرى التي تنفذ جرائمها والتي أشارت إليها يومية لوجور دالجيري ستواصل هي الأخرى عملها في سهل المتيجة المحاذي للعاصمة وغيره من المناطق.
وستتهم هذه الجماعة، المُـشار إليها، صُـحفا أخرى بأنها فصيل من فصائل الجماعة السلفية للدعوة والقتال. وفي أحسن الأحوال، تتّـهمها بأنها الجماعة الإسلامية المسلحة. وكما هو حاصل الآن، سيستمر التناقض بين تقارير مصالح الأمن وما يصدر من تقارير إعلامية في الصحف، وسيتواصل التناقض ما بين الإعلان السياسي، و القرار الإداري والنصوص التنفيذية المطبقة له، إذا ما تعلق الأمر بمحاربة الرشوة والإسلاميين.
وعلى فرضية ما سيحدث في الأيام القادمة، هل سيصبح رئيس الجمهورية بوتفليقة (أو غيره) عندما يتم تغيير الدستور الرجل الأوحد في البلاد، صاحب القرار النهائي؟
بالنظر إلى ما سبق من أحداث سياسية بعد استقلال البلاد عام 1962 من القرن الماضي، فإن أقوى رؤساء البلاد، وهو الرئيس الراحل هواري بومدين، لم يكن صاحب القرار النهائي، وكان يعتمد على التوازن كي يبدو قويا.
على أن قوة بوتفليقة يحتج عليها أناس من حوله ولا يمكنه فعل شيء لهم، ويُفضّـل بعض أنصاره التراشق في الصحافة، وهو نفس الأمر الذي ينطبق على الخصوم الذين يفضّـلون الصحافة المستقلة وملاسناتها التي هوت بها في نوع خطير من أنواع الرداءة.
ومن البداهة، الإشارة إلى نتائج هذا الوضع الخطير: “لقد تبلّـدت الأحاسيس في الداخل والخارج، فمقتل أربعين شخصا أسبوعيا، لا يعني أحدا ولا يستثيره، وبما أن دوام الحال من المحال، فإن حرب الأجهزة لابد أن تنتهي بغالب ومغلوب، ولعبة التوازن لا تصلح لقيادة الأمم، إلا إذا كان الهدف هو العيش مهما كانت الظروف”.
هيثم رباني – الجزائر
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.