كيف أصبحت دبي “جنيف الجديدة” لتجارة النفط الروسي؟
عندما تبنَّت سويسرا العقوبات المفروضة على روسيا، تحوّل جزء كبير من تجارة النفط إلى الشرق الأوسط. ويتنبأ البعض بأن هذا التحول سيكون دائماً.
ظلَّت مدينة جنيف لعقود عديدة موطناً للكثير من رجال الأعمال الروس الذين كانوا يبيعون النفط الروسي لعملاء من جميع أرجاء العالم. وبعد أن اتخذت سويسرا قراراً بالمشاركة في الحظر المفروض على موسكو على إثر غزو الأخيرة لأوكرانيا، أصبحت تجارة النفط الروسي تتجه إلى دبي وإمارات أخرى في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وكشفت تحليلات أجرتها صحيفة فاينانشال تايمز لبيانات جمركية روسية عن الفترة من يناير إلى أبريل 2023، أن حجم النفط الروسي الذي اشترته شركات مُسجّلة في هذه الإمارة بلغ 39 مليون طن، أي حوالي ثلث الصادرات الروسية التي خرجت من البلاد بمعرفة السلطات الجمركية، وأن قيمته فاقت 17 مليار دولار أمريكي (14,6 مليار فرنك سويسري).
ووفقاً لبيانات تتبع الشحنات، لم تتوقف في دولة الإمارات العربية المتحدة إلا بضع شحنات استقرَّ نفطها في محطات تخزين في أماكن كإمارة الفجيرة. أما الجلَّ الأعظم، حوالي 90%، فلم يمس الأراضي الإماراتية، بل تدفق من المواني الروسية مباشرة إلى مشترين جدد في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، في إطار واحدة من أكبر عمليات تحويل مسار تدفقات الطاقة العالمية في التاريخ.
ومع أنَّ تجارة الطاقة كانت تشهد نمواً في دولة الإمارات العربية المتحدة قبل أن تبدأ الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أنَّ هذه الحرب، وما أعقبها من عقوبات فرضتها الدول الغربية على روسيا، ساعدت على تعزيز هذا النمو.
المزيد
انعدام الشفافية يعيق تنفيذ سويسرا للعقوبات على النفط الروسي
وتُظهر البيانات الجمركية للربع الأول من هذا العام أن الشركات المسجلة في دولة الإمارات العربية المتحدة تستحوذ على جزء كبير من تجارة النفط الروسي. فمن بين أكبر 20 شركة تتداول النفط الروسي الخام ثماني شركات مُسجَّلة في الإمارات، وأمَّا في تداول المنتجات النفطية المكررة من قبيل كالديزل وزيت الوقود، فلدولة الإمارات حصة أكبر؛ حيث هناك عشر شركات مسجّلة فيها من بين أكبر 20 شركة تداول.
وأدَّت هذه الطفرة إلى زيادة ثراء هذه الدولة، إذ باتت مليارات الدولارات تتدفق إلى مصارفها من الصفقات النفطية الإضافية وأصبحت عشرات الشركات الجديدة تتهافت على المناطق الحرة المقامة على أراضيها. ومن جانب آخر، وضع هذا التحوُّل ضغوطاً على علاقات الدولة مع حلفاء مثل الولايات المتحدة، التي ترغب في استمرار تدفق النفط الروسي لكنها في الوقت نفسه متخوِّفة من تشكُّل مسارات تجارية جديدة قد تقوِّض العقوبات.
ويرى المسؤولون التنفيذيون في مراكز التداول أنَّ دبي، المركز التجاري الرئيسي لدولة الإمارات، هي الآن مزيج حلو من الإثارة والمنافسة والمغامرة، بسبب تشكُّل فرق تداول جديدة تتنافس على استقطاب المواهب والأعمال إلى سوق أصبحت على حين غِرَّة تحفل بالمشترين والبائعين.
عمل مات ستانلي سابقًا في تداول النفط وأصبح اليوم بعد 20 سنة من الخبرة في القطاع يعمل لدى شركة “كبلر” لتحليل البيانات ويشغل منصب المدير الإقليمي لعلاقات العملاء. وتأكيداً لما سبق، يقول مات ستانلي: “إن كنت تاجر نفط، فإلى هنا وجهتك، دبي هي جنيف الجديدة”.
حياد سياسي
تمتد دولة الإمارات من شبه الجزيرة العربية إلى خليج عُمان، ولا تزال منذ مئات السنين مركزاً تجاريًّا مهمًّا يستقطب التجار الذين ينقلون البضائع بين أوروبا وآسيا. وبفضل ما أرسته في السنوات الأخيرة من بنى تحتية حديثة للأعمال وما طوَّرته من خدمات مصرفية وضوابط تنظيمية غير متشددة، أصبحت اليوم مركزاً رئيسيَّا لتجارة الذهب والماس والسلع الزراعية مثل الشاي والقهوة.
ومع أنَّ دولة الإمارات هي ثامن أكبر دولة منتجة للنفط في العالم، إلا أنها لم تكن في السابق مركزاً رئيسيًّا لتداول النفط، فقد ظلَّت أحجام التداول فيها متواضعة، وظلَّت شركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك)، المملوكة لحكومة أبوظبي، تعمل دون ذراع تجاري حتّى ثلاث سنوات مضت عندما أسست شركة أدنوك للتجارة العالمية.
ولكن الموقع الجغرافي بالقرب من أسواق النفط المتنامية في إفريقيا وآسيا وعدم فرض ضرائب على الدخل الشخصي كان قد بدأ في جذب المزيد من التجار المتعطشين للربح حتى قبل أن تبدأ الحرب في أوكرانيا.
المزيد
“على سويسرا اظهار التزامها بالشفافية في تنفيذ العقوبات الدولية على روسيا”
ووفقاً لمدير مالي في إحدى شركات التداول العالمية فإن دبي هي “واحدة من آخر المواقع في العالم التي يمكن العيش فيها دون دفع ضرائب”، وقال إنَّ الشركة تتلقى بانتظام طلبات من المتداولين العاملين في فروع الشركة حول العالم للانتقال إلى فرع دبي، وأضاف أنَّ “دبي ستصبح مركزاً عالميًّا لتجارة السلع الأساسية”.
ومن الميزات الأخرى التي تجعل دولة الإمارات العربية وجهة جذّابة حيادُها السياسي الظاهر في عالم لا تنفك فيه القوى العالمية تتنافس وتتصارع، ما يعني أن فرض عقوبات أوروبية أو أمريكية على صادرات دول أخرى غير روسيا هو احتمال وارد.
ويقول الرئيس التنفيذي لإحدى شركات تجارة الطاقة التي تأسست في دبي خلال السنوات الخمس الماضية إنَّ: “دولة الإمارات توفِّر تلك المنصة اللازمة لإجراء الصفقات والتداولات والسفر بحرية”.
وعلى الرغم من جميع إنجازات دولة الإمارات العربية المتحدة في بناء البنى التحية المتطورة للأعمال وحسن استغلالها لموقعها الجغرافي، فإن الحرب في أوكرانيا وجاهزيتها لاستقبال الشركات الروسية هما السببان الرئيسيان للانتعاش الذي تشهده حاليًّا. ويضيف الرئيس التنفيذي: “الأزمة الأوكرانية هي المنشّط الأساسي”.
انتعاش روسي
يقع مركز دبي للسلع المتعددة في منطقة أبراج بحيرات الجميرا الفاخرة، وهي أحد أكبر وأنجح المناطق الحرة في الإمارات. ويُعرض في ردهة المقر الرئيسي للمركز مجسَّم للمنطقة بأبراجها السكنية والتجارية الجذابة البالغ عددها 87 برجاً، والتي تمتد في الواقع على مساحته كيلومترين مربعين وتحتضن مقرّات 22 ألف شركة مسجّلة.
ويبدو واضحاً أن هذا المركز أصبح المحور الرئيس لعالم تجارة النفط الروسي. فقد أظهرت بيانات الإقرارات الجمركية الروسية الصادرة عن الفترة من يناير إلى أبريل أن 104 شركة اشترت النفط الروسي خلال هذه الفترة، من بينها ما لا يقل عن 25 شركة مسجلة في مركز دبي للسلع المتعددة.
وأظهرت البيانات الجمركية أنَّ شركة ليتاسكو “Litasco”، ذراع التجارة والتداول لشركة لوك أويل “Lukoil” الروسية، قد تداولت في الفترة ذاتها 16 مليون طن من النفط الروسي الخام ومنتجاته المكررة بقيمة تزيد عن 7 مليارات دولار أمريكي، ما يجعلها أكبر مشتر للنفط الروسي في هذه الفترة. وتظهر البيانات أيضاً أنَّ غالبية هذه التداولات أجرتها ليتاسكو الشرق الأوسط المسجلة في مركز دبي للسلع المتعددة.
وكان نشاط الشركة في دولة الإمارات فيما مضى ينحصر فقط في مكتب تمثيلي، ولكن بعض عمليات التداول انتقلت العام الماضي من جنيف إلى دبي. وبحسب أحد المتداولين السابقين في ليتاسكو فإن مكاتب المجموعة تمتدُّ الآن على طابق كامل في برج شاهق الارتفاع في قلب المنطقة الحرَّة. ورفضت شركة ليتاسكو، ومقرها الرئيسي في سويسرا، التعليق بهذا الخصوص.
ومن بين الشركات التي تداولت بأكبر كميات من النفط الروسي في الربع الأول من هذا العام شركة دمكس التجارية “Demex” وشركة قمة “Qamah” للخدمات اللوجستية، وكلتاهما مسجلتان لدى مركز دبي للسلع المتعددة وتأسستا خلال السنوات الثلاث الماضية، وتعذّر التواصل مع أي منهما للتعليق على هذا الشأن.
المزيد
كيف تتأثر تجارة السلع الإنسانية بالعقوبات؟
وتجارة النفط الروسي من دبي نشاط قانوني. فالعقوبات الغربية تحظر استيراده فقط إلى الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وبعض الدول الأخرى التي تلتزم بقوانين مجموعة السبع، كسويسرا. وبموجب قواعد العقوبات يُمكن للشركات الغربية أيضاً أن تواصل بيع النفط الروسي إلى شركات في مناطق أخرى من العالم طالما كان سعر البيع أقل من سقف محدد.
ووضعت التدابير لتسمح باستمرار تدفق النفط الروسي إلى دول جديدة غير غربية وتقلل في نفس الوقت تدفق الإيرادات إلى الكرملين. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، شجَّعت واشنطن الشركات على مواصلة نقل النفط الروسي لتجنب تذبذب المعروض منه، بشرط ألا يفوق سعره السقف المحدد.
ورغم أنَّ الشركات المسجلة في دبي غير ملزمة بالامتثال لسقف السعر، إلا أنَّ بعضها اختار الالتزام به لكي تكفل إمكانية الحصول على الخدمات الغربية مثل الشحن والخدمات المصرفية والتأمين.
ومن هذه الشركات شركة غانفور (Gunvor)، الكائن مقرها في جنيف، والتي صرَّحت بأنها أنشأت في أكتوبر كياناً ثانياً في دبي لكي تفصل عن بقية أنشطتها التجارية أية “تعاملات في صفقات محتملة ترتبط بروسيا وتمويلها”.
ففي يونيو، صرَّحت شركة غانفور لصحيفة فاينانشال تايمز أنها أوقفت تداولها بالخام الروسي، إلا أنها اشترت في الربع الأول من هذا العالم وقوداً روسيًّا مكرراً بقيمة 330 مليون دولار أمريكي تقريباً، وكانت جميع تعاملاتها متوافقة مع العقوبات الغربية وسياسة سقف السعر. ولم تتفق مع بعض الأرقام الواردة في البيانات الجمركية التي أظهرت أنَّ الصادرات الموجهة للشركة في الفترة ذاتها تجاوزت قيمتها 500 مليون دولار أمريكي.
وصرَّحت هيليما كروفت، محللة سابقة في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وتعمل حاليًّا رئيسة قسم أبحاث السلع العالمية في شركة “آر بي سي كابيتل ماركتس” (RBC Capital Markets)، أنَّ واشنطن لا تكترث بالمكان الذي يُتداول منه النفط الروسي طالما أجريت هذه التداولات بشفافية. وأضافت قائلة: “ما دامت براميل النفط الروسي تباع وتشترى بسعر لا يتجاوز السقف، فإن مراكز التداول هذه لا تقترف أي خطأ… بل هي إثبات على تطبيق خطة سقف السعر التي وضعتها واشنطن”.
وفي المقابل، يبدو أن شركات أخرى تستخدم فروعًا لها مقرها دبي لكي تبيع وتشتري النفط الروسي بسعر أعلى من السقف المحدد، وذلك عن طريق تعيين شركات غير أوروبية لتوفير خدمات الشحن والخدمات المالية.
نقلت شركة بارامونت للطاقة والسلع، على سبيل المثال، العام الماضي أنشطتها لتداول النفط الروسي من جنيف إلى شركة تابعة مسجلة لدى مركز دبي للسلع المتعددة، وواصلت الشركة التابعة بيع خليط من النفط الخام القادم من شرق روسيا وتداولته بأسعار تفوق السقف الذي حددته مجموعة السبع عند 60 دولاراً أمريكيًّا للبرميل، وفقاً لبيانات التسعير. ووفقاً لما ورد في يوليو في صحيفة فايننشال تايمز، فقد استجوبت السلطات السويسرية في أبريل الشركة بشأن نقل أنشطتها إلى دبي.
وقالت شركة بارامونت إنها ردَّت في ذلك الوقت على جميع الأسئلة، وأنها أخبرت السلطة التنظيمية في سويسرا أنها أوقفت أنشطتها المرتبطة بالنفط الروسي قبل أن يبدأ سريان سقف السعر، وبأنَّ الشركة التابعة في دولة الإمارات العربية المتحدة هي كيان قانوني منفصل له إدارته الخاصة.
شركات تابعة لـ”روزنفت”؟
ورغم ما سبق، فإنَّ أكبر الشركات المساهمة في طفرة النفط الروسي في دبي ليست شركات فاعلة معروفة، بل شبكة من الشركات المغمورة وذات هياكل مِلكية مبهمة تنقل مجتمعة مليارات الدولارات من إيرادات النفط شهريًّا.
ومن بين أكبر الشركات التي تتاجر بكل من النفط الخام والوقود المكرر الروسي شركة تدعى “تجاري نفط ” (Tejarinaft FZCO)، وهي شركة مسجلة في منطقة حرّة أخرى تدعى “واحة دبي للسيليكون”.
وتأسست الشركة بعد شهرين من اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. وتظهر السجلات التجارية أن هشام الفيزازي، مواطن مغربي، هو المدير الإداري الوحيد والمدير العام. وهو المساهم الوحيد الذي يظهر اسمه على السجلات التي لا تذكر صراحة إذا كان يملك الشركة بأكملها أو جزء منها.
وتظهر السجلات التجارية التي استعرضتها صحيفة فايننشال تايمز أنّ الفيزازي هو أيضاً المدير الإداري الوحيد والمساهم الوحيد لشركتين أخريين على الأقل مسجلتين في دولة الإمارات العربية المتحدة وتعملان في تداول النفط الروسي، وهما: أمور للتجارة “Amur Trading FZCO” المسجلة في أغسطس لدى المنطقة الحرة في واحة دبي للسيليكون، وأمور للاستثمار “Amur Investments Ltd” المسجلة في سبتمبر في إمارة أبوظبي.
وتقول شركات منافسة إنها لم تسمع بالفيزازي قبل العام الماضي، وتعتقد أن الشركات الثلاث هي جزء من شبكة أنشأتها مجموعة روزنفت “Rosneft”، أو من ينوب عنها، لمساعدة الشركات المنتجة، التي يسيطر عليها الكرملين، على بيع نفطها الخام بعد أن عزف الشركاء الأوروبيون السابقون مثل ترافيغورا “Trafigura” وفيتول “Vitol” عن شرائه العام الماضي.
وتشير البيانات الجمركية إلى أنَّ الشركات الثلاثة؛ “تجاري نفط” و”أمور للتجارة” و”أمور للاستثمار” لم تصدِّر النفط قطّ لغير روزنفت أو مشاريع روزنفت. وأن قيمة النفط الخام والوقود المكرر الذي اشترته من المنتج في الفترة بين سبتمبر وأبريل قد بلغت قرابة 8 مليارات دولار أمريكي.
وصدَّرت شركة “تجاري نفط” لوحدها ما قيمته 6.71 مليار دولار أمريكي من النفط الروسي في الفترة بين سبتمبر ومارس، ولم تتعامل سوى مع الشركة المذكورة كما يظهر 394 تصريحاً جمركيًّا صدرت في هذه الفترة.
وامتنعت “روزنفت” عن الردِّ على طلب للتعليق على هذا الموضوع. وعند محاولة التواصل مع شركة “تجاري نفط” فقد ارتدَّت الرسائل إلى البريد الإلكتروني المُعلن على الموقع الرسمي برسالة آلية تُفيد بعدم إمكانية تسليم الرسالة. وعند الاتصال على رقم الهاتف المُعلن على الموقع فكان للاستعلامات العامة عن المنطقة الحرة، ولم تعمل أيقونة “اتصل بنا” على الموقع الإلكتروني. وقد تعذَّر أيضاً التواصل مع شركتي “أمور للتجارة” و”أمور للاستثمار.
ويقول بن هيغينز، الخبير في التحقيقات في شركة “وولبروك” (Wallbrook) لاستشارات المخاطر في دبي، وهي شركة تابعة لمجموعة “أنثيس” (Anthesis)، إنه لاحظ خلال العام الماضي أنَّ عدداً أكبر من عملاء الشركة من مصارف وشركات تجارية يطلبون إجراء العناية الواجبة بخصوص الشركات التجارية المسجلة في دبي.
ويضيف هيغينز أنَّ “الشركات المستهدفة المنشأة في المناطق الحرَّة في أرجاء دبي، غالباً ما تتجنب لفت الأنظار وأصحابها، على الورق، ليسوا مواطنين روس… إلا أنَّ التقصّيات والتحليلات غالباً ما تكشف عن خيوط عديدة تربطها بروسيا”.
ويبدو أنّ بعض الأفراد الّذين تقّصت “وولبروك” بشأنهم كان لهم دور مماثل في تجارة النفط القادم من إيران وفنزويلا. ويقول هيغينز إنّ هؤلاء الأفراد “هم دائماً أسرع من السلطات، ويتنقلون بين النقاط الساخنة مثل قبرص وهونج كونج ولاتفيا ودبي”.
“الثقة بالنظام”
في حين تنتشر أعمال تداول النفط الروسي في أبراج دبي الشاهقة البرَّاقة، إلا أنَّ مركز التجارة الفعلية يقع على بعد 100 كم تقريباً في ميناء على الشواطئ الرملية لإمارة الفجيرة.
فمنطقة الفجيرة للصناعة البترولية هي المرفق الأكبر في المنطقة لتخزين النفط التجاري ومنتجات النفط المكرر. وتمتد على عدَّة كيلومترات من جانبي الطريق إلى الميناء صهاريج التخزين البيضاء العالية وعددها 262 صهريجاً. وفي الوقت الراهن، وصل عدد كبير منها إلى أعلى طاقة استيعابية بعد أن امتلأت بالنفط القادم معظمه من روسيا.
ومن الجدير بالذكر أنَّه في أبريل 2022 لم يكن يصل إلى الفجيرة أي واردات من النفط الروسي، ثم تغيَّر الحال ووصلت ذروتها في أحد أيام شهر ديسمبر لتصل إلى 141 ألف برميل. وبحسب باميلا مغنر، محللة بيانات النفط في شركة فورتكس للبيانات، شكَّلت الواردات في ذلك اليوم 40% من إجمالي الواردات لشهر ديسمبر. وتظهر البيانات أن ما وصل من روسيا إلى الفجيرة في الشهر الماضي بلغ معدَّله 105 آلاف برميل شهريًّا.
ووفقاً لأحد تجار النفط العاملين في دبي، فقد دفع تدفق النفط بالمشغلين إلى رفع الأسعار التي يتقاضونها لقاء التخزين، وأدَّى ذلط إلى “إنشاء سوق من مستوَيين، تُمكِّن المستودعات التي تقبل تخزين النفط الروسي من تقاضي علاوة” على السعر. ولم يصل رد من إدارة منطقة الفجيرة للصناعة البترولية على طلب للتعليق بهذا الخصوص.
ومن الشركات الغربية القليلة التي تشغِّل صهاريج تخزين في الفجيرة شركة “فتي” (VTTI)، المملوكة جزئيًّا لشركة “فيتول”، والتي صرَّحت أنها تقبل تخزين الوقود الروسي، وشدَّدت على أنَّ “دولة الإمارات العربية المتحدة لا تفرض عقوبات على المنتجات الروسية، وأنَّ العقوبات الغربية لا تنطبق على دولة الإمارات… وبناءً عليه، يُسمح لأصحاب المنتجات إجراء عمليات النقل والتداول للمنتجات الروسية لإدخالها إلى دولة الإمارات العربية المتحدة والمرور عبرها […] ويسمح للشركات تخزين المنتجات الروسية في الإمارات”. ووفقاً للشركة، فإنَّ سقف السعر الذي يُطبَّق على الشحنات، عندما تشتريها أو تبيعها شركة غربية أو عند استخدام شركات الشحن أو التأمين الغربية، لا ينطبق على شركات التخزين.
ومما يدلُّ على انتعاش النشاط في الفجيرة أنَّ شركة “مونتفورت”، التي دخلت حديثاً السوق الإماراتي واختارت دبي مقراً لها، اشترت في شهر مايو من شركة “يونيبر” الألمانية مصفاة نفط في منطقة الفجيرة للصناعة البترولية. ووفقا لثلاثة أشخاص مطلعين على الصفقة، قدَّمت مونتفورت، التي أنشأها في عام 2021 رشاد كوساد، المدير السابق في شركة ترافيجورا السابق، عرضاً لشراء يونيبر تفوَّق على عروض قدَّمتها شركات عديدة منها فيتول، التي تمتلك منشأة مجاورة.
الوضع الروسي هو مجرّد بداية
رفضت شركة مونتفورت التعليق على الصفقة، ولم تزد عن التصريح بأن أنشطة تجارة السلع التي تمارسها في الفجيرة وأماكن أخرى في العالم تحترم “جميع القوانين واللوائح والعقوبات المعمول بها، بما في ذلك قوانين الاتحاد الأوروبي وسويسرا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة”.
ومع أنَّ الحرب في أوكرانيا عجَّلت مثل هذه الاستثمارات في البنية التحتية المادية، إلّا أنّها في الوقت نفسه تعكس اعتقاداً يترَّسخ في دولة الإمارات العربية المتحدة بأنَّ المشهد التجاري العالمي للنفط قد تغير إلى الأبد حتى وإن تلاشت الطفرة التي تحفّزها روسيا.
ويتوقع أحد مسؤولي التداول التنفيذيين المقيمين في دولة الإمارات أن شركات الخدمات المصرفية للسلع الأساسية ستخطو حذو شركات التداول وتنقل نشاطها إلى دبي، حيث تسعى المصارف الإماراتية إلى توفير خدمات أكثر للقطاع، ويقول “يبرر البعض سبب الطفرة على أنه الوضع في روسيا، ولكنه لم يكن سوى البداية”.
وأثبتت دبي بأنها تفتح أبوابها للنفط الروسي، وللعديد من المواطنين الروس، ولكن من المتوقع أن هذا الوضع سيدوم مؤقتاً ما دامت الحرب في أوكرانيا دائرة. أمَّا بالنسبة لعشرات شركات تجارة النفط الغربية، التي تفتح مكاتب تجارية في جميع أنحاء الإمارة، فمن المتوقع أن يكون الوضع دائماً.
ويقول مات ستانلي من شركة كبلر: “لم تعد البيئة هنا انتقالية، كأن يقول المرء لنفسه: ’سأجرب حظي وإذا خسرت المال، فسأعيد المفاتيح وأعود إلى أوروبا‘… الآن يغرس الناس جذورهم هنا. وقد أصبحوا يثقون بالنظام”.
ساهم في إعداد التقرير أناستازيا ستوجني، من ريغا وكريس كوك، من لندن
حقوق النشر محفوظة لفاينانشيال تايمز ليمتد 2023.
ترجمة: ريم حسونة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.