لبنان: لا حرب.. ولا سلام؟
"توقفت الحرب، لكن أين السلام"؟ أبرز سؤال يطرحه اللبنانيون على أنفسهم بعد نحو شهر من "توقّف العداوان" بين "حزب الله" وإسرائيل.
سؤال يبدو معلّـقاً في الهواء بلا جواب، رغم كل الأجواء، ظاهرياً على الأقل، التي توحي بأن لبنان أدار ظهره للحرب وبات جاهزاً لجولة جديدة من السلام.
بعض تظاهرات هذه الأجواء:
• إعلان السيد حسن نصرالله، زعيم حزب الله استبعاده نشوب القتال مجدداً، ودعوته الجنوبيين المهجّـرين للعودة إلى قُـراهم ومُـدنهم، وبدء مسيرة إعادة البناء والإعمار، وهذا الإعلان لحقه بعد أيام فكّ الحصار الإسرائيلي عن لبنان/ جواً وبحراً.
• بدء تدفّـق القوات الدولية على جنوب لبنان بأعداد كثيفة ينتظر أن تصل خلال أسابيع قليلة إلى 15 ألف جندي سينتشرون إلى جانب 15 ألف جندي لبناني في بُـقعة من جنوب لبنان، لا يتجاوز عمقها العشرين كيلومتراً، وهذا، وفق معظم المحللين العسكريين، أكبر بكثير من الحاجيات الأمنية لهذه المنطقة، الأمر الذي يدل على مدى الحرص الدولي على منع تجدد القتال عبر الحدود اللبنانية – الإسرائيلية.
• موافقة سوريا وإيران، وإن مع تحفّـظات علنية وضمنية كبيرة، على القرار 1701، مما سيمكّـن الحكومة اللبنانية من اتخاذ مزيد من الإجراءات لبسط سيادة الدولة على البلاد، بدون اعتراض بارز من أنصار هذين الطرفين في لبنان (أساساً حزب الله).
• وأخيراً، بدء ظهور مُـمانعة قوية لدى قواعد حزب الله الواسعة في القاعدة الشيعية، لفكرة استئناف أي شكل من أشكال استئناف القتال مع إسرائيل، وهذه كانت ردة فعل طبيعية في ضوء الخسائر البشرية والاقتصادية الهائلة التي مُـنيت بها هذه الطائفة خلال الحرب.
تحت السطح
الظاهر على السطح في لبنان إذان، يَـشي بغلبة كفّـة السلام على الحرب. لكن ما يجري تحت هذا السطح يوحي بالعكس تماماً، وهذا على الأصعدة، المحلية والإقليمية والدولية كافة دفعة واحدة.
فعلى الصعيد المحلي، لم تنتَـه الحرب إلى اتفاق سياسي (حتى الآن على الأقل) بين اللبنانيين، كما جرى عام 1989 حين وُلد اتفاق الطائف كثمرة لنهاية الحرب. ما حدث هو العكس: انفجار الخلاف السياسي بين اللبنانيين حول مسألة سيادة الدولة وعلاقتها ببقاء أو عدم بقاء المقاومة.
قوى 14 مارس المعارضة لطهران ودمشق، والتي يُـوالي العديد منها واشنطن وباريس، لا ترى مَـخرجاً من الأزمة الراهنة سوى في تجريد المقاومة من سلاحها وضمّـها إلى الجيش اللبناني في إطار ما تسميه “إستراتيجية دفاع وطني جديدة”. لكن قوى 8 مارس، بزعامة حزب الله، ترفض هذا الطلب وتشترط قبل ذالك “بناء الدولة القوية” قبل البحث بحل المقاومة.
خطب نصر الله بعد وقف القتال صبَّـت في هذا الاتجاه: فهو أوحى بأنه لا يسعى إلى دمج المقاومة بالدولة لخلق “الدولة المقاومة”، بل إلى دمج الدولة بالمقاومة لخلق “المقاومة – الدولة”، وهذه برأي العديد من المحللين قد تكون وصفة ممتازة لحرب أهلية، لأن معظم الدروز والموارنة والسنّة، وحتى بعض الشيعة والتيار العوني، لن يقبلوا بقيام دولة جديدة، يؤسسها ويقودها حزب إيديولوجي أصولي كحزب الله متحالف مع إيران وسوريا، وهو كان غامضاً في موقفه من انتشار القوات الدولية في الجنوب، بعد أن أقَـر في البداية مُـوافقة الحكومة اللبنانية عليها.
ثم، أخيراً، قفز السيد فوق دور الدولة اللبنانية في إعادة البناء، حين ألمح إلى أن المساعدات الإيرانية الضّـخمة المتوقعة لبناء وترميم 15 ألف وحدة سكنية، ستمر عبر الحزب لا الدولة.
بالطبع، هذه المواقف قد تكون تصعيداً تكتيكياً، هدفه منع تحوّل الإنجاز العسكري للمقاومة مع إسرائيل إلى نَـكسة سياسية داخلية، عبر الاستسلام لضغوط 14 آذار. لكن، إذا لم يكن في الأمر تكتيكاً، فسيكون بطن بلاد الأرز مفتوحاً على أحد شرّين مستطيرين، كلاهما يرتبط ارتباطا عميقاً بالصّـراعات الإقليمية والدولية: استئناف لبنان لحربه المنفردة مع إسرائيل أو الحرب الأهلية، وهذا يقودنا إلى التطرق إلى الجانب الإقليمي من الصراع اللبناني.
إسرائيل وسوريا
أول ما يتبادر إلى الذهن هنا، هو مواقف إسرائيل وإيران وسوريا الحقيقية من آفاق الأزمة اللبنانية.
إسرائيلياً، تبدو المواقف مُـلتبسة. وعلى سبيل المثال، رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو واثق بأن ما يجري الآن في لبنان مجرّد هُـدنة ستليها جولات عسكرية أخرى. ومسؤولون عسكريون وسياسيون إسرائيليون آخرون، يؤكّـدون هذا، ويدعون إلى الاستعداد لاستئناف الحرب، في حين أن رئيس الوزراء أولمرت ووزير الدفاع بيرتس يستبعدان في هذه المرحلة الخيار العسكري ويفضّلون عليه الخيار الدبلوماسي.
الحرب اللبنانية – الإسرائيلية لن تُـستأنف عما قريب، ولا حتى بعد سنوات، إلا إذا ما قرّرت سوريا وإيران حرق الأرض تحت أقدام القوات الدولية الآتية لتنفيذ القرار 1701، حينها، ستصبح الجولة الثانية من حرب الأسيرين حتمية، وبأٍسرع مما يتوقع الكثيرون.
حتى الآن، لا يبدو أن دمشق وطهران في وارد اختبار القوة العسكرية الإسرائيلية مجدّداً. فهما، وبرغم ما يعتبرانه انتصارا عسكرياً مجلجلاً لحليفهما الإستراتيجي “حزب الله”، إلا أنهما مضطرتين لمراعاة انغماس هذا الحليف بكُـليته تقريباً في مهمّـة إعادة البناء لإنقاذ قاعدته الشيعية الواسعة من كارثة اجتماعية – إنسانية محقّـقة، وفي ترميم هيكلتيه، العسكرية والمدنية، التي أصيبت بخسائر كبيرة.
وحتى الآن أيضاً، لا يبدو أن إسرائيل مستعدة لاستئناف الحرب، قبل تحديد أسباب الإخفاقات العسكرية التي حلّـت بها، إضافة إلى دراسة الأسلحة التي استخدمها حزب الله، خاصّـة الصواريخ روسية الصنع، سورية التصنيع، التي أدّت إلى مذبحة دبابات الميركافا.
لكن، في وسع تل أبيب أن تفعل شيئاً آخر قد يكون أخطر: انتظار التفاعلات الداخلية اللبنانية لنتائج الحرب والرهان على حرب طائفية أهلية تُـحقق مع عجزت عنه حربها العسكرية. كما في وسع دمشق وطهران الرهان بدورهما على عجز السلطة اللبنانية والقوات الدولية عن تنفيذ القرار 1701 وإنهاء ظاهرة المقاومة.
الخاسر الأكبر
ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني ببساطة أن لبنان خرج من حرب عسكرية مدمّـرة ليدخل في حرب سياسية قد تثبت أنها أكثر تدميراً. حرب تتجاذب فيها قوى إقليمية ودولية عاتية: أمريكا – إسرائيل والغرب، ومعها العديد من الدول العربية الرئيسة في جهة، وإيران وسوريا وحزب الله وحماس، في جهة أخرى. وكل من هذين المحورين يسعى لفرض جدول أعماله، ليس فوق أرض بلاد الأرز فحسب، بل في كل أنحاء الشرق الأوسط.
وبالطبع، سيكون هناك منتصرون في هذه المجابهة الإقليمية – الدولية، كما سيكون هناك مهزومون. لكن لبنان، وكيفما جرت الأمور، لن يكون في عداد المنتصرين، سيكون كالعادة، الدافع الأكبر للفواتير الباهظة للحرب، كما للسلام.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.