لماذا ينقسم العالم بهذا الشكل بشأن الإحتراق النفسي المهني؟
لا يزال الاحتراق النفسي المهني ظاهرة غير مفهومة تماماً من قبل أرباب العمل ومزاولي المهن الطبية، على الرغم من إدراجه مؤخراً ضمن قائمة “التصنيف الإحصائي الدولي للأمراض” من قبل منظمة الصحة العالمية. من جهتها، بدأت سويسرا، حيث تسود الثقافة التي تخشى الفشل، بالتعايش مع هذه الحالة والتعامل معها.
بدا صوت دانيال* مُتهدجاً وهو يتذكر كيف بدأ كل شيء. ورغم مرور ثلاثة أعوام على إصابته بمتلازمة الإحتراق النفسي، إلّا أنَّ الحديث عن هذا الموضوع يعيد إلى ذاكرته موجة من الأحاسيس المؤلمة.
كان السويدي الذي يعيش في سويسرا منذ أكثر من 20 عاماً، يعمل كمندوب مبيعات في شركة للأجهزة الطبية عندما لم يعُد قادراً على النوم. “كانت هذه هي العلامة الأولى، وقد ظهرت قبل أقل من عام من حدوث الإحتراق النفسي الفعلي”، كما أخبر swissinfo.ch.
بعد مرور ستة أشهر، بدأت حماسته للعمل في التراجع. “أتذكر أن الشعور بالضياع راودني عندما كنت مشاركاً بإحدى المؤتمرات في نهاية الصيف. كان الأمر أشبه بحضور الفيلم الخطأ. لقد بدأت بالابتعاد عن الأصدقاء والأقارب، وباتت المشاكل اليومية الصغيرة تمثل مشكلات كبيرة بالنسبة لي”. عقب ذلك، ذهب دانيال لرؤية طبيب نفسي سأله عما إذا كانت لديه أفكار انتحارية. لكن دانيال نفى هذا الأمر، وقال بأنه يشعر باستزاف طاقته وبصعوبة في التركيز وانعدام التحكم.
أخذ الأب لولدين، عقب ذلك، إجازة قصيرة، لكنه عاد إلى روتين عمله اليومي، الأمر الذي أوصله إلى نقطة الانهيار والدخول إلى غرفة الطوارئ في نهاية المطاف. “إن الاجهاد والحرمان من النوم الذي تعانيه يجعلك تعتقد أنك لن تتمكن من البقاء على قيد الحياة”، كما أوضح.
هل أنا مصاب بمُتلازمة الإحتراق النفسي؟
يُعتَبَر الطبيب النفسي الأمريكي الألماني المولد هربرت فرويدنبرغَر أول من جاء بمصطلح الاحتراق النفسي إلى المجال الأكاديمي في عام 1974، عندما قام بوصف الحالة العقليةرابط خارجي لبعض زملائه، كـ “حالة من الإرهاق الذهني والبدني الناجمة عن الحياة المهنية للشخص”. ومنذ ذلك الوقت، ظهر هناك عددٌ من البحوث المُستفيضةرابط خارجي حول المتلازمة في جميع أنحاء العالم.
تشير معظم المطبوعات المتعلقة بالمتلازمة إلى مراحل مختلفة من الاحتراق النفسي أو ما قبل الاحتراق النفسي، تبدأ بمرحلة انخراط نشطة بل ومفرطة حتى، تليها مرحلة تراجع تنتهي بإرهاق شديد واكتئاب وفقدان المنظور.
كيف يمكن تعريف الاحتراق النفسي؟
بالنسبة لـ دانيال، لم يكن هناك شك في معاناته من متلازمة الاحتراق النفسي. إلّا أنَّ المجتمع الطبي السويسري لا يزال غير متيقن من معنى هذه الحالة التي أصبحت شائعة لدى الكثيرين، وحول مسبباتها، وكيفية علاجها.
“يعتقد الناس أنك لا يمكن أن تُصاب بالمرض بسبب العمل. وفي معظم الحالات، يشار إلى هذه الحالة كشكل من أشكال الاكتئاب”، كما يقول.
تعُتبَرَ مُتلازمة الاحتراق النفسي مَرَضاً مهنياًرابط خارجي في تسع دول أوروبية على الأقل، من بينها فرنسا والسويد وهولندا. وفي الولايات المتحدة، تُظهر بعض الدراسات الاستقصائية أن 77% من المهنيينرابط خارجي قد عانوا من الاحتراق النفسي.
مع ذلك، يحتدم النقاش حول ما إذا كانت هذه الحالة مرضاً أو مجرد حالة نفسيةرابط خارجي. كما جادل طبيب نفسي أمريكي مؤخراًرابط خارجي بأن ظاهرة تنتشر بمثل هذا النطاق الواسع يمكن أن تفقد مصداقيتها، لأنها تبدو كأنها تحوّل المعاناة اليومية إلى حالة طبية تستوجب الرعاية.
في يوم 27 مايو، وبعد عام من توصيات خبراء الصحة العالميين، أعلنت منظمة الصحة العالمية (WHO) التي تتخذ من جنيف مقراً لها عن إدراجها للاحتراق النفسي المهني (أو الانهاك المهني) ضمن قائمة التصنيف الإحصائي الدولي للأمراضرابط خارجي (ICD-11)، مما يعني رفع درجتها من حالة من الإرهاق إلى متلازمة ناتجة عن الإجهاد المُزمن في مكان العمل.
لكن، وكدليل على الارتباك حول المصطلح، أوضحترابط خارجي المنظمة لوسائل الإعلام في اليوم التالي أن الاحتراق النفسي ليس مرضاً كما أشارت العديد من وسائل الإعلام، ولكنه “عامل مؤثر على الصحة” مرتبط بالعمل.
هذا التطور يتسم بالأهمية في العديد من البلدان، بما في ذلك سويسرا، حيث يمكن أن يؤدي تصنيف الاحتراق النفسي كمرض إلى تغيير الأسلوب الذي يَنظَر به مقدمو خدمات التأمين الصحي إلى هذه الحالة. وفي الوقت الراهن، يناقش البرلمان الفدرالي مبادرةرابط خارجي من شأنها أن تصنف الإرهاق باعتباره مرض مهني، مما يضمن أن يكون العلاج مغطى من خلال التأمين ضد الحوادثرابط خارجي في مكان العمل.
من جهتها، تعتقد الطبيبة باربرا هوخشتراسَّررابط خارجي أن منظمة الصحة العالمية تسير في الاتجاه الصحيح من خلال تعريفها لهذه المتلازمة. وقد بدأت الطبيبة النفسية برنامجاً بشأن الاحتراق النفسي في عيادة ميرينجن (Meiringen Clinic) – إحدى العيادات الطبية العشر الكبرى التي تقدم العلاج لهذه الحالة في سويسرا.
وتُعَرِّف هوخشتراسَّر متلازمة الاحتراق النفسي على أنها “تجربة يمر بها الأشخاص في مكان العمل يشعرون خلالها بالإنهاك التام بسبب الإجهاد المزمن المرتبط بالعمل”. وهي تقول إن هذه الحالة ليست مرضاً ولكنها “قد تؤدي إلى خطر ظهور اختلالات جسدية وأمراض نفسية أخرى لا سيما الاكتئاب”.
وتشدد الطبيبة النفسية على كون المُعاناة حقيقية، وعلى أهمية علاجها. وهي تقول ان الاحتراق النفسي “عميق جداً”، حيث يستغرق الشفاء وقتاً طويلاً بسبب عدم إمكانية علاج الحالة بالأدوية.
تغيير ثقافة العمل
يتطرق النقاش حول المبادرة في البرلمان الفدرالي في بعض جوانبه إلى مسألة إيقاع اللوم على مكان العمل ومدى مسؤوليته عن انتشار الاحتراق النفسي. وقد واجهت المبادرة مقاومة قوية من قبل السياسيين الذين يقولون بأن من الصعب إثبات وجود علاقة سببية بين الاحتراق النفسي والنشاط المهني. وهم يشيرون إلى وجود عوامل خارجية أخرى للاحتراق النفسي غالباً، بما في ذلك العلاقات الشخصية.
وكما تعتقد هوخشتراسَّر، فإن حَجم المهام، بالإضافة إلى الإفتقار للاستقلالية والمكافآت وروح الفريق في مكان العمل، تلعب دوراً مهماً بالتأكيد.
ولا يراود الطبيبة النفسانية أي شك في أن ثقافة العمل التي تتوقع الاستعداد والنشاط الدائم من الموظفين، وتطالبهم بالمرونة بشكل متزايد، تتحمل مسؤولية جزئية في ارتفاع عدد المصابين.
من جانبها، كانت كلوديا كراتس تعمل في مجال الاتصالات العالمية في بنك كريدي سويس لسنوات عديدة، وهي تعمل اليوم كمدربة مهنية للتعامل مع الارهاق في العملرابط خارجي. وهي تقول إن بإمكان أرباب العمل فعل المزيد لمنع الاحتراق النفسي، بما في ذلك التدريب على القيادة المرنة لمعالجة كيفية تعامل المديرين مع موظفيهم وتواصلهم معهم. ووفقاً للمدربة وخبيرة الاتصالات، فأن الأشخاص الملتزمين بعملهم بدرجة كبيرة، هم الأكثر عرضة للإصابة بالاحتراق النفسي.
هذا الرأي تتفق معه هوخشتراسَّر، موضحة أن المسألة غالباً ما تتعلق بالشخصية وأسلوب التعامل والتأقلم، لا سيما بين العاملين في الإدارة الوسطى. وكما تقول:”من الواضح بأن الأشخاص الذين ينشدون الكمال هم أكثر عرضة للإصابة [بالاحتراق النفسي] “.
ليست ساعات العمل الطويلة بالأمر غير المعتاد في سويسرا، ولكن دولة جبال الألب معروفة أيضاً بجودة الحياة العالية، وفترة عطلة متساوية مع البلدان الأوروبية الأخرى.
“في سويسرا، لا يتم التسامح مع الفشل“، تقول كراتس. وهي تشير إلى أن دولاً أخرى – مثل الولايات المتحدة – أكثر تسامحاً في هذا المجال، بل أنها تنظر إلى الفشل بشكل إيجابي حتى.
“يعتقد الناس بأن عليك أن تفعل كل شيء بشكل صحيح بنسبة ألف بالمائة، لقد نشأنا هكذا. وإذا فشلت – حتى ولو مرة – فإنك تعاني من مشكلة”.
بدوره يضيف بير ريغلر الذي يعاني من الاحتراق النفسي: “الكفاءة مهمة للغاية في سويسرا. عليك أن لا تُضيع الوقت، وليس لديك الوقت للشعور بأي شيء. أنت تدور داخل عجلة هامستر (نوع من القوارض)، وبمجرد أن يتم وصمك، تجد نفسك في الخارج”.
ازدهار العلاج
تتحدث العديد من الشخصيات السويسرية العامة، مثل البرلمانية ناتالي ريكلي العضوة في حزب الشعب السويسري اليميني المحافظ، عن تجربتها مع الاحتراق النفسي علانية. وقد ساعد هذا الأمر على زيادة الوعي بهذه الملازمة والحد من الوصمة والممارسات التمييزية المرافقة لها.
وكاستجابة لهذا الوضع، ظهر عدد من العيادات لمعالجة الاحتراق النفسي، بالإضافة إلى المدربين في مجال تحقيق التوازن بين العمل والحياة ومجموعات الدَعم في جميع أنحاء البلاد.
لكن إتمام العلاج والعودة إلى الحياة اليومية عَقب ذلك لا يكفي غالباً، كما تقول كراتس. “إذا رجع الأشخاص إلى نفس الروتين في مكان العمل، فقد يقعون في نفس الفخ مجدداً. وهي تلخص نصيحتها بكلمتين هما: “لا تفعل شيئاً”.
وكما توضح: “نحن فى عجلة من أمرنا دائماً في أوقات فراغنا. خَصِّص لنفسك يوماً أو يومين كل بضعة أسابيع لا تخطط فيها لأي شيء. استيقظ فقط واستمع إلى شعورك”.
العلاج والتكاليف
هناك مجموعة متنوعة من خيارات العلاج لمتلازمة الاحتراق العصبي في سويسرا. وهذا يشمل عيادات خاصة فاخرة مثل “باراسيلسوس ريكوفري” (Paracelsus Recoveryرابط خارجي) في زيوريخ التي تقدم خدماتها للمدراء التنفيذيين والشخصيات العامة. وتوفر هذه العيادة السرية التامة والمعاملة المتميزة، بسعر 80,000 فرنك سويسري (80,650 دولار) في الأسبوع، تُدفع مباشرة، ولا يتم سدادها لاحقاً من قبل التأمين الصحي.
وكانت عيادة “مايرينغَن” (Meiringen Clinicرابط خارجي) التي تقع في منطقة نائية وخلّابة من جبال الألب في برن، الأولى في تقديم خدمات شاملة لعلاج الاحتراق النفسي في عام 2004. ويمضي معظم الأشخاص بين ثلاثة إلى ستة أسابيع في العيادة، يتلقون خلالها علاجاً يشمل الجوانب الطبية والنفسية، بالإضافة إلى ممارسات أخرى مثل التأمل، والوعي التام (أو اليقظة)، والطب الصيني وحتى ركوب الخيل.
وكما توضح هوخشتراسَّر، فإن الأشخاص يسعون إلى طلب المساعدة الطبية في مرحلة متأخرة في كثير من الأحيان وهي تشير إلى أن هؤلاء غالباً ما يكونون قد وصلوا إلى مرحلة الانهيار أو ما تسميه بـ”الاكتئاب المُنهِكرابط خارجي“، وهو مصطلح صاغه الطبيب النفسي السويسري بول كيلهولتس.
* دانيال: اسم مستعار، والشخصية الحقيقية معروفة لدى هيئة التحرير.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.