مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

من اغـتـال جبران التويني؟

أمام مبنى دار النهار وسط العاصمة بيروت، شاب لبناني يوقد شمعة حذو صورة للصحافي والنائب جبران تويني الذي اغتيل صبيحة 12 ديسمبر 2005 Keystone

"هناك وسيلتان محتملتان لفهم هذا التطور: الأولى، هي أن سوريا مراقبة ومؤطّرة (framed) عشية ذهاب تقرير دتليف ميليس إلى الامم المتحدة وبالتالي لا يمكن أن تقدم على عملية الاغتيال.

والثانية، أن سوريا تعتبر أنها حشرت في الزاوية، وبأن أميركا تعمل لفرض عقوبات عليها. ولذا فهي ترد الأن بعنف لتقول بأنها لن تسقط بسرعة”.

هكذا أطل جوشوا لانديس، المؤرخ الأميركي المتخصص بشؤون سوريا والموجود الان فيها بمنحة بحثية من مؤسسة فولبرايت للأبحاث، على جريمة إغتيال النائب والصحافي ورئيس مجلس إدارة صحيفة “النهار” الليبرالية النافذة، التي تعتبر في آن مدرسة الصحافة اللبنانية وأمها (تأسست في أوائل ثلاثينات القرن العشرين).

كلا الوسيلتين اللتين اوردهما لانديس تتمتعان بنقاط قوة تكاد تكون متساوية من حيث منطقيتها.

فدمشق كانت تعيش قبل وصول تقرير ميليس، رئيس لجنة التحقيق الدولية بإغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، هاجس العقوبات الدولية عليها، وتنشط في كل الاتجاهات لمحاولة تجنّب هذه الاجراءات، التي ستعني بالنسبة لها بداية العد العكسي لإسقاط النظام.

فهل من المعقول، يقول أنصار هذه المدرسة، ان تقدم سوريا على إغتيال شخصية كالتويني تعتبر من أبرز الشخصيات القريبة من اميركا في لبنان، قبل ساعات من تقديم ميليس لتقريره، مما سيؤدي إلى الأرجح إلى إضعاف المواقف الروسية – الصينية المدافعة عنها في مجلس الأمن وإلى تعزيز الإندفاعة الأميركية- الفرنسية المنقضة عليها؟

ثم إنه من المعروف منذ وقت طويل أن دار “النهار” بالتحديد، التي تملكها عائلة التويني، تتمتع بما يشبه الحصانة الغربية الكاملة لها. وهذا ما جعلها قادرة على ممارسة حرية التعبير الليبرالية حتى الثمالة برغم فوضى الحرب الأهلية اللبنانية أولاً خلال الفترة من 1975 إلى 1989، ثم تحت أنف اجهزة الأستخبارات السورية ثانياً من العام 1989 وحتى الان.

وكان ملفتاً، على أن حال، ان تنطلق الدعوة لمغادرة القوات السورية لبنان من “النهار” بالذات، حين كتب جبران التويني افتتاحية العام 2000 في شكل رسالة مفتوحة إلى الرئيس السوري بشار الأسد، قال فيها إن انسحاب قوات الأحتلال الأسرائيلي من جنوب لبنان، بات يحتم إنهاء الوجود العسكري السوري فيه.

فهل من المعقول ان تقدم دمشق على قتل رأس “النهار”، وهي تدرك انها تتجاوز بذلك كل رؤوس أقلام الخطوط الحمراء الأميركية؟

أكثر وأكثر: ألم يكن في وسع سوريا لو أرادت تصفية التويني، أن تنتظر 24 ساعة فقط إلى حين انتهاء مناقشة مجلس الأمن لتقرير ميليس، كي تقدم على هذه الخطوة؟ وإذا ما كان البعض يعتقد بأنها أرادت من هذا الإغتيال توجيه رسالة “مجابهة نهائية” إلى واشنطن وباريس، فلماذاً تواصل إذن إبداء الأستعداد للتعاون مع لجنة ميليس وترسل خمسة من قادة أجهزتها الأمنية إلى فيينا للتحقيق معهم، هذا جنباً إلى جنب مع المناشدات التي تطلقها في شنى الأتجاهات للعديد من الاطراف (قطر، الأردن، مصر، السودان، روسيا، إلخ.. ) للتوسط بينها وبين واشنطن؟

اللاعقلانية

كما هو واضح، وجهة النظر الأولى تستند إلى تبريرات عقلانية قوية. وتزداد هذه التبريرات قوة حين يعرب أصحابها عن اعتقادهم بأن جهاز الأستخبارات الأسرائيلية(الموساد) ربما هو الذي قام بإغتيال التويني، بهدف قطع الطريق على أية صفقة محتملة بين دمشق وواشنطن تؤدي إلى إخراج النظام السوري من ورطاته القاتلة الراهنة.

ويعيد هؤلاء إلى الأذهان أن الدولة العبرية لها باع طويل في مثل هذه العمليات. فهي عمدت في أوائل الخمسينات إلى تفجير السفارات الأميركية والبريطانية في القاهرة لمنع أي تقارب محتمل بين النظام الناصري المصري الجديد وبين الغرب. كما انها نفذت في لبنان طيلة ربع القرن المنصرم سلسلة إغتيالات وتفجيرات مختلفة لسكب مزيد من الزيت على نيران الحروب في لبنان.

بيد ان أصحاب وجهة النظر الثانية يرفضون هذا “الرأي العقلاني” جملة وتفصيلاً. وهم ينطلقون هنا من نقطة لا تقل قوة: النظام السوري لم يعد عقلانياُ منذ أن فقد سيطرته على لبنان، وبات يشعر بأنه سيفقد قريباً سيطرته على دمشق ذاتها. وهذا ما يدفعه الأن إلى سلوكيات “غريبة” أو “منافية للعقل”.

ويستشهد هؤلاء هنا بكلمات الرئيس السوري نفسه. ففي خطابه الشهر الماضي في جامعة دمشق، قال الأسد بوضوح ان الأميركيين يضعونه امام خيار “القتل أو الإنتحار” ، وانه في هذه الحالة لن يختار الإنتحار و “لن يحني رأسه”. ثم في لقائه قبل يومين مع التلفزيون الروسي، قال بوضوح أن فرض العقوبات على سوريا “سيزعزع ليس فقط إستقرارها وإستقرار المنطقة، بل العالم كله”.

كل هذا، برأي وجهة النظر الثانية، لغة إنتحارية تقود إلى سلوكيات إنتحارية، مثل إغتيال شخصيات بارزة لها وزن كبير في الغرب كرفيق الحريري وجبران التويني.

المكتوب والعنوان

أي وجهتي النظر على حق؟

الاجابة صعبة بالطبع. فالأمر يتعلق بتحقيقات جنائية وفق أرقى المستويات التكنولوجية المتطورة لمعرفة الحقيقة. هذا إضافة إلى أن عمليات إستخباربة من هذا النوع، تكون عادة أشبه بـ “الجريمة الكاملة” أو “المثالية” بسبب حرفية منفذيها ودقتهم.

لكن، وإذا ما كانت الاجابة صعبة، إلا ان قراءة المكتوب من عنوانه ليست كذلك.

بكلمات أخرى: الطرف الذي سيبرز خلال الأيام والأسابيع المقبلة على انه المستفيد الأول من عملية إغتيال التويني، سيكون على الأرجح هو الطرف المنّفذ أو المشارك في هذه العملية.

لكن الأطراف الدولية والإقليمية المحلية المعنية، لم تكن البتة في وارد انتظار معرفة الحقيقة لاستثمار هذا التطور الجديد، بل سارع كل منها لإدارجه في جداول أعماله الخاصة بلبنان وسوريا:

– فقد تم نقل الحدث سريعاً إلى مجلس الامن الدولي، الذي عقد مشاورات مساء الأثنين 12 ديسمبر أصدر على إثرها بياناً دان فيه بـ “أشد العبارات” هذا “التفجير الأرهابي لأحد كبار المناهضين لسوريا”، على حد التعبير الوارد في البيان.

– وحرص الرئيس الأميركي بوش سريعاً أيضاً على وضع عملية الإغتيال في إطار المحاولات “لإخضاع لبنان للهيمنة السورية وإسكات الصحافة اللبنانية”، مطالباً سوريا بـ “الإذعان لكل القرارات الدولية وإنهاء تدخلها في لبنان مرة وإلى الأبد”.

– أما وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس فلم تكتف بإدانة “التدخل السوري المستمر في لبنان”، بل وعدت كذلك بأن تعمل الولايات المتحدة مع شركائها في مجلس الامن وفي المنطقة لمحاسبة مرتكبي الجرائم”.

– ونقلت “واشنطن بوست” عن مصادر مطلعة أن فرنسا قررت بعد إغتيال التويني “المضي قدماً في جهودها ضد سوريا في مجلس الامن”. كما أن الرئيس جاك شيراك بعث برسالة إلى عائلة التويني قال فيها إن الإغتيال “فرصة لمضاعفة الجهود كي تنفذ قرارات مجلس الأمن بحرفيتها”.

هذا على الصعيد الدولي. أما على المستوى الأقليمي فقد لزمت الدولة العبرية الصمت، فيما كانت الدولة السورية تحّرك كل ترسانتها الإعلامية والسياسية لإعلان براءتها من دم جبران التويني، ملمحة إلى دور أعداء لبنان (أي إسرائيل) في ذلك.

وكما في الخارج، كذلك كان الأمر في الداخل اللبناني.

فقد سرعّت عملية الأغتيال عملية الإستقطاب في لبنان بين الغالبية النيابية المعارضة لدمشق وبين مؤيديها في حزب الله وحركة أمل الشيعيتين، فأصدر مجلس الوزراء اللبناني مساء الإثنين 12 ديسمبر قراراً يدعو فيه مجلس الأمن إلى تشكيل “محكمة ذات طابع دولي” لمقاضاة قتلة الحريري، وإلى إجراء تحقيق دولي آخر حول إغتيال التويني. وقد أسفر هذا القرار، الذي اتخذ بأغلبية الأصوات، إلى انسحاب الوزراء الشيعة من الجلسة.

وبرغم أن هذا الأنسحاب لم يعن الإستقالة ولم ينسف، بالتالي، حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الذي استبق جلسة الحكومة بلهجة تحد قوية بقوله ثلاثاً “لن نرضخ”، إلا أن الوضع السياسي اللبناني بات الان أشبه بطنجرة ضغط (بريستو) ينطلق منها دوي صفير تحذيري حاد.

لكن الدوي التحذيري لا، ولن يقتصر، على لبنان، بل سيطال سوريا أيضاً، سواء كانت في وضعية المراقبة والتأطير الدفاعية التي أشار إليها جوشوا لانديس، أو في وضعية الهجوم والإنتحار التي يتحدث عنها الآن خصومها اللبنانيون، وعلى رأسهم وليد جنبلاط.

سعد محيو – بيروت

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية