من “الأساليب الإكراهية” إلى “تقليم الأظافر”
أصبحت الوكالة الدولية للطاقة الذرية فاعلا دوليا مؤثرا بفعل بروز توازنات دولية جديدة تسمح لها بلعب دور ما بدرجات تتفاوت من حالة لأخرى.
وقد أدى الوضع الجديد إلى تصرفها بشكل يمزج بين الصرامة الفنية، والواقعية السياسية من أجل الحفاظ على موقع لها في عالم يتم فيه علنا تقليم أظافر المنظمات الدولية.
تحوّلت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى “لاعب شرس” على الساحة العالمية. فقد تصاعدت قوّتها بشكل غير مسبوق في الفترة الأخيرة، بحيث كانت قادرة على التكشير عن أنيابها لبعض الدول كما حدث مع إيران وكوريا الشمالية وقبليهما العراق، وتمّ التفكير داخلها فيما هو أبعد من ذلك.
إن قوة “الوكالة” لم تكُـن تستند على ما يُـتيحه لها نظامها الأساسي أو نظام ضماناتها، بل على ما يوفره لها “العامل الدولي”. لذلك، اصطدمت بضوء أحمر عندما وصلت مسيرة منع الانتشار النووي إلى المحطة الليبية، إلا أن الوكالة تمكّـنت، على ما يبدو، من تجاوز المشكلة دون صِــدام.
كان الدور التقليدي للوكالة، التي أنشئت عام 1957، قبل التوصّـل إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية بعقد كامل، يتمثّـل في تشجيع الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، وضمان عدم تحول تلك النشاطات إلى اتجاهات عسكرية، مع الإشراف، بعد عام 1970، على التزام الدول بتطبيق المعاهدة، وظل هذا الوضع قائماً حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي على الأقل، إلا أن ثمة مؤشرات متتالية بأن تحولاً كبيراً قد حدث.
لقد أصبحت الوكالة أحد الأطراف الأساسية في التعامل مع مشكلة الطموحات النووية العسكرية لكوريا الشمالية، كما تحوّلت إلى فاعل أساسي فى مشكلة النشاطات النووية العراقية، ثم بدأت تمارس دوراً رئيسياً في إدارة مشكلة البرنامج النووي الإيراني، إلى الحد الذي أصدرت فيه إنذاراً لإيران بالكشف عمّـا لديها قبل تاريخ محدد.
وقد شهد اجتماعها السنوي الأخير عام 2003، محاولة لفرض “البروتوكول الإضافي” كأساس لنظام ضماناتها على الدول الأعضاء في معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، مما يؤكّـد أن اتجاها إكراهيا واضحا أصبح يُـسيطر اليوم على توجّـهاتها.
صلاحيات جديدة
إن المسألة كلّـها تتعلّـق بظروف دولية أتاحت للوكالة الدولية أن تُـعيد اكتشاف قُـدراتها وصلاحياتها. فقد تعرّضت تلك “الوكالة المسالمة” لحرج شديد في بداية التسعينيات مرتين.
الأولى، عام 1991 عندما أعلنت أنه لا تُـوجد لدى العراق نشاطات نووية عسكرية، قبل أن يكتشف من خلال إفادة عالم نووي عراقي مُـنشق، أن صدام حسين قد أقام برنامجاً نووياً عسكرياً هائل الحجم بتكلفة 10 مليار دولار.
والثانية، عام 1993 عندما حاولت على استحياء استخدام “صلاحيات نائمة” في تفتيش منشآت نووية كورية شمالية (مفاعل يونجبيون) يوجد شك في أنها تتضمّـن نشاطات محظورة، على نحو أدّى إلى قرار بيونغ يانغ الشهير بالانسحاب من معاهدة منع الانتشار النووي، على نحو خلق اتجاه داخل الوكالة بأن الأمور لن تسير بتلك الصورة.
بدأ المسؤولون في الوكالة يشعرون بمدى ما يُـمكن أن تصل إليه قُـدراتهم المهنية، عندما أتِـيحت لهم الفرصة لممارسة أعمال تفتيش حقيقية داخل العراق، استناداً إلى قرار وقف إطلاق النار رقم 687 الصادر عن مجلس الأمن عام 1991، والذي كان يُـتيح لهم العمل في “أي وقت، وأي مكان” باستخدام أية أساليب يرونها ضرورية.
لكن المشكلة، أن ما قاموا به لم يكن يستند على نُـظم ضماناتهم الخاصة، وإنما، كما سبق القول، على قرار من مجلس الأمن، كما أن ما كانوا يقومون به لم يكن أيضا يستند إلى معلوماتهم الخاصة، بل على معلومات وفّـرتها استخبارات الدول، وكانت هناك تهديدات عسكرية مُـسلّـطة على العراق من جانب مجلس الأمن والولايات المتحدة في حالة عدم تعاونه معها.
صلاحيات كامنة
وفى تلك الفترة، تم تشكيل مجموعات عمل في إطار برنامج 93 + 2 لصياغة نموذج عمل جديد على غرار ما حدث في العراق، ثم التوصّـل إليه عملياً عام 1998، وعُـرف باسم “البروتوكول الإضافي”، الذي مثّـل رد الوكالة على عجز بداية التسعينيات.
لكن بعيدا عن ذلك “البروتوكول”، كانت لدى الوكالة صلاحيات كامنة لم تمكّـنها الظروف الدولية أبداً من استخدامها ضد أية دولة بفاعلية، وهي نظام التفتيش الخاص.
فالوكالة تقوم عادة بتطبيق نظامين للتفتيش على الدول التي تنضَـم إلى معاهدة منع الانتشار النووي هما: “التفتيش المحدد” الذي يتِـمّ بغرَض التأكّـد من معلومات تقدّمها الدول ذاتها بشأن ما تقبل تفتيشه بعد انضمامها “للمعاهدة”، والتفتيش الروتيني الذي يُـقام بشكل دوري على المنشآت التي يتم رصدها في اتفاقية الضمانات بين الوكالة وكل دولة عضوة في المعاهدة من خلال إجراءات معيّـنة تتضمّـن تحديد الموعد، وأماكن التفتيش مسبقاً.
لكن، وفي حالة وجود شك في أن الدولة المعنيّـة تُـمارس نشاطات محظورة، فمن حق الوكالة أن تطلب القيام بعمليات “تفتيش خاصة” لمواقع غير متضمنة في اتفاق الضمانات، وهو ما لم تطبّـقه الوكالة، إذ أنها كانت تعلم أن الاقتراب من تلك المساحة قد يؤدّى بالدولة المعنية إلى الرفض والانسحاب، كما فعلت كوريا الشمالية عام 1993، وكما فكّـرت إيران في بداية الأزمة الحالية، قبل أن يتحوّل موقفها نحو الاتجاه الآخر.
تسييس أم حِـرفية؟
خلال السنوات الأخيرة، توضّـح للوكالة أنها يمكن أن تلوح بأظافرها. فالظروف الدولية تُـمكنها من القيام بما لم تكن قادرة على القيام به من قبل، إذ عاد المفتشون إلى العمل في العراق قبل الحرب، وِفق قرار أكبر قوة من مجلس الأمن، وبدت كوريا الشمالية أكثر استعداداً للتجاوب معها.
كما أن إيران كانت قد اتخذت قراراً استراتيجياً بالتعاون معها، أو على الأقل عدم الاصطدام بها. وبالتالي، بدأت الوكالة، بدعم أمريكي قوي، في استخدام قدراتها الجديدة، وهي “التفتيش الخاص” و”البروتوكول الإضافي”، و”قرارات مجلس الأمن”، على نحو، أثار على نطاق واسع، مسألة أن هناك عملية “تسييس” تحكم عملها، إلا أن الواقع يشير إلى ما يلي:
أولا، أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد بدأت بالفعل في الاتجاه نحو استخدام أساليب إكراهية في إدارة المشكلات النووية القائمة، استناداً إلى أدوات مختلفة، كقرارات مجلس الأمن أو صلاحيات التفتيش الخاصة أو أطر البروتوكول الإضافي.
وقد وظفت في هذا الإطار ما تُـتيحه لها الظروف الدولية، كما تجاوبت مع الضغوط الأمريكية في بعض الحالات، بحكم تمكن الولايات المتحدة من التأثير على قرارات مجلس المحافظين. لكن الحدود، ظلت بالنسبة للوكالة الدولية واضحة، وهي استخدام “الأساليب” المُـتاحة فقط وبشكل منضبط.
فقد عمدت إدارة الوكالة على التحرك باستمرار نحو الدول المستهدفة بغرض توضيح الصورة للمسؤولين فيها، والتوصّـل إلى تفاهمات حول المصادر المحتملة للمشكلات. ولم يحدث أن اتخذت مواقف تتّـسم بالشطط، كما لم يتم رصد استفزازات أو تجاوزات مُـتعمدة من جانب المفتشين التابعين لها.
ثانيا، أنها لم تدفع في حالة كوريا الشمالية في اتجاه تحويل المشكلة إلى مجلس الأمن، الذي كان من المُـمكن أن يطرح مسألة الإجراءات العقابية ضد بيونغ يانغ. وصحيح أن روسيا والصين كانتا ستقفان في مواجهة ذلك، لكن مجرد نقل المشكلة إلى مجلس الأمن كان سيؤدى إلى خلق واقع جديد، وفضّـلت الوكالة أن تدعم اتجاه الحل السياسي، بدلاً من العقاب القسري. لذا، تخلّـت عن مكانها في الوقت المناسب.
وفى الواقع، فإن المشكلة الكورية الشمالية كانت تُـدار بشكل كامل خارج الوكالة، على الرغم من أنها اخترقت التزاماتها الدولية. فقد كانت هناك ضغوط متبادلة ثُـنائية بين واشنطن وبيونغ يانغ، تُـمارس خلالها كافة ألعاب القوة، وتتدخّـل الوكالة فقط حين يُـسمح لها بذلك.
ثالثا، فإن الوكالة تعاملت مع المشكلة العراقية بحرفية عالية، إذ أنها عملت على تطبيق قرار مجلس الأمن الخاص بالعراق بصرامة، رغم أنها قاومت الضغوط الأمريكية الخاصة باستجواب العلماء خارج العراق، وتسريع الجدول الزمني لعمليات التفتيش.
لكن الأهم، أنه لم يحدث أن تمّـت صياغة التقارير التي قدمها الدكتور محمد البرادعي في مجلس الأمن حول نشاطات العراق النووية، بصورة تقدم مُـبرراً لحرب ضد العراق. فقد كانت إدارة الوكالة أمينة في رصد نتائج عملية التفتيش استنادا إلى رصد الوقائع والتساؤلات، دون إبداء أية تقديرات محددة، بصرف النظر عن الأساليب التي استُـخدمت داخل العراق.
رابعا، أن الوكالة تعاملت مع المشكلة الإيرانية عبر “رؤية سياسية” منضبطة وليس عبر توجه عقابي. فما قامت به إيران من اختراق لالتزاماتها الخاصة بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، كان يستوجب التوجّـه إلى مجلس الأمن، خاصة ما يتّـصل بالحصول على وقود نووي وبرنامج تخصيب اليورانيوم، إلا أنها ظلّـت تدفع في اتجاه التعامل مع إيران عبر اتصالات مستمرة، وقرارات صارمة، تعبّـر عن حجم المشكلة دون تصعيد، وإتاحة عدة خيارات لإيران طوال الوقت، لكن ليس إلى ما لا نهاية.
وكانت التصريحات الصادرة عن الوكالة تحاول توضيح الصورة (السيئة عمليا) على ما هي عليه، دون أن تقدم مبررا لأي طرف، إيران أو الولايات المتحدة، لاستخدامه في إدارة صراعه مع الطرف الآخر.
والمضمون، هو أن الوكالة كانت تُـدرك ما يُـحيط بها جيدا. لذا، اقتصرت الشراسة على التطبيق الفني لما يتم التوصل إليه سياسيا أو لما تتيحه الأوضاع السياسية المحيطة بعملها، حفاظا على دورها على الأقل.
الحالة الليبية
كانت المُـعادلة التي حددتها الوكالة لنفسها تسير بشكل جيد دون أن يطرح أحد إشكاليات جوهرية بشأنها. فقد كانت إدارتها تقوم بتوظيف فرصة تاريخية لتطوير موقعها للقيام بدور قوي لا يُـثير التساؤل حول ما إذا كان ذلك يتم في إطار ما يُـسمى تقليديا بـ “الإطار الدولي” المرتبط بنظام ضمانات معاهدة منع الانتشار النووي، أم أنه يتم في إطار “الإطار المنفرد” المتعلق بسياسة الولايات المتحدة لمكافحة الانتشار النووي. لكن ضربة صغيرة تحت الحزام وجّـهت إليها من حيث لا تتوقّـع، وهو واشنطن، عندما بدأت مشكلة ليبيا النووية في الظهور.
لقد تمت “عملية ليبيا” عبر تسعة أشهر كاملة، لم تكن الوكالة الدولية طرفا فيها، على الرغم من أن إدارتها حاولت أن توحي بغير ذلك. فقد اقتصرت الأطراف على الولايات المتحدة وبريطانيا وليبيا، وبعض الدول الأخرى التي قدّمت بعض “التسهيلات”، وجاء دور الوكالة بعد إعلان العقيد القذافي التخلي عن برامج أسلحة التدمير الشامل، لتجد نفسها في مواجهة إطار يختلف تماما عن المشكلات السابقة.
لم تكن هناك حاجة حقيقية للوكالة في “إدارة الأزمة” بفعل عدم وجود أزمة، وربما لم تكن هناك حاجة للتفتيش أصلا، في ظل قيام ليبيا بفتح كل الملفات، وبالتالي، كان دور كوادر الوكالة هو العمل فقط كخبراء فنيين في التحقق والتفكيك، إلا أن ما حدث هو أن الوكالة حاولت التعامل مع الحالة الليبية كمشكلة ما.
“لا ضرر ولا ضرار”
وهنا يصعب حصر كافة عناصر المأزق الذي واجهته الوكالة مع أطراف المشكلة أو واجهته تلك الأطراف مع الوكالة. فقد كان عليها أن تتغاضى عن أن ليبيا انتهكت معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، كما بدأت تصدُر عنها تقديرات لمدى ما حقّـقته ليبيا من تقدم (عدم تقدم في الواقع) نووي تختلف تماما عمّـا حاولت بريطانيا وبعض الجهات الأمريكية أن توحي به، وكان من شأن تحقيقات الوكالة حول مصادر مواد ومُـعدّات ومرافق برنامج تخصيب اليورانيوم الليبي، والمعلومات التي قدمتها طرابلس، أن تؤدى إلى حرج شديد لنصف الدول التي تمتلك قدرات نووية في العالم، بما فيها الولايات المتحدة، وبعض حلفائها.
وعلى ما يبدو، قام خلاف كبير حول التعامل مع تلك المشكلات بين إدارة الوكالة والمسؤولين الأمريكيين، وظهر جانب منه في تصريحات كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي ومحمد البرادعي، مدير الوكالة، حول المسؤولية بخصوص الحالة الليبية، وما سُـمي “المساعدات” التي يمكن أن تقدم للوكالة في عملها.
فقد كان الاتجاه داخل الإدارة الأمريكية هو استبعاد الوكالة بفعل ما يمكن أن يؤدى إليه المسار الطبيعي لعملها من تفجير لمشكلات أكبر من طاقة الولايات المتحدة على التحرك عمليا. لكن تم التوصل إلى صيغة ما تحتفظ الوكالة فيها بدور “فني” محكوم نسبيا، بمنطق “لا ضرر ولا ضرار”، وهو على أي حال ما اعتادت الوكالة عليه، إذ أنها لم تكن صانعة مشاكل.
وهكذا، فإن مُـجمل ما قامت به الوكالة الدولية للطاقة الذرية في الفترة الماضية في اتجاه التعامل مع المشكلات النووية المثارة في أقاليم العالم المختلفة، يُـشير إلى أنها أصبحت واحدة من الفاعلين الدوليين المؤثرين، بفعل وجود توازنات دولية تسمح لها بذلك بدرجات تتفاوت من حالة لأخرى، وقد أدى هذا إلى تبلوُر سلوك يتّـسم بالصرامة الفنية، والواقعية السياسية للحفاظ على موقعها في ظل عالم يتم فيه علنا تقليم أظافر المنظمات الدولية.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.