من سيئ إلى أسوأ!
يدخل الفلسطينيون شهر سبتمبر، شهر الذكرى الثالثة للانتفاضة والذكرى العاشرة لاتفاقية أوسلو، في ظل أجواء محمومة ومناخ مسموم.
هذه الأجواء تهدد بتقويض أركان قيادتهم الوطنية وتنذر باحتمالات انقسامات غير مسبوقة، لا يبدو أن خيارات حلول الوسط المطروحة ستصمد أمامها.
صراع الرئيس ياسر عرفات ورئيس وزرائه محمود عباس على صلاحيات الأمن في مناطق السلطة الفلسطينية المحتلة والمحاصرة، يبلغ ذروته مع اقتراب موعد انعقاد المجلس التشريعي، الهيئة الشرعية الوحيدة التي تحظى باعتراف أمريكي دولي كبير.
وبالرغم من تداول العديد من اقتراحات حلول الوسط، كتعيين وزير داخلية قوي وتشكيل مجلس أمن يضم مؤسستي الرئاسة والحكومة، فإن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واللجنة المركزية لحركة فتح، مصدر حلول الوسط وقلب القرار الوطني الفلسطيني، عجزتا عن ترجمة الأقوال إلى أفعال، بل إن رئيس الوزراء الفلسطيني محمود عباس، الطرف الرئيسي في الأزمة، ظل بعيدا عن مداولات اللجنتين، مركزية حركة فتح التي كان استقال من عضويتها سابقا، والتنفيذية التي لم يحضر سوى لقاءات محدودة لها منذ توليه رئاسة الحكومة في نهاية الشتاء الماضي.
ولم يخف رئيس المجلس التشريعي أحمد قريع، العنصر الثالث بعد عرفات وعباس في ترتيب القيادة الفلسطينية، شعوره بأن الأمور تسير نحو الأسوأ عندما أعلن، وهو أحد الوسطاء لحل الأزمة، أن الرئيس عرفات ورئيس وزرائه “يكرهان بعضهما، ولم يعودا قادرين على العمل معا.”
ويشير مسؤولون أن استمرار محمود عباس في إدارة ظهره لهيئات القيادة الفلسطينية الرسمية، والتزامه مكتبه غير بعيد عن مقر عرفات المحاصر، سيؤجج الخلاف إلى درجات لن تطيقها قدرة الوسطاء.
وقد رفض عباس، وفق ذات المسؤولين، عدة وساطات، كان أبرزها وساطة رئيس المجلس التشريعي أحمد قريع، وقادة آخرين، وأصر على رأيه بضرورة قيام عرفات بالتنازل عن صلاحياته الأمنية.
وأكّـد الرئيس عرفات، المحظور عليه مغادرة مقره المدمر، خلال الاجتماعات الرسمية التي غاب عنها عباس أنه غير مستعد لتسليم ما تبقّـى له من سلطات محدودة، لكنه لن يتأخر في الاحتكام إلى الهيئة التشريعية ولقانونها الأساسي الذي أتاح استحداث منصب رئيس الوزراء.
السباق على التشريعي
في غضون ذلك، يجهد قريع ومعه آخرون من مسؤولي فتح وقادة فصائل وحركات أخرى في محاولات محمومة جديدة لرأب الصدع بين رأسي القيادة الفلسطينية، تحاشيا لما يُـمكن أن يسببه الاحتكام إلى المجلس التشريعي في مثل هذه الظروف.
وعلى وقع التحضيرات لاجتماع المجلس المنتظر، حيث تحتشد جموع وسائل الإعلام المحلية لتغطية الحدث، تتحدد ملامح مرحلة جديدة في عمر القيادة الفلسطينية التي لم تعد قادرة على إخفاء الانقسامات الداخلية.
الانشغال المحموم له ما يُـفسّـره، حيث تزداد القناعة داخل معسكر رئيس الوزراء أن الدفاع هو أفضل هجوم، أو ما يُـمكن ترجمته إلى طلب محمود عباس التحدث إلى أعضاء المجلس المنتخبين عن إنجازات المائة يوم الأولى من عمر حكومته، بل إن رئيس الوزراء رفض اقتراحا من مقربين لطلب تصويت ثقة على حكومته، وأصـرّ على الذهاب إلى المجلس الذي يستمد منه شرعيته بغرض عرض تقرير المائة يوم عن عمر حكومته.
لكن ثمة ما في التقرير ما هو أقوى من طلب تصويت الثقة، إن لم يكن يعادله. فرئيس الوزراء سيعرض بالتفصيل للبند الأول على بيانه الحكومي الذي نال ثقة البرلمان أواخر الشتاء الماضي، إلا وهو أن لا سلطة سوى سلطة واحدة، ولا سلاح سوى السلاح الشرعي.
وفي هذا السياق، يندرج أساس الخلاف القائم حاليا بين الرئيس ورئيس وزرائه، نقل الصلاحيات الأمنية من الرئاسة التي تواجه بمقاطعة دولية توقدها الإدارة الأمريكية، إلى مؤسسة رئاسة الوزراء التي تحظى بدعم دولي كبير.
ويتلخّـص هجوم عباس على رئيسه، أنه سيذهب إلى المجلس ليطلب تصويت ثقة ضمني من خلال تحدد المعيقات التي تمنع الحكومة من تنفيذ برنامجها، وهو الذي أصر في أكثر من مناسبة أنه “رجل مهمة” وليس قائدا.
أما العقبات التي تعترض تنفيذ برنامج حكومة عباس، كما سيوضح قريع على الأرجح، فإنها تتعلق بعدم حوزته الصلاحيات اللازمة على معظم الأجهزة الأمنية التي يسيطر عليها الرئيس، وأن استمراره في الحكم مرهون بهذه الصلاحيات.
وقد بادر عباس إلى الأمر من خلال القرارات الأخيرة لحكومته، لاسيما نقل ميزانية قوات الأمن الوطني، الجهاز الأكبر، من ميزانية مستقلة إلى سيطرة وزارة المالية في حكومته، الأمر الذي سيقلّـص إلى حد كبير سيطرة عرفات عليها.
وبادر كذلك إلى تنحية رئيس ديوان الموظفين (الجهاز المدني الأكبر في السلطة) مضعفا أكثر سيطرة عرفات على الجهاز المدني للسلطة الفلسطينية، خصوصا وأن الحكومة قاربت قانون التقاعد الذي سيؤدي إلى إخراج آلاف الموظفين من قدامى منظمة التحرير ومن الموالين لعرفات.
الحرب الصغيرة الكبيرة
المواجهة حتمية لا محالة بين الرئيس ورئيس وزرائه، إن لم تكن أدواتها قد دخلت مرحلة عملية متقدمة جدا، حيث تغذى عناصرها على ضغوط داخلية وخارجية معا.
أسَـرَّ الرئيس الفلسطيني المحاصر في رام الله أكثر من مرة، وبالتحديد منذ إذعانه بالموافقة على استحداث منصب رئيس وزراء للسلطة الفلسطينية، أن ما يجري هو عملية أكيدة وحثيثة للإطاحة به.
وبالرغم من أن معسكر عباس يقول علنا، إن توجهات الحكومة تصب فقط في حماية الشعب الفلسطيني من انفلات الوضع من عقاله في حالة سقوط حكومة رئيس الوزراء، فإن ما يجري لا يؤدي سوى إلى تصفية حقيقية بطيئة للزعيم الفلسطيني الذي شغل الدنيا على مدار أربعة عقود.
ويجري الحديث عن دفع الأمور إلى ذروتها قبل انعقاد المجلس التشريعي الذي خضع رئيسه وأعضاء بارزون فيه إلى تهديدات أمريكية تطلب منهم دعم حكومة عباس، وترتفع أيضا احتمالات المساومة بين الطرفين تحت يافطة “الوحدة وإنقاذ الوطن الجريح”.
لكن خبرة العامين الأخيرين من عمر الانتفاضة وتداعياتها، لاسيما انطلاق عهد رئيس الوزراء، من شأنها أن تقود فقط إلى تخلي الرئيس عن مزيد من صلاحياته أو التمرس لحرب صغيرة وكبيرة في آن واحد.
المفارقة في المواجهة الفلسطينية الفلسطينية، أن نتائجها ستكون قاصمة حاسمة، وإن لن تظهر كذلك، حيث يميل كل رأس على حد سيف واحد.
هشام عبد الله – رام الله
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.