نقاش “سينمائي” سويسري حول الشرق الأوسط
انعقدت صبيحة الجمعة في إطار فعاليات الدورة 19 لمهرجان فريبورغ السينمائي الدولي ندوة حول الأشرطة التي عُرضت ضمن بانوراما "فلسطين/إسرائيل، ذاكرة سويسرية".
آلان بوتاريلي، الذي اقترح البانوراما وأدار ندوة الجمعة التي شارك فيها مخرجون سينمائيون بارزون، حاول قدر المستطاع عدم تحول النقاش إلى جدل سياسي، لكن واقع المنطقة كان أقوى.
كيف يمكن لسينما بلاد صغيرة تعيش في سلام منذ أكثر من 150 سنة مثل سويسرا أن تتحدث عن منطقة، مثل فلسطين وإسرائيل، ليست أكبر منها جغرافيا وتتخبط في العنف والحرب منذ أكثر من خمسين عاما؟
هل يمكن تصوير التاريخ من أجل قضية أو ضدها؟ من أجل المصالحة أو من أجل المستقبل؟ هل الكاميرا تقوم بدور البندقية أو الضمير أو القلم؟ هل يغير الزمن معنى الأفلام؟ هل لوجهة نظر الفنان وجود وسط النزاعات؟ هل يمكن للسينمائي “الأجنبي” اقتراح وجهة نظره “الخارجية”؟ ما علاقة السينمائيين الملتزمين بالواقع؟…
أسئلة حاول طرحها آلان بوتاريلي على مجموعة المخرجين الذين شاركوا صبيحة الجمعة 11 مارس في ندوة حول أشرطتهم المقترحة ضمن بانوراما “فلسطين/إسرائيل، ذاكرة سويسرية” في الدورة التاسعة عشرة لمهرجان فريبورغ السينمائي الدولي (6 إلى 13 مارس 2005).
السياسة سيدة الموقف..
قبل فتح النقاش وإعطاء الكلمة لضيوفه، أعرب السيد بوتاريلي عن أمله ألا تميل المداخلات إلى الجدل السياسي حول النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مذكرا أن الأفلام المعروضة ضمن البانوراما “تفعل ذلك جيدا” على حد تعبيره.
لكن سرعان ما تبدد أمل السيد بوتاريلي، ففور إلقاءه السؤال الأول، بدأت الكلمة تدور بين المخرجين الذين لم يتمكنوا في غالب الأحيان من الحديث عن إبداعاتهم السينمائية دون ربطها بالطابع السياسي للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
ولم يخل النقاش من مداخلات حماسية وعصبية مفاجئة وغير معتادة في سويسرا الهادئة. جاءت معظم تلك المداخلات على لسان المخرج فرانسيس رويسر الذي قال عنه بوتاريلي “إنه من بين الأوائل إن لم يكن الأول” الذي أنجز شريطا وثائقيا عن المقاومة الفلسطينية في مخيمات الأردن بعنوان “بلادي، الثورة” عام 1970 قبل أحداث أيلول الأسود.
تناول رويسر الكلمة أكثر من زملائه للقول بصوت عال وأحيانا بتهور ما قد يدور في خاطر البعض بصوت خافت.
أوضح في بداية الأمر أنه والمخرجين السويسريين جون بيير غارنيي وجون لوك غودار اللذين تحولا أيضا إلى المنطقة عام 70 كانوا يعتقدون أنهم صوروا الثورة، لكنهم كانوا يصورون المقابر، لأن اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات الأردن الذين التقطتهم كاميراتهم قتلوا في مذبحة أيلول الأسود في نفس العام.
مخاطر الالتزام
حرص رويسر على شرح الأسباب التي دفعته آنذاك إلى الذهاب إلى الأردن. هو المتأثر بفكر ماوتسي تونغ والسويسري الذي لم يتردد أبدا في إبداء دعمه للفلسطينيين، قرر تصوير المقاومة الفلسطينية للتصدي لموجة العداء للعرب التي بدأت تتسع في سويسرا بعد اختطاف وتفجير طائرات سويسرية من قبل فلسطينيين عامي 1969 و1970.
شُتم في سويسرا ونُعت بـ”القاتل العامل لحساب حركة فتح”. لم يكن الوحيد الذي تعرض للسب والتهديد. الكاتبة السويسرية لورانس ديونا التي شاركت في الندوة توجهت إلى الجمهور الحاضر قائلة “يجب أن تتخيلوا ماذا كان يعني أن تكون مؤيدا للفلسطينيين عام 1967 في سويسرا”.
تلقت وزملاءها في الصحيفة التي كانت تعمل بها تهديدات بالقتل. استطردت قائلة: “لا يمكن تصور الحقد الذي كان يواجهه كل من التزم بالدفاع عن تلك القضية آنذاك”.
سمير، المخرج العراقي المقيم في سويسرا، أشار في نفس السياق إلى أن المفاجئات تظل دائما واردة عندما يُفتح هذا النوع من النقاش. وأوضح سمير أن شريطه “إنس بغداد” (2000) لقي استقبالا كبيرا في دول لم يكن يتوقع أنه سينجح فيها، بينما واجه معارضات قوية في دول كان يظن أنها سترحب به، مثل بريطانيا التي منعت الفيلم وباريس التي هوجم فيها والتي تعرض فيها الملحق الصحفي للشريط لاعتداء جسدي بالسلاح الأبيض.
أي دور؟
ولدى إثارة دور السينمائيين في تصوير الواقع، أوضحت المخرجة الإسرائيلية إيدنا بوليتي التي ولدت بصيدا بلبنان وعاشت في كل من بيروت والقدس وبرلين وباريس وجنيف، أنها كانت لدى هجرتها إلى إسرائيل قريبة من أولى الحركات الفلسطينية. صورت “أول فيلم بريء عن الفلسطينيين عام 1973”. قالت عن هذه التجربة “كان يجب إظهار وجود ذلك الشعب الذي لم نكن نتحدث عنه من قبل، إن هذا الشعب كان هنا”.
من ناحيته، قال المخرج السويسري رولف ليسي، صاحب الفيلم الشهير “شفايزرماخر” أو “صانع سويسرا” (1978): “لا يمكن أن نجد حلولا (للنزاعات) بالأفلام، تلك ليست مهمتنا، نحن نحصل على المعلومات من وسائل الإعلام والأفلام والتلفزيون، لكن الوضع في عين المكان مختلف، توجد هنالك حلول نظرية: دولتان وشعبان وحق العيش جنبا إلى جنب لكن الواقع شيء آخر”.
ليسي أعرب عن اعتقاده أن سينمائيي كل بلد يجب أن يقوموا بشيء عن مشاكل بلدانهم، مشيرا إلى أنه شاهد شريطا وثائقيا عن مقتل إسحاق رابين من إنجاز فلسطينيين وإسرائيليين، وموضحا أن “تلك مواضيع وقضايا يستطيع التطرق لها فقط أبناء المنطقة، ونحن يجب علينا أن نتأمل أيضا ما يجري في بلادنا”.
الفرصة كانت سانحة لينفجر رويسر ويثور، ليس ضد المخرج ليسي بل ضد بلاده سويسرا. قال غاضبا ومستاء “قضية الهجرة في سويسرا، التي أصبحت من الأحداث الساخنة في بلدنا، لماذا لا نصور أفلاما حول الهجرة؟” .. “من يجرأ على العمل في الاتجاه المعاكس لشعر البدن؟” .. “الغالبية تنحني أمام الأجواء السائدة..وفي بعض الأحيان تجد نفسك وحيداً وسط أعز أصدقائك.. “يجب ألا ننسى أن هنالك أرض يصعب علينا أكثر العمل فيها هي سويسرا”.
لم يتردد في الاعتراف بأنه لم يقم بواجبه كسينمائي عندما صور المقاومة الفلسطينية قائلا: “لقد صورنا شريطا مع الفلسطينيين وليس عنهم، كنا معهم نساندهم ونرتدي الزي”.
أما المخرج سمير، فأكد بوضوح “أنا رجل سياسي، ولا يمكن أن أنسى ذلك”، موضحا أن على المخرج أن يختار ما يحب تقديمه ويتحمل مسؤولية اختياره بعد ذلك.
الكاميرا.. “تحرك سياسي”
من ناحيته، أعرب المخرج السويسري بيني مولر، الذي شهد على مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان وشارك في التعرف على جثث الضحايا ضمن فرق اللجنة الدولية للصليب الأحمر، عن اعتقاده أن “السينمائي يجب أن يصور لنفسه أولا”، منوها إلى أن عمل المخرج سيؤثر حتما في الجمهور إذا كان صادقا.
المخرج الشاب لويس هوسلر الذي صور شريطا قصيرا من أجل السلام عام 1999، قال بوضوح “ندمت على تطرقي للسياسة”. هو لا يثق بفكرة دولتين لأنها “ليست فكرة لإحلال سلام حقيقي، ثم إن السلام لا يعني فقط غياب الحرب”.
أما مخرجة الشريط الكوميدي “حلوى وألم وسياسة” ستينا ويرنفيلس (1998)، فقالت إنها فقدت روح الكوميديا الآن فيما يتعلق بالنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، مؤكدة أنها لم تندم على تصوير الشريط في تلك الفترة التي كانت فيها أجواء التفاؤل مازالت سائدة بعد اتفاقيات أوسلو.
من جهته، نوه المخرجان الشابان ناتالي فلوكيغر وبورغ هاسلر إلى تحول كل تحرك إلى عمل سياسي أثناء التصوير في المنطقة. يقول يورغ “في إسرائيل، وضع كاميرا في مكان ما هو في حد ذاته تحرك سياسي، تصوير حجرة يصبح عملا سياسيا. ما هي الدلالة التي تريد إعطاءها لتلك الحجرة؟ انه فخ يقع فيه شخص يريد فقط إنجاز بوتريه شخص آخر”.
“سويسرا أيضا تعتقد أنها شعب مختار”
ولدى التساؤل مجددا عن اهتمام سويسرا الصغيرة بالشرق الأوسط، قال المخرج مولر إنه من الطبيعي أن يهتم السويسريون بمنطقة تشبههم من حيث التعدد الثقافي واللغوي. أما تفسير المخرج رويسر ففاجأ الحضور: “سأقول لكم العلاقة بين سويسرا والشرق الأوسط، سويسرا على غرار إسرائيل، تتصرف كالشعب المختار..لا نريد أن نتحدث مع الأوروبيين، بل نريد التحدث مع الإله مباشرة..دستورنا يبدأ “باسم الرب…”، نحن لسنا أفضل من الإيرانيين”.
“لا يجب أن ننسى أن 80% من السويسريين كانوا إلى وقت قريب مقتنعين بان فلسطين كانت خالية وانه بدا زرع أشجار البرتقال فيها منذ عام 1948″، “أنا لست معاديا للسامية، لكنني لا أحب ديودوني (الكوميدي الفرنسي المتهم بمعاداة السامية، التحرير) ولا أحب إسرائيل”.
هنا تتدخل المخرجة الإسرائيلية بوليتي بهدوء لم يخف استياءها قائلة: “يجب أن تنتبه للمصطلحات التي تستعملها، إسرائيل لا تعني كافة الإسرائيليين، إسرائيل تعني الدولة”.
إصلاح بخات – سويس انفو – فريبورغ
اقترح بانوراما “فلسطين/إسرائيل، ذاكرة سويسرية” موزع الاشرطة السينمائي آلان بوتاريلي الذي أدار يوم 11 مارس ندوة حول السينما السويسرية والشرق الأوسط بمشاركة كاتبة و9 مخرجين سويسريين أو مقربين من سويسرا هم: رولف ليسي، بيني مولر، سمير، لويس هوسلر، لاناز لوسيان، باتريك بورغ، لورانس ديونا (الكاتبة السويسرية)، فرانسيس رويسر، إدنا بوليتي، ناتالي فلوكيغر
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.