هجرة سرية ومصالح ومقايضات
تتّـسم العلاقات القائمة بين إيطاليا ومستعمرتها السابقة ليبيا، بكثير من الالتباس والتعقيد.
وقد عادت هذه العلاقة الملتبسة لتطفو على السطح مجددا لدى التعاطي مع معضلة المهاجرين غير الشرعيين الوافدين على السواحل الجنوبية الإيطالية انطلاقا من ليبيا.
على عكس العلاقات الواضحة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في شمال إفريقيا، تونس والجزائر والمغرب، تتّـسم العلاقات بين إيطاليا ومستعمرتها السابقة، ليبيا، بكثير من الالتباس والتعقيد والمد والجزر اللذين يصلان أحيانا إلى حد إعلان الحداد العام في المدن الليبية احتجاجا على ترحيل آلاف من الليبيين إلى إيطاليا في الثلث الأول من القرن الماضي، لتنقلب العلاقة أحيانا أخرى إلى صداقة حميمة تتخطى الخطوط الحمراء التي يضعها الاتحاد الأوروبي للتعامل مع “دولة مارقة”، مثلما كانت تُـصنّـف ليبيا قبل رفع العقوبات الدولية عليها.
عادت هذه العلاقة الملتبسة لتطفو على السطح مجددا في الأسابيع الأخيرة لدى التعاطي مع ملف المهاجرين غير الشرعيين الوافدين على السواحل الجنوبية الإيطالية انطلاقا من ليبيا، مما شكّـل مصدر قلق حقيقي لدى السلطات الإيطالية التي تعتقد أن الليبيين متقاعسون في مكافحتها.
مشروع لإقامة معسكرات
لكن جيوزيبي بيزانو، وزير الداخلية الإيطالي أثنى خلال زيارة قصيرة للعاصمة الليبية يومي 25 و26 سبتمبر الماضي على نجاعة الخطة التي وضعتها ليبيا للسيطرة على الهجرة غير المشروعة.
وربما كان كلام بيزانو في الظاهر منمقا ومعسولا، غير أنه لا يمكن أن يخفي انزعاج حكومة برلوسكوني من التزايد المطرد لأعداد الواصلين إلى سواحل جزيرتي لامبيدوزا وبانتاليريا القريبتين من السواحل التونسية.
وتجلّـى هذا الانزعاج في الزيارة المفاجئة التي قام بها برلوسكوني نفسه إلى ليبيا في 25 يوليو الماضي، وكان الهدف منها إقناع العقيد معمر القذافي، الزعيم الليبي، باتخاذ إجراءات حازمة لمراقبة السواحل الليبية من تسلل مراكب المهاجرين غير الشرعيين.
لكن، يبدو أن النتيجة كانت دون المستوى المأمول، فاضطرت الحكومة الإيطالية إلى إرسال بيزانو لدرس خطة “واسعة النطاق” لمكافحة الهجرة غير المشروعة مع نظيره الليبي ناصر المبروك.
وإزاء تزايد الفواجع والمآسي التي يتعرض لها المهاجرون غير الشرعيين، وآخرها وفاة أربعة مهاجرين إفريقيين قُـبالة السواحل التونسية لدى إبحارهم من ميناء زوارة الليبي إلى إيطاليا الأسبوع الماضي، طار بيزانو إلى ليبيا حاملا في حقيبته مشروعا لإقامة معسكرات في شمال إفريقيا لتجميع المهاجرين غير الشرعيين قبل ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية، بالنظر إلى أن ليبيا أصبحت تعتبر في نظر الإيطاليين أهم معبر للمهاجرين من إفريقيا إلى أوروبا.
“ابـتـزاز”؟
وكانت إيطاليا قد أعادت يوم الأربعاء 29 سبتمبر الماضي خمسين مهاجرا إفريقيا إلى مصر بعدما وصلوا إليها عبر ليبيا، وهي تعيد في المتوسط ما بين 200 و 300 مهاجر إلى مصر كل أسبوع بعدما تطأ أقدامهم السواحل الإيطالية.
ولذلك، غدت روما الأعلى صوتا بين البلدان الأوروبية المطالبة بإقامة معسكرات للمهاجرين، إذ أطلق الوزير بيزانو الفكرة الصيف الماضي لدى استقباله نظيره الألماني أوتو شيلي، كما أن أكثر المفوضين الأوروبيين حماسة له هو مسؤول الشؤون الأمنية الجديد أنطونيو فيتورينو الإيطالي الجنسية.
وكانت ليبيا وإيطاليا توصلتا في صيف العام الماضي إلى اتفاق ألزم الأولى باتخاذ تدابير صارمة لمراقبة سواحلها الممتدة على ألفي كيلومتر، إضافة لأربعة آلاف كيلومتر من الحدود البرية التي يصعب السيطرة عليها، إلا أن الليبيين اشتكوا من ضعف التجهيزات المتوفرة لديهم، بسبب طول فترة العقوبات التي خضعوا لها في العقد الماضي، وقلة خبرة حراس سواحلهم.
واعتبر مراقبون غربيون هذا الموقف نوعا من “الابتزاز” الذي يرمي للحصول على تجهيزات متطورة وتكنولوجيا حديثة لتعزيز قدراتهم العسكرية البحرية، وتحسين مستوى حراس السواحل.
مليوني مهاجر في الإنتظار..
ولوحظ أن إيطاليا ربطت بين رفع العقوبات الأوروبية عن ليبيا (الذي تم في 22 سبتمبر 2004)، ومصادقة وزراء خارجية دول الاتحاد رسميا على هذه الخطوة في اجتماعاتهم المقررة ليومي 11 و12 أكتوبر في لوكسمبورغ، وبين التزام ليبيا بتسيير دوريات بحرية مشتركة لمراقبة سواحلها.
وتمهيدا لتلك الاجتماعات، دعا وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني نظراءه في كل من فرنسا وإسبانيا والبرتغال إلى لقاء في روما يوم السبت 2 أكتوبر لتنسيق وسائل مكافحة الهجرة غير الشرعية.
وبالنظر إلى المخاوف التي تنتاب الأوروبيين، خصوصا الإيطاليين من تدفق أفواج المهاجرين على بلدانهم، قبلوا تسليم السلطات الليبية زوارق سريعة، ووسائل رصد بحري، وسيارات نقل رباعية الدفع، ومعدات عسكرية أخرى لتحسين قدرتها على مراقبة الحدود البحرية والبرية على السواء.
وبالمقابل، ستبدأ دوريات بحرية أوروبية تفتيش “السفن المشبوهة” في المياه الدولية القريبة من تونس وليبيا، اعتبارا من يوم الثلاثاء 5 أكتوبر 2004، مما يكرس التخلي عن فكرة الدوريات المشتركة التي كان الإيطاليون عرضوها سابقا على الجانب الليبي.
وأوضح مصدر إيطالي لسويس انفو أن هذه الخطة “مبنية على تقديرات لدى الحكومة الإيطالية تفترض وجود مليوني عنصر إفريقي في ليبيا حاليا يستعدون للسفر إلى أوروبا بصورة غير شرعية”.
حصاد إيطالي وافـر
تجدر الإشارة هنا إلى أن العلاقات الإيطالية – الليبية ليست مبنية على تفاهم في ملف الهجرة فقط، وإنما هناك دور خصوصي لروما لدى واشنطن لإقناع الأخيرة بطي صفحة الأزمات السابقة مع ليبيا وفتح آفاق جديدة للتطبيع والتعاون.
وقد نجح الإيطاليون تدريجيا في قيادة هذه الوساطة الصعبة التي بدأها رئيس الحكومة اليساري ماسيمو داليما في زيارته الأولى إلى ليبيا عام 1999 والارتقاء بالتقارب الأمريكي – الليبي إلى المستوى الذي وصل إليه الآن.
وعلى رغم عاصفة الاحتجاجات التي أثارها تنقل داليما حينها إلى العاصمة الليبية (إذ كان أول رئيس حكومة غربية يزور ليبيا منذ عام 1992)، تابع أخلافه العمل الذي بدأه، خصوصا برلوسكوني الذي كان قناة الاتصال الأساسية بين القذافي والبيت الأبيض قبل أن تُـصبح طريق الحوار المباشر سالكة. لكن مصدرا إيطاليا كشف أن برلوسكوني مازال يتدخّـل لتسهيل الحوار، كلما ظهرت صعوبات هنا أو هناك.
ويسعى الإيطاليون لاستثمار أدوارهم السياسية اقتصاديا بالحصول على امتيازات لشركاتهم العاملة في ليبيا، خصوصا في القطاع النفطي، ووصلوا إلى مرحلة متقدمة في ترتيبات مدّ أنبوب لنقل الغاز الطبيعي من ليبيا إلى إيطاليا، إضافة للأفضلية التي حصلت عليها عدة شركات إيطالية تعمل في ليبيا حاليا.
وفي المحصلة، يبدو أن الإيطاليين قد حصدوا ما لم يستطع الحصول عليه سِـواهم من البلدان الأوروبية الأخرى، على رغم علاقاتهم المركبة والملتبسة مع القيادة الليبية، لأنهم أكثر معرفة بمفردات الواقع الليبي وأشد حذاقة في التعاطي مع خصوصياته.
رشيد خشانة – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.