هـبّـة الـوجـه الآخـر لـتـونــس
يدخل إضراب الجوع المفتوح الذي يشنه ثمانية من المسؤولين في أحزاب سياسية وجمعيات مدنية (معترف بها ومحظورة) في تونس يومه العاشر.
ومع اتساع دائرة الإهتمام والتأييد لهذه التظاهرة الإحتجاجية السلمية داخل البلاد وخارجها، يرصد مراقبون احتمال تحولها إلى “منعرج” في الحياة السياسية للبلاد.
أصبح الباحثون في تونس عن “منعرج”، يضع حدا لاختلال موازين القوى بين السلطة والمجتمع المدني، يكثِـرون هذه الأيام الحديث عن “حركة 18 أكتوبر”، وهو التاريخ الذي اختاره ثمانية من المسؤولين في أحزاب المعارضة وجمعيات مدنية مستقلة، للشروع في إضراب مفتوح عن الطعــام جعلوا له شعار “الجــوع ولا الخضوع”.
هذا الإضراب خلق الحدث وفاجأ السلطة، وأسس لحركية كانت تحتاجها أوساط المجتمع المدني التي أرهقها الصراع مع النظام، حتى كادت أن تصاب باليأس والقنوط.
والسؤال المطروح حاليا في تونس: هل يمكن أن يحقق هذا الشكل الاحتجاجي أهدافه ويفتح المجال لمرحلة سياسية جديدة؟
ثلاث مطالب تحظى بالإجماع
يتنزل الإضراب في ظرف يتميز محليا بالاحتقان الشديد، فهناك شعور سائد بين مختلف الفرقاء بأن أبواب النشاط السياسي والمدني المستقل قد أصبحت مغلقة في تونس.
ويشير أصحاب هذا الاعتقاد إلى تعدّد الاشتباكات في الفترة الأخيرة مع عدد من شرائح النخبة: الحقوقيون، والصحفيون، والقضاة، والمحامون، والجامعيون، والجمعيات النسائية.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الجمعيات الأربعة، التي يشارك رؤساءها في الإضراب عن الطعام (وهي الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين ومركز تونس لاستقلال القضاء والمحاماة ونقابة الصحفيين التونسيين ولجنة مساندة المحامي محمد عبو) ترفض السلطات الإقرار بوجودها، وأن حزبين (وهما حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب العمال الشيوعي التونسي) من الأحزاب الثلاثة المشاركة في هذا التحرك غير معترف بها. وبالتالي، فإن ما يجري هو بمثابة هـبّـة الوجه الآخر من تونس الذي تصِـرّ السلطة على طمسه والتقليل من شأنه.
المضربون رفعوا مطالب ثلاثة: حرية التنظيم، وحرية الصحافة والإعلام، والإفراج الفوري على المساجين السياسيين، وهي مطالب حولها إجماع في الساحة التونسية، وتقر بوجاهتها حتى الأحزاب المتعاونة مع السلطة. ولهذا السبب بالذات، لقي المضربون تأييدا واسعا من مختلف الأطراف المؤمنة بأن هذه المطالب تشكل المدخل الفعلي للإصلاح السياسي الديمقراطي في البلاد.
مقاومة مدنية وسلمية
وفي رده على سؤال طرحته سويس أنفو يتعلق بما ينتظره المضربون من تحركهم، قال لطفي حجي، رئيس نقابة الصحفيين، “أنتظر حصول قدر من الانفتاح السياسي والإعلامي بعد هذا الانغلاق، الذي طال جميع مكونات المجتمع المدني خلال الأشهر الأخيرة”. وأضاف “كصحفي، أتمنى أن يساعد انخراطي في هذا التحرك على رفع الضغوط المسلطة على الصحفيين، حتى يتمكنوا من القيام بمهمتهم وفق المعايير التي تقتضيها مهنتهم”.
أما نجيب الشابي، الأمين العام للحزب الديمقراطي التقدمي فطموحه يبدو أكبر، إذ ينتظر من الإضراب أن “يحدث حالة نهوض ديمقراطي في البلاد”، ويعتقد بأن المطالب التي رفعت “مطالب موحدة وجامعة”، وأن المضربين يشكلون “نواة متضامنة قد نبذت الإقصاء بين أعضائها”. ويرى الأستاذ الشابي أيضا أن حركة 18 أكتوبر عبارة عن “رسالة جرأة وتحريض على إعلان المقاومة المدنية والسلمية”.
أما فيما يتعلق بالتوقيت، فإن المضربين لا ينكرون رغبتهم في الاستفادة من اقتراب موعد انعقاد القمة العالمية لمجتمع المعلومات (من 16 إلى 18 نوفمبر). يقول الشابي: “نعم، نريد أن نستغل حدث القمة كما استغلته السلطة، هي تفعل ذلك من أجل إضفاء الشرعية على الاستبداد، ونحن نريد أن نستنهض الرأي العام الدولي ليُـدرك ما الذي يجري في تـونس”. أما لطفي حجي، فهو يدعو من جهته السلطة لكي “تفي بتعهداتها التي قطعتها على نفسها عندما حرصت على استضافة القمة”.
الطلاب والنقابيون .. أيضا
بعد رفع الحصار الأمني على مكتب المحامي العياشي الهمامي، الذي تسلل إليه المضربون خفية صبيحة يوم 18 أكتوبر، تحوّل ذلك المقر الواقع على مقربة من شارع الحبيب بورقيبة إلى قبلة المئات من الزوار والمساندين الذين تزايدت وتيرتهم بشكل بدأ يثير قلق السلطات الأمنية والسياسية.
وبما أن ميزة المبادرة أن أصحابها تجاوزوا عمدا ووعيا عقدة الخلاف بين الإسلاميين وغيرهم، والتي حالت في السابق دون إرساء مبادرات مشتركة، جاء الدعم بدوره من مختلف عناصر الطيف السياسي متجاوزا الحواجز الأيديولوجية والسياسية، وهو ما جعل البعض يشيد بقدرة النخبة التونسية على التحكم في خلافاتها، في حين اعتبر آخرون أن سياسات النظام التي استهدفت الجميع هي التي وحّـدت صفوف خصوم الأمس القريب.
بدأت الأجواء تحتقن مع قرار السلطة المغلف قضائيا منع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من عقد مؤتمرها السادس، ثم اتسعت رقعة التصلب لتشمل نقابة الصحفيين، ومكتب جمعية القضاة التونسيين، وعلى إثر ذلك، تشكلت ما سمي بلجان الدفاع عن المجتمع المدني في أبرز ولايات (محافظات) البلاد. لهذا ما أن تم الإعلان عن إضراب 18 أكتوبر، حتى حدث تفاعل واسع فاق بكثير توقعات المضربين.
لقد تشكلت لجان مساندة في العديد من جهات البلاد، وقد شرع بعضها في الالتحاق بالإضراب عن الطعام، مثلما فعلت عائلات معتقلي شبان الإنترنت بمدينة جرجيس. كما تفاعل كل من حزب “التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات” و”حركة التجديد”، اللذين رفضا في البداية الانخراط في الإضراب.
وفيما قدمت حركة النهضة دعمها الكامل من خلال الزيارة التي قام بها الناطق السابق باسم الحركة، المهندس علي العريض للمضربين، قررت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان توفير مختلف أشكال الدعم للمبادرة، وتشكلت لجنة مساندة تضم مائة شخصية تونسية تضم جميع التيارات والفعاليات الديمقراطية.
وبدأ الشعور بالتحدي ينتقل إلى دائرتين إستراتيجيتين، سبق للسلطة أن تمكنت من إبعادهما لفترة طويلة عن الحراك السياسي، وهما الساحة الطلابية والحركة النقابية. أما الأولى، فقد شهدت تنظيم عدد من التجمعات التي أصبحت تعتبر أمرا نادر الحدوثا منذ انتصاب الأمن داخل الحرم الجامعي. وبالنسبة للثانية، فقد قام عدد من كوادر الاتحادات الجهوية للمنظمة النقابية الوحيدة في البلاد بزيارة المضربين للتعبير عن مساندتهم.
حدث غير عادي .. واحتمالات متعددة
بدأت السلطة تخشى أن تتحول هذه التداعيات التصاعدية إلى حالة احتجاجية تشمل مناطق كثيرة داخل البلاد وفي المدن الرئيسية. صحيح أن الأمر لم يخرج عن السيطرة إلى حد الآن، لكن الوضع مفتوح على احتمالات متعددة، خاصة في مناخ اجتماعي غير مريح للحكومة.
فالقدرة الشرائية للمواطنين قد تراجعت بشكل ملحوظ، ونسبة العاطلين عن العمل بقيت مرتفعة، وعجز الحكومة عن تلبية مطالب العمال والموظفين بات ظاهرا للعيان، وهو ما يفسّـر الصعوبات التي تواجهها المفاوضات الاجتماعية.
لهذا السبب، لم يكتف الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل بالتعرض في جلسته الأخيرة مع رئيس الدولة لمسألة الزيادة في رواتب القطاع العام، وإنما حاول أيضا أن يلفت نظره لبعض الملفات السياسية، مثل ملف رابطة حقوق الإنسان.
في هذه الأجواء، تتابع السلطة بانزعاج شديد اهتمام الحكومات الغربية المتزايد بأوضاع حقوق الإنسان، والحريات الديمقراطية في تونس. فقد سارعت السفارة الأمريكية بإرسال سكرتيرها الأول إلى المضربين، ثم التحقت السفارة البريطانية في مناسبتين، باعتبارها الرئيسة الحالية للاتحاد الأوروبي، وهو ما جعل السلطة تتراجع وترفع الحصار الأمني، وأخيرا جاء دور المفوضية الأوروبية.
كما عبرت أحزاب فرنسية، مثل الحزب الاشتراكي، عن مساندتها للمضربين، وشرعت الآلة الإعلامية الدولية تتحرك في اتجاه عزل النظام، الذي سبق له أن فشل في الدفاع عن سياسته طيلة أيام الاجتماع التحضيري الثالث لقمة مجتمع المعلومات الذي عقد في النصف الثاني من شهر سبتمبر الماضي في جنيف.
هكذا أخذت تتجمع الشروط الذاتية والداخلية والدولية والإعلامية، لتجعل من هذا الإضراب حدثا غير عادي، قد تترتب عنه نتائج سياسية غير متوقعة.
أما النظام، الذي قد يؤجل انتقامه لما بعد انعقاد القمة، فقد وصف المضربين بالمناوئين لبلدهم، مشكّـكا في جدية ما أقدموا عليه، مواصلا نشاطه بوتيرة عادية، مكتفيا بإعادة ربط الصلة بعمادة المحامين من خلال استقبال وزير العدل لعميدهم، وتمكين الرابطة من عقد مجلسها الوطني يوم 24 أكتوبر في ظروف عادية إلى جانب تأكيد رئيس الدولة في خطابه الأخير (22 اكتوبر) على أن السلطة ليست طرفا في مشكلة الرابطة، وأن ما حدث هو مجرد “خلاف داخلي”.
أما وسائل الإعلام المحلية، فتبدو غير معنية بما يجري من حراك هنا وهناك، موجهة اهتمامها بدرجة أساسية إلى نشر شهادات التزكية التي يقدمها بعض الذين يزورون تونس من مسؤولين غربيين يتعاملون بخطاب مزدوج مع السلطة ومع المجتمع المدني.
الأيام المقبلة قد تحمل معها مفاجآت، والمؤكّـد أنه سيسودها الترقب، لكن مع اقتراب موعد القمة وإصرار المضربين على موقفهم، فإن المأزق الذي تواجهه السلطة سيزداد حدة.
صلاح الدين الجورشي – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.