هل سيتمكّـن الناتو من حل “عقدة أفغانستان”؟
لم يكد "الناتو" يحسم توجّـهاته بشأن العمل خارج مسرح عملياته التقليدي، وتبدأ عناصره في الانتشار المحسوب بعدّة مناطق جنوب وشرق المتوسط حتى دفعت به الرياح نحو "جنوب أسيا" في مهمة قتالية..
هذه المهمة هي الأخطر له منذ نهاية الحرب الباردة، وقد فرضت عليه مواجهة “العالم الحقيقي” خارج مجاله التقليدي منذ تأسيسه في أوروبا.
في هذه المرة، تبدو الخيارات المتاحة أمام حلف شمال الأطلنطي محدودة للغاية، فإما أن يتمكّـن من أداء المهمة التي فشلت القوات “السوفيتية” والأمريكية في القيام بها ليتحول بعدها إلى ما يشبه شرطيا عالميا أو يتورط في تيه جبلي، شهد تاريخيا انهيار أساطير كبرى.
كانت التحوّلات التي وصلت بقوات الحلف حاليا إلى أفغانستان قد بدأت – كما هو معروف – قبل 15 سنة، عندما انهار المعسكر الشرقي، وأدّت إعادة تعريف الحلف لدوره في ظل المفاهيم الجديدة للأمن الأوروبي إلى تحوله من مؤسسة دفاعية إلى مؤسسة أمنية تُـمارس أدوارا غير قتالية، ثم التفكير في توسيع عضويته لتصل في النهاية إلى 26 دولة أوروبية مع تطوير صيغة حوار تحوّلت إلى شراكة مع 7 دول في جنوب وشرق المتوسط، لكن الأهم من ذلك هو الاتجاه لتوسيع دور الحلف إلى ما خارج المسرح الأوروبي، للتعامل مع ما أعتُـبر تهديدات القرن الحادي والعشرين.
كانت الفكرة الحاكمة لاتجاهات تحرّك الحلف نحو الجوار واضحة، وهي أن مصادر تهديد أمن أوروبا تأتي غالبا من خارجها، على غرار الهجرة غير الشرعية والإرهاب العابر للحدود وانتشار الأسلحة النووية وتأثيرات الصراعات الإقليمية وأوضاع الدول الفاشلة ومخاطر الجريمة المنظمة، لكن المشكلة التي استغرق النقاش حولها وقتا طويلا، كانت تتعلّـق بكيفية القيام بمثل تلك المهام في ظل حذر واضح من جانب مُـعظم أطرافه الأوروبية، إزاء التورط في مهام كبرى أو عمليات قتالية، واستقرت الأمور قبل “عملية أفغانستان” على أشكال من التفاعل تتراوح بين حفظ السلام والحوار الأمني.
عبور البحر المتوسط
لكن “الناتو”، رغم ذلك، قام بعملية عبور كبيرة للبحر المتوسط في اتجاهات الجنوب والشرق، ثم إلى النطاقات التالية في الخليج والسودان.
فعلى الرغم من التباطؤ الذي اتّـسمت به عملية تشكيل قوة الرد السريع (25 ألف جندي) التي تتيح له التدخل في الأزمات ورفض الحلف الانضمام إلى العملية الأمريكية – البريطانية في العراق عام 2003، وموافقته بصعوبة على تأمين تركيا – وهي دولة عضو – ضد هجمات الصواريخ العراقية، التي كانت تتخوّف منها، شهدت ساحة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ما يلي:
1 – تدخل 16 دولة من دول الحلف في العراق بقراراتها الخاصة، في إطار عمليات التحالف وموافقة دول الحلف بعد ذلك على تولي مهام تدريبية وتسليحية لقوات الجيش والأمن العراقية، مع تقديم الدعم اللازم لقطاع القوات البولندية في العراق.
2 – ظهور إسم الحلف في كل مقترحات إرسال قوات لحفظ السلام في الإقليم، سواء جنوب لبنان أو قطاع غزة أو منطقة دارفور، وبدا الأمر أحيانا وكأن الناتو يمثل أداة سحرية، بما دفع توماس فريدمان إلى طرح فكرة كـ “الأرض مقابل الناتو”، على الرغم من أن الحساسيات تُـجاه الناتو قد عرقلت تواجده في كل الحالات.
3 – وصول التعاون العسكري بين الناتو ودول المنطقة إلى مستوى متقدم، شهد تنسيقا مباشرا مع تونس، وإجراء مناورات عسكرية بحجم قوات كبيرة مع الجزائر والمغرب، وزيارات سفن لموانئ مصر والأردن، وانتشار واسع لقطع الناتو البحرية في مهام لمراقبة السفن التجارية في كل البحار.
4 – تطور الشراكة الأمنية مع “الدول السبع” ودول الخليج نحو مفهوم متطور، يرتبط بالمشاورات العسكرية وطرح أفكار حول إصلاح ما يسمّـى قطاع الأمن، ويتضمن ذلك تصوّرات بشأن العقائد العسكرية وميزانيات الدفاع وشفافية التسليح والعلاقات العسكرية – المدنية.
لكن، تظل الملاحظة الرئيسية هنا، هي أن وحدات الناتو الرئيسية لم تعبُـر منطقة المتوسط، فقد استقرت مفاهيم الناتو عند حدود ما يسمى “الأمن الناعم” أو المهام غير القتالية والأمن الإنساني، وهي مفاهيم لا تقلق أيضا دول المنطقة الحساسة بطبيعتها تجاه الأحلاف، ومن هنا تأتي أهمية، وفي الواقع ضراوة الحالة الأفغانية، التي ذهبت فيها القوات إلى هناك في ظل شبه “حالة حرب”.
عبور الشرق الأوسط
المشكلة هنا هي أن مخططي الدفاع في الناتو، ربما لم يتصوروا حتى وقت قريب أن التوجهات الخاصة بالعمل خارج أوروبا ستقودهم إلى ما وراء حدود الشرق الأوسط في أفغانستان، التي شكّـلت مع الوقت قناعة بأن ثمة ضرورة للذهاب إليها بفعل ماأ فرزته أوضاعها، وما يمكن أن تفرزه مرة أخرى من أعمال إرهابية.
وتُـدرك قيادات الناتو – الذين لا يجب الاستهانة بكفاءاتهم – يقينا أبعاد الموقف الذي يحيط بمهمة القوات في جنوب آسيا، فتلك القوات تعمل لتحقيق مهمة معقّـدة تتعلّـق بالتمرد والإعمار والمخدرات، وتواجه عنفا متصاعدا من جانب طالبان وألعاب حرب عبر الحدود وابتزاز معتاد من “أمراء المناطق”، وقد تطول مهمتها لتصل (حسب تقديرات مُـعلنة) إلى ما بين 5 إلى 10 سنوات قادمة.
الأهم، أنه بمنطق الناتو لابُـد من تنفيذ المهمة، فلا مجال فيما بعد للانسحاب أو الهزيمة، وتبعا لتعبير جاب دى هوب شيفر، أمين عام الحلف، الذي يعترف بصعوبة المهمة، “من غير المسموح للقوات بالفشل”، إلا أن الواقع يشير إلى الناتو، ربما لم يكن مستعدا تماما لبدء مهام قتالية في المرحلة الحالية، للأسباب التالية:
1 – أنه لا يزال كيانا بيروقراطيا ضخما يضم أكثر من 460 لجنة فنية، ويتّـخذ قراراته بما يشبه الإجماع، وتحتاج كل عملية مسلحة تقوم بها القوات – كما جرى في كوسوفو – إلى تصديق من القيادة العليا، بما قد يخلق مشكلة مرونة في إدارة العمليات، رغم كفاءة الجنرال البريطاني ديفيد ريتشاردز.
2 – أن أطرافه تقوم بتأمين القوات اللازمة للعمليات بصعوبة، وتوجد انتقادات متبادلة داخل الحلف حول توازن الأعباء العسكرية، وقد يؤثر ذلك على عملياته، إذا ظهرت “الأعراض العراقية”، بتحوّل قطاعات من الشعب الأفغاني نحو تأييد طالبان على نحو يتطلّـب زيادة عدد القوات عن 21 ألف جندي.
3 – أن الميزانيات العسكرية المخصّـصة لعمليات الناتو تعاني من قصور، وقد أدّت من قبل إلى افتقاده عناصر رئيسية، كالنقل الإستراتيجي والذخائر الدقيقة، وتحتاج عملية أفغانستان إلى “فيضان مالي” لإدارة القتال وشراء الولاءات وتعويض العصابات وإعادة الإعمار.
إن كل ذلك يُـمكن التعامل معه وقت الضرورة، بما يقلّـص من التأثيرات المتصوّرة على تحقيق المهمة، لكن المشاكل الحقيقية ستظهر إذا لم تتمكّـن القوات من إيجاد طريقة للتعامل مع حرب العصابات الجبلية والعمليات الانتحارية وتقلبات الولاءات، وهي المهمة التي لم ينجح فيها أحد حتى الآن، وإذا بدأت خسائر القوات في التزايد على نحو يخلق ردود فعل غير مواتية لدى الشعوب داخل أوروبا، وإذا تعرض الناتو لعمليات نوعية تؤدي مع الوقت إلى تآكل “الردع” أو السمعة التي تتمتع بها قواته و”الحكمة” أو الخبرة التي تتمتع بها بعض دوله.
وهكذا، فإن الناتو على وشك أن يتعرض لما أصبح يُـسمى أقسى اختبار في تاريخه منذ إنشائه قبل 57 سنة، لكن الأهم أنه سيكون عليه – بينما يقوم بمهمته – أن يُـجري تحولات أخرى في هياكله وتوجهاته، فربما يتحول مرة أخرى إلى منظمة دفاعية، وربما يقلص قليلا من توسعاته الخارجية، لكنه إذا تمكن من تجنب “عقدة أفغانستان” سيتحول بعدها إلى واحد من اللاعبين “المفزعين” على خريطة العالم العسكرية.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
لقد لفت الحلف الانتباه في أغسطس 2003 عندما أعلن عن أول عملياته العسكرية خارج أوروبا بتوليه قيادة قوات حفظ السلام في كابل بأفغانستان.
واقترب الناتو من المنطقة العربية بعد ذلك عبر مقترحات تتعلّـق بدور يركز على إرسال قوات غير قتالية لمهام تدريبية في العراق أو لما يُـشبه حفظ السلام في قطاع غزة، إضافة إلى التحرك أيضا نحو الحوار مع دول الخليج.
وقد ترسّـخ الانطباع الخاص باتجاه الحلف نحو الامتداد عمليا في اتجاه المنطقة العربية عبر 3 تطورات:
الأول، ما بدا أنه تأكيدات نهائية على ضرورة أن يكون للحلف، حسب تصريحات دى هوب شيفر، الأمين العام للناتو، دور سياسي أكبر، وأن يساعد في تشكيل السياسة في مناطق من أفغانستان إلى إيران وصولا إلى شمال إفريقيا، على أن يكون الحلف لاعبا، وليس مُـجرد هيئة لتنفيذ قرارات اتُّـخِـذت في أماكن أخرى، والمقصود هنا، أن الحلف قد بدأ يقدم انطباعا بأنه قد حسم أمره بشأن دوره المستقل نسبيا في المنطقة.
الثاني، اتجاه الحلف نحو تطوير الحوار القائم منذ عام 1994 مع الدول المتوسطية السبع ليصل إلى درجة الشراكة، كما تشير توصيات قمة الناتو التي عُـقدت في اسطنبول (يونيو 2004)، ثم اللقاءات الفعلية لمجموعة التعاون المتوسطي بين الناتو والدول السبع في بداية نوفمبر، وترتيبات اجتماع 8 ديسمبر في بروكسل لوزراء خارجية دول الحلف مع البلدان المتوسطية.
الثالث، إشارة مُـحدّدة ببدء تحرك عملي في اتجاه ترتيبات ثنائية وفق منطق عرض التعاون الفردي غير الملزم مع من يرغب في ذلك، والذي وصل بسرعة إلى مستوى بحث التعاون العسكري على غرار ما تم بحثه بين المغرب ومسؤولي الحلف بشأن التقييم الفني لاندماج فَـيلَـقين تابعين للجيش المغربي مع قوات الناتو العاملة في بؤرتين صراعيتين خامدتين يعمل بهما الحلف بمنطقة البلقان.
(من تقرير د. محمد عبد السلام – نشر يوم 22 نوفمبر 2004 على الموقع العربي لسويس انفو)
الدول السبع التي انضمت الى الحلف الأطلسي عام 2004 هي : دول البلطيق الثلاث (لاتفيا وليثوانيا واستونيا) إلى جانب سلوفينيا وسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا.
كما سبق للحلف الأطلسي أن ضم إلى عضويته عام 1999 كلا من بولندا والمجر وجمهورية التشيك.
“.. مع كل قمة دولية يتأكّـد أن الخطط الدولية بتغيير المنطقة العربية والتدخل فى شؤونها وتحديد أفق معين لمسارات تطورها بات قرارا لا رجعة فيه، وأن الخلافات التي تظهر على السطح بين بعض القوى الدولية المؤثرة قبل القمة أو أثناءها أو حتى بعدها، لا يعني أن القرار الجماعي سوف يتم التخلي عنه، أو أنه غير قابل للتطبيق فى مدى زمني مناسب.
ومن يتعمق في معظم الخلافات التي ظهرت قبل القمم الدولية الثلاثة التي عقدت في شهر يونيو المنصرم، كقمة الثمانية الكبار في سى أيلاند بالولايات المتحدة في 8 يونيو، أو “قمة الاتحاد الأوروبي-أمريكا” بأيرلندا يوم 26 يونيو، وأخيرا قمة حلف الناتو في إسطنبول يومي 28 و29 يونيو، يُـدرك أن الأمر برمّـته يتعلق بطريقة إخراج القرار وكيفية تقديمه للبلدان المعنية، وهي كلها عربية، بحيث يكون مقبولا ولا يثير لدى حكوماتها حساسيات كبرى، ولا يلهب الرأي العام العربي الملتهب أصلا لأسباب شتى…”
(من تقرير د. حسن أبو طالب – نشر يوم 2 يوليو 2004 على الموقع العربي لسويس انفو)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.