ورطة وكوابيس ومخاوف
لا يرفض أحد في العراق إجراء انتخابات عامة مباشرة لاختيار أعضاء المجلس الانتقالي تمهيدا لانتقال السلطة إلى العراقيين واستعادة سيادة البلاد.
لكن الجميع تقريبا بدءا بالحاكم الأمريكي، ومرورا بأعضاء مجلس الحكم، ووصولا إلى ممثلي الأكراد والسُـنّـة والتركمان يخافون من إجرائها لسبب أو لآخر.
يعكس التردد الذي يُـبديه كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة ناحية إرسال وفد تقني للعراق لتقييم إمكانية إجراء انتخابات مباشرة في هذا البلد العربي المحتل لغرض تشكيل مؤسسات عراقية تُنقـل إليها السلطة وِفق الخطة المعلنة في منتصف شهر نوفمبر 2003، يعكس حالة القلق العام مما يجري في العراق، لاسيما من زاوية هيمنة واشنطن التي تقود ائتلاف قوات الاحتلال، على مجرى العمل السياسي والعسكري معا.
وهذه الهيمنة، تجعل عمل المنظمة الدولية تحت الضغط المباشر، مما يعيق عملها أو على الأقل يُـشوّهه، خاصة وأن هناك من العراقيين من اعتَـبر بالفعل أن وجود الأمم المتحدة في العراق جزء من الاحتلال وتكريسه وإضفاء شرعية عليه، وأنه ليس جزءا من عملية إنهائه. ولعل ذلك وما رافقه من عمليات استهدفت بعثة المنظمة ورئيسها سيرجيو فيرا دي ميللو قبل ستة اشهر، يُـوضّـح هدف كوفي أنان في أن يكون محسوبا للعراق واستقلاله، وليس لاحتلاله.
ورطة أنان والمنظمة الدولية، إن جاز التعبير، والتي تتمثل في التردد في مساعدة بلد عضو على استكمال عناصر قوته الطبيعية والخروج من حالته الاستثنائية، جزء من ورطة أكبر تُـواجهها الولايات المتحدة ذات طبيعة مزدوجة، سياسية وأمنية، والتي تعود إلى المطلب الذي عبّـر عنه المرجع الشيعي آية الله العظمى علي السيستاني بأن يكون تشكيل مؤسسات انتقال السلطة بالانتخاب، وليس بالاختيار والتعيين، حسب ما هو وارد في الخطة المعلنة، والتي صاغتها واشنطن دون التشاور المسبق مع العراقيين أنفسهم.
مظاهرات “مليونية”.. مدخل للتغيير
أحد جوانب ورطة واشنطن، أنها لا تستطيع أن تُـلغي تأثير رجل دين مثل السيستاني. فالرجل مُحاط بحب وطاعة مريديه وأتباعه، وكلمة منه قادرة على تغيير مُـجمل الوضع الذي تعيش فيه قوات الاحتلال أيا كانت جنسيتها وآلتها العسكرية.
ومظاهر الاستجابة الشعبية لدعوة وكلائه الشرعيين إلى التظاهر لدعم مطلب الانتخابات، والتي تجسّـدت في عدة مظاهرات يفوق عدد بعضِـها عدة مئات من الألوف المنظمة جيدا، والتي جابت العاصمة بغداد ومدنا عديدة في الوسط والجنوب كفيلة بأن تقدم نموذجا مثاليا لحالة الطاعة التي تربط بين المرجع وأتباعه المخلصين، وأن توضّـح أيضا كيف يُـمكن أن تكون استجابة هؤلاء إذا ما انتهى الأمر إلى تحبيذ سلوك آخر غير المطالب السياسية.
وإذا كانت سُـلطات الاحتلال اعتبرت أن تسيير تلك المظاهرات دون صدامات مع قوات الاحتلال نفسها يعكس حالة الحرية التي يعيشها العراق الجديد، فإنها بذلك تتناسى عمدا أنها لا تستطيع بالفعل أن تقف أمام تأثير ودور المرجعيات الدينية الشيعية.
وهناك من تلامذة السيستانى، والمحيطين به من أشار إلى أن الرجل لم يستخدم كلمة الجهاد بعد، ولكن الظروف قد تضطره إلى قولها، وحينذاك سيعرف الأمريكيون معنى الجهاد، ومعنى الخروج حتى بدون حفظ لماء الوجه.
فكما دعا أتباعه إلى عدم الترحيب بقوات الاحتلال أو الوقوف أمامها، وكانت كلمته محل احترام وطاعة لا تشوبها شائبة، فإن دعوة واحدة منه لطرد الغُـزاة سيكون لها فعل السحر. لكن يبدو أن مبررات هذا التحول لم تكتمل بعدُ لدى الرجل، لكن من جانب آخر، يبدو الأمر وكأنه في حال انتظار لمعرفة الرد النهائي على مطلبه، وبعدها سيكون لكل حادث حديث.
مطلب بسيط كبير
يعني مطلب السيستاني الداعي إلى إجراء انتخابات مباشرة تحت رعاية دولية تضمن نزاهتها وشفافيتها، ببساطة العودة إلى الشعب لكي يكون مصدرا للسلطة، وهو الإجراء الذي يُـعد جوهر الديمقراطية، ولا تستقيم حالة ديمقراطية بدونه.
وحين يُـصر الأمريكيون على أن هدفهم الأصلي الذي حرّك قواتهم وآلتهم العسكرية، والدعائية، والدبلوماسية هو القضاء على نظام ديكتاتوري، ومساعدة الشعب المكلوم على التمتّـع بديمقراطية حقيقية، ثم يُـعارضون مبدأ الانتخابات، ويُـصرون على أن تكون عملية نقل السلطة مرهونة بإرادة الحاكم المدني الأمريكي، ومن يُـعيّـنهم أو على الأقل يُـصدق على تعيينهم في المؤسسات المقترحة. لذلك، فإن حجم التناقض والمفارقة يبدو هائلا بين المزاعم والادّعاءات، وبين الفعل على أرض الواقع.
وهنا يطرح التساؤل نفسه، لماذا الخوف من الانتخابات المباشرة، ولماذا الذهاب إلى الأمم المتحدة لعمل تقييم على الأرض لجدوى مثل هذه العملية؟
الخوف الأمريكي
يبدو الخوف الأمريكي قائما على افتراض أن الانتخابات المباشرة سوف تقود بالضرورة إلى هيمنة شيعية على المؤسسات الانتقالية التي سوف تستلم السلطة، وذلك بحُـكم أنهم الأكثر عددا حسب الظاهر من الأشياء، وأن هذه الهيمنة سوف تؤدّي إلى إعادة استنساخ نظام ديني قريب من أو شبيه تماما بنظام الجمهورية الإسلامية في إيران، الذي أسسه الإمام الراحل الخميني، الأمر الذي ترى فيه واشنطن كابوسا سياسيا وإستراتيجيا يجب منعه بأي ثمن.
ويعني هذا الكابوس أمرا واحدا، وهو أن أمريكا التي قضت على نظام علماني وديكتاتوري بالقوة العسكرية، أفسحت المجال لنظام ديني إسلامي شيعي لن يكون أبدا من المحسوبين على واشنطن أو الذين يمثلون لها إضافة استراتيجية في المنطقة. ومن ثم، تضيع كل الأهداف الحقيقية ذات الطبيعة الإمبراطورية التي حرّكت عملية غزو العراق في الهواء.
مثل هذا الافتراض الظني، مردود عليه ببساطة شديدة، حيث أن المرجع الشيعي السيستاني كان من بين أولئك الذين عارضوا مبدأ ولاية الفقيه أصلا، ورأوا فيه تجاوزا في دور عالم الدين، الذي يجب ألا يتورط مباشرة في العملية السياسية، أو في تسيير دفّـة الحكم بسلطاته ومؤسساته، ومناوراته.
وحسب كثير من تلامذته ومريديه، فإن العراق بتكوينه المتعدد عرقيا وطائفيا ودينيا لا يصلُـح لمثل النموذج الإيراني، والذي لا يصلح أصلا للعراق، وينوّهون إلى أن هدف مطلب السيستاني بسيط للغاية، وهو تحقيق نقل سلطة حسب إرادة الناس، وليس سلطة الاحتلال ومجرد الذين يتعاونون معها، وأن غياب الانتخابات سيعني التشكيك في كل خطوة لاحقة، بداية من الدستور، ونهاية بتشكيل حكومة عراقية كاملة الصلاحيات.
حـدود الديموقراطية الأمريكية
ويُـمكن القول بشيء من الثقة ان مطلب السيستاني يندرج في سياق القاعدة الفقهية الشهيرة المعروفة باسم “باب سدّ الذرائع”. فالرجل يهدف إلى إغلاق أبواب الفتنة لاحقا من خلال العودة إلى إرادة الناس أنفسهم لا اكثر ولا أقل، وهو أمر يبدو أنه مبرّر آخر لحالة الخوف الأمريكي، ذلك أن العودة إلى إرادة الناس الذين عاشوا في العراق وعانوا ويلات النظام الديكتاتوري السابق، تعني بالضرورة استبعاد هؤلاء الذين تعاونوا مع الأمريكيين من أمثال أحمد الجلبي وأعوانه، والذين قبلوا التعاون مع سلطة الاحتلال دون أن تكون لهم قواعد شعبيه تُـساندهم، وأيضا الذين يرفعون شعارات بناء دولة عراقية جديدة تتماهى مع المطالب والرؤى الأمريكية، دون اعتبار لخصائص البلد وظروفه المختلفة.
ولاشك أن استبعاد هؤلاء جميعا أو النسبة الأكبر منهم، سيجعل الحكومة الجديدة والمؤيّـدة بإرادة شعبية أكثر قدرة على التعامل مع الاحتلال، لجهة سرعة إنهائه وأكثر قدرة على منع تحول العراق إلى مستقر للقوات والقواعد الأمريكية. وهنا، يظهر شق آخر من الورطة الأمريكية، أو بالأحرى شق آخر من ورطة القبول بانتخابات مباشرة حسب دعوة السيستاني.
المفارقة الكبرى هنا أن الأمريكيين يعملون على بناء “ديمقراطية عراقية” وفق صيغة من الاختيار والتعيين، وكلاهما متناقضان مع آليات الديمقراطية والاختيار الشعبى، وكلاهما لا يسمحان بالضرورة أن تكون إرادة الناس هي الفيصل، وهي المحك.
وتلك المفارقة بدورها كاشفة لحدود الديمقراطية الأمريكيةالتي يُـروّج لها هذه الأيام، فهي تتشكّـل من شيء من الادّعاء ومن بعض المظهر الديمقراطي القائم على الخداع، والذي لا يقود، وهذا هو مربط الفرس، إلى التناطح مع الإرادة الأمريكية ومصالحها في المنطقة وفى العالم.
لقد كشفت دعوة السيستاني أوراق التوت التي زعمت وجودها إدارة الرئيس بوش، ووضعت الجميع في مأزق حقيقي، إذ لا يعقل منطقيا أو نظريا، بناء ديمقراطية بوسائل ديكتاتورية، تلغي الناس وإرادتهم، وتفرض عليهم إرادة الغير، وتقوم على الاختيار القسري بدلا من الانتخاب الطبيعي.
د. حسن أبو طالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.