آخر الشهود على معسكرات الموت النازية يواصلون الكفاح ضد النسيان
كانوا في سن الرابعة عشرة والأربع سنوات والسبعة أشهر، بعضهم ولد في معسكرات اعتقال نازية مثل أوشفيتز- بيركيناو وبرغن-بلسن وبوخينفالد، لكنهم نجوا وأسسوا عائلات لاحقا، وهم عازمون على نقل روايتهم لتجنّب أن تقع مأساتهم طي النسيان.
بعد 80 عاما على تحرير معسكر أوشفيتز-بيركيناو، وافق نحو أربعين ناجيا من معسكرات الاعتقال والإبادة في حوالى خمسين بلدا منتشرين في أربع قارات، على مقابلة فرق من وكالة فرانس برس بين تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الثاني/يناير.
في إسرائيل والولايات المتحدة وكندا وفرنسا وبولندا والمجر فضلا عن رومانيا وألمانيا والأرجنتين وتشيلي والمكسيك وصولا إلى جنوب إفريقيا، وقفوا أمام عدسة المصورين في منازلهم أو في الاستوديو، بمفردهم أو محاطين بأولادهم وأحفادهم وأولاد أحفادهم، أو أمام جدران تغطيها صور أفراد عائلاتهم.
نُقلت الفرنسية إيفلين اسكولوفيتش في سن الرابعة والنصف إلى معتقلي فوغت وفيستبورك في هولندا ومن ثم برغن-بلسن في ألمانيا حيث بقيت حتى سن السادسة. وتشدّد على أهمية التكلّم عن الموضوع، “لأنني أنتمي إلى الجيل الأخير”، على ما تقول.
ويريد هؤلاء من خلال شهادتهم تخليد الوجوه الذابلة والنظرات الثاقبة لأولئك الذين شهدوا الفظائع، ورواية مصائرهم، والذكريات والأصوات المرتجفة….
يشكّل هؤلاء حراسا للذكرى منذ العام 1945. من سانتياغو في تشيلي، تسأل مارتا نويفيرث البالغة 95 عاما والمولودة في المجر والتي نقلت في سن الخامسة عشرة إلى أكبر معسكرات الموت الواقع في بولندا التي كان يحتلها النازيون، “كيف سمح العالم بأوشفيتز؟”.
قتل في هذا المعتقل نحو 1,1 مليون شخص بينهم مليون يهودي تقريبا فضلا عن غجر ومقاومين بولنديين، بين العامين 1940 وموعد تحريره على يد الجيش الأحمر في 27 كانون الثاني/يناير 1945.
وقتل غالبيتهم في غرف غاز ما إن وصلوا إلى المعسكر.
في الإجمال، قضى ستة ملايين يهودي في المحرقة النازية.
وتسأل جورجي نيميس البالغة 97 عاما والمولودة في بودابست وقد اعتقلت في معسكرات رافنسبروك وفلوسنبرغ في ألمانيا وموتهاوزن في النمسا، “لماذا؟ حتى اليوم أجهل لماذا كانوا يكرهوننا إلى هذا الحد”.
– معنى لحياتهم –
يؤكد الكثير منهم أن رواية ما حصل أعطى معنى لحياتهم مع أنهم شهدوا على إرسال أهلهم إلى غرف الغاز أو موت شقيق أو شقيقة جراء الجوع والإنهاك أو المرض. ولم يعرف بعضهم بابادة عائلاتهم برمتها إلا بعد خروجهم من المعسكر.
تواجه جوليا والاش التي شارفت على عامها المئة صعوبات أحيانا في الكلام ويختلط عليها الحديث وتتوقف عند الكلام بعدما يغلب عليها البكاء. وتقول السيدة الباريسية التي صمدت سنتين في بيركيناو متنهدة “رواية ما حصل صعب جدا، جدا”. أنزلها جندي نازي في اللحظة الأخيرة من شاحنة متجهة إلى غرف الغاز. وتؤكد أنها ستواصل رواية قصتها “سأستمر بالقيام بذلك طالما يسمح وضعي بذلك”. إلى جانبها، تجلس حفيدتها فرانكي متسائلة “عندما سترحل، هل سيصدقنا العالم عندما نتحدث عن هذا الموضوع؟”.
من أجل ضمان ذلك، يزور نفتالي فورست، وهو إسرائيلي يبلغ الثانية والتسعين ومولود في براتيسلافا وقد اعتقل في أربعة معسكرات بينها أوشفيتز-بيركيناو، منذ سنوات بانتظام ألمانيا والنمسا وتشيكيا ودولا أخرى، للقيام بندوات “حتى لا تنسى الأجيال الجديدة أبدا ما حصل”.
تماما كما تفعل إستير سينوت، الفرنسية المولودة في بولندا والتي قاست في كانون الأول/ديسمبر الماضي في سن السابعة والتسعين، حدة الشتاء البولندي، لمرافقة تلاميذ في المدرسة الثانوية إلى بيركيناو. يبعد هذا الموقع ثلاثة كيلومترات عن معسكر أوشفيتز الرئيسي، وهو مترامي الأطراف ولا يزال يضم منصّة “الانتقاء” التي كانت تصل إليها مواكب المرحلين. كما يضمّ الأفران والأكواخ المحاطة بأسلاك شائكة.
وتفي سينوت بذلك بوعد قطعته على شقيقتها فاني التي همست لها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة ممدة على حصيرة بينما تبصق دما، “وصلت إلى نهاية المشوار، لن أصمد أكثر من ذلك. في حال تسنّت لك فرصة العودة (..) عديني برواية ما حصل لنا. حتى لا يهملنا التاريخ”.
يتردّد صدى هذا الكلام في مونتريال حيث تقول إيفا شانيلوم البالغة 97 عاما والمولودة في رومانيا والتي نقلت في سنة السادسة عشرة إلى المعسكر نفسه حيث تم القضاء على عائلتها بالكامل تقريبا، “يجب أن نروي ما حصل حتى لا يذهب موتهم سدى”.
على مدى سنوات بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن أحد مستعدا لسماع رواية الناجين عن معسكرات الاعتقال والموت. حتى السابع من كانون الأول/ديسمبر 1970 عندما جثا المستشار الألماني فيلي برانت على ركبتيه أمام نصب أقيم تكريما لذكرى ضحايا تمرّد الغيتو اليهودي في وارسو، طالبا الصفح عن شعبه.
– “لا شيء ولا حتى صرخة” –
على مرّ العقود، روى الشهود بدقة فظائع انتقاء الأِشخاص بحركة من الذقن من جانب جندي نازي ووحشية القوات الخاصة والموت الصناعي.
في زحمة الروايات، تحضر على الدوام الرحلة الطويلة في ظروف لا تحتمل في مقطورات مكتظة مخصصة للحيوانات، من دون طعام.
ويقول البريخت فاينبرغ البالغ 99 عاما في مسقط رأسه في ألمانيا “كنا نحو 80 شخصا من نساء وأطفال ومسنين مع دلو لقضاء حاجتنا من دون أي قطعة خبز (..) مثل الحيوانات”. ويضيف “عندما وصلنا (إلى أوشفيتز)، كان هناك معتقلون ببزات يحملون عصي ويصرخون +خارجا+. كان المسنون يسقطون (…)، وكان الشباب يعبرون فوقهم”.
ويتحدث نايت ليبسيغر، وهو كندي يبلغ السادسة والتسعين، برعدة عن نزع الصفة الإنسانية على الفور عند الترجّل من القطار. ويروي “في غضون دقائق قليلة، انتقلنا من وضع الإنسان الحرّ إلى الانسان المعتقل مع رقم جديد على الذراع من دون وثائق ثبوتية. كانت تنزع عنا ملابسنا وكلّ ما هو شخصي ويُحلق شعرنا، لنصبح مجرد شيء ونفقد أي قدرة على التصرّف كبشر”.
“أشياء” يتم “فرزها” على “منصة الانتقاء”: الموت الفوري في غرف الغاز للصغار والكبار والأكثر ضعفا. أما الآخرون فمصيرهم العمل القسري المضني.
ويروي تيد بولغار المولود في المجر والبالغ المئة، من كندا، “كانوا يفصلوننا، النساء والأطفال من جهة والرجال من الجهة الأخرى. وكانت هناك المنصة الطويلة وفي آخرها طاولة مع جنود من وحدات الأمن الخاصة (اس اس). عند وصولنا إلى تلك النقطة، كانوا ينظرون إلينا ويميلون برأسهم يسرة أو يمنة. لم ندرك ما معنى ذلك في لحظتها. لكننا أدركنا لاحقا”.
تتذكر مارتا نويويرث التي كانت تفرز ملابس المعتقلات في أوشفيتز، طوابير النساء العاريات “ليل نهار”، ضمن مواكب “تأتي من كل حدب وصوب”.
وتروي “كانت تُرمى ملابسهن أرضا. وهن يقفن هادئات. كن يظنن أنهن يستعدن للاستحمام (..) لا شيء ولا حتى صرخة، هدوء تام. كنّ يتجهن شامخات مباشرة إلى الأفران”.
كان هذا المصير المأسوي لشقيقة تيد بولغار ووالدته اللتين قضتا في غرف الغاز لدى وصولهما واللتين “حرق جسدهما ليلا”. أما هو فتمكن من النجاة، لأنه قال إنه فني كهربائي.
كان المعتقلون يخضعون للعمل القسري تحت رحمة جلاديهم النازيين. كان البريه واينبرغ يمدّ الكابلات تحت الأرض في معسكر أوشفيتز. ويروي قائلا “العمل كان مضنيا جدا وكان المهندس (..) وحشيا للغاية إلى حد كان أحيانا يموت ثلاثة أشخاص من الإنهاك في يوم واحد”.
وتقول الفرنسية جينيت كلوينكا البالغة 99 عاما “شراسة ووحشية… لا أجد الكلام للتعبير عن ذلك”.
يضاف إلى ذلك الجوع. يصف ماريك دانين -فاسوفيتش البالغ 98 عاما الذي اعتقل في ستوتهوف في بولندا، “في المعتقل كانت تمر أسابيع عدة، لم أكن آكل فيها شيئا. كان جوعا حقيقيا. أغمي علي بسبب الجوع”.
وكانت هناك الأمراض.. والاختبارات الطبية كتلك التي خضع لها الأميركي سام سينغكان البالغ 85 عاما عندما كان طفلا في مويغيليف بودولسكي في أوكرانيا عند الحدود مع مولدافيا.
ويؤكد الرجل “لا أزال أشعر بآلام حتى اليوم. أعطيت ادوية قوية للغاية تسبب الإدمان لكني قررت قبل 45 عاما تقريبا أن اتعايش مع هذا الألم من دون أدوية”.
– “ألم لا يزول” –
بعد مرور ثمانين عاما، لا يزال شعور الألم الشديد يلازم الناجين، لفقدانهم قريب استحال رمادا.
كان هيرش ليتمانوفيتش في سن 11 عاما عندما نُقل مع شقيقه إلى معتقل ساخنهاوزن في ألمانيا حيث أُجري اختبار للقاح ضد التهاب الكبد عليه.
نجا من المأساة، إلا أن شقيقه قضى فيها، “لأنه تمّ اختياري لهذه التجارب من دونه. لم أتمكن حتى من وداعه ومعانقته”، يقول الرجل البيروفي المولود في بولندا بتأثر كبير.
ويتابع ليتمانوفيتش البالغ 93 عاما، “أشعر بالألم بحدة أكبر من قبل. لم أعد أنام في الليل وتساورني الكوابيس”.
ويقول الكندي بينشاس غاتر البالغ 92 عاما والمولود في بولندا وقد نقل إلى معتقل مايدانيك في بولندا المحتلة، “في كل مرة أفكر بالمحرقة، أتذكر شقيقتي” التوأم. وكان فُصل عن شقيقته سابرينا عندما كان في الحادية عشرة، ما إن وصل إلى “جحيم نهاية العالم هذا”، كما يصفه.
وهو لا يزال يذكر “خصل شعرها الشقراء الرائعة. نسيت كل شيء عنها (..). أشعر بألم كبير، لأنني لا أملك أي تذكار منها ولا أذكر حتى شكلها، فقط خصل الشعر هذه”.
في بوينوس أيريس، يتشبث بيدرو بولاتشيم البالغ 88 عاما والمولود في براغ وقد رُحّل في سن السادسة إلى معتقل ثيريسينشتات في تشيكيا، بذكرى والده الذي قتل. ويقول “أتمسّك بما علّمني إياه قبل أن نُنقل إلى المعتقل: علمني أن أواجه الحياة”.
وتتحدث الإسرائيلية إيفا إربين البالغة 84 عاما عن قوة والدتها خصوصا، في المعتقل، موضحة “كانت تحدثني عما سنقوم به بعد عودتنا إلى الديار، عما سنتشري والأحذية التي سنقتنيها والملابس والأشخاص الذين سنزورهم وطبيب الأسنان”.
وتقول عن والدتها إنها “كانت بطلة”، وقد توفيت بعد “مسيرة الموت”، عندما أرغم النازيون مع اقتراب الجنود السوفيات، المعتقلين، على قطع مئات الكيلومترات في ملابس رثة وسط الثلوج والبرد الجليدي باتجاه ألمانيا والنمسا.
– خوف من النسيان –
مع مرور 40 عاما، هل كان لشهادتهم أثر؟ يروي آخر الناجين لوكالة فرانس خوفهم من حال العالم راهنا.
ويقول نايت ليبسيغر “لم أكن اتوقع أن يكون الحديث عن المحرقة بهذه الأهمية بعد مرور ثمانين عاما. لكنه كذلك. بسبب الارتفاع الكبير في معاداة السامية في كل مكان في العالم”. ويضيف أن الأجواء الحالية يذكّره بتلك السائدة في ثلاثينات القرن الماضي في مواجهة تهديد الرايخ الثالث، موضحا “ما كان أحد مستعدا لاستقبال لاجئين”.
ويثير بروز اليمين المتطرف في دول مثل إيطاليا أو ألمانيا خوفا شديدا في نفوسهم.
ويقول إريك ريتشارد فينش البالغ 97 عاما والناجي من أوشفيتز-بيركيناو، “الحاضر قاتم جدا”، بعدما شهد على فوز اليمين المتطرف في النمسا. ويرى أن الناخبين انخدعوا كما خدع أدولف هتلر الألمان.
ويساورهم القلق من الوقوع في طي النسيان. وتقول إيفا شيانبلوم “أرى ذلك لدى أحفادي حتى. أقلق على الجيل الجديد لأنهم لا يملكون الصبر للإصغاء، وهم ينكبون فقط على الهواتف”.
وتؤكد المجرية جوديت فارغا هوفمان البالغة 97 عاما والتي كانت في معتقل أوشفيتز “على مدى عقود، قالوا إننا نفرط في الكلام عن هذا الموضوع (..)، لكن كلما أتى جيل جديد تتراجع المعرفة بما حصل”.
وتخشى إيلينا جبينا البالغة 82 عاما والتي كانت في سن السبعة أشهر عندما اعتقلت في معسكر كلوغا في إستونيا، “ألا يبقى أي ذكرى” بعد رحيل آخر الناجين.
وتحذّر كاترين شالفين، وهي تستعيد تاريخ والدها غابريال بنيشو البالغ 98 عاما والمولود في الجزائر والذي أوقف في مرسيليا واعتقل في أوشفيتز، “ثمة جملة في التلمود مفادها +من ينسى ماضيه محكوم عليه باختباره من جديد+”.
– دعوة إلى المقاومة –
رغم ذلك، هناك رسالة أمل وإيمان بالحياة من أشخاص كادوا يفقدونها.
فقد اختتمت جورجي نيميس التي روت في مونتريال “جحيم” الترحيل، حديثها بالقول “ودّعت زوجي قبل عشر سنوات لكن لدي ابن زوجته وعائلتي. أنا أكثر الأشخاص حظا في العالم”.
أما الجنوب إفريقية إيلا بومنتال البالغة 83 عاما والتي نجت من غيتو وارسو ومايدانيك وأشوفيتز-بيركيناو وبرغرن-بلسن، فتتحدّث عن “فن الصمود والبقاء (…) للقول +يا لهذا العالم الرائع+”. وهي ولدت في وارسو وفقدت كلّ أفراد عائلتها، 23 شخصا، في المعسكرات.
ويدعو الناجون إلى المقاومة ويوجّهون نداء كل على طريقته من أجل الحرية والسلام والمسامحة وضد العنصرية ومعاداة السامية والفاشية التي تنهش العالم.
وتؤكد الأرجنتينية ليلي سوريانو البالغة 97 عاما والمولودة في جزيرة رودوس اليونانية عندما كانت تحت السيطرة الإيطالية، “يجب المحافظة على أمل بالاستمرار والكفاح من أجل ذلك”. وهي تمكنت عندما كانت في سن الثامنة عشرة من الفرار من فرع كوفيرين التابع لمعتقل داشاو في ألمانيا قبيل تحريره.
ويشدّد ماريك دونين-فاسوفينش على ضرورة “نقل الشعلة إلى الشباب”، هو الذي انخرط في صفوف المقاومة البولندية في سن الخامسة عشرة ونجا من “مسيرة الموت”.
ويقول “هم أملنا الوحيد. يجب ألا يستذكروا الموتى فقط الذين قتلوا أو رحلوا بل أيضا أن هذا الأمر حصل ويجب ألا يتكرر”.
فو-فيد-ياب/غ ر/رض