أحد الخيـــارات الأمريكية
على مدى الشهرين الماضيين، تناولت وسائل الإعلام الأمريكية ما يمكن وصفه عددا من السيناريوهات الخاصة بالضربة العسكرية المتوقعة ضد العراق.
آخر هذه السيناريوهات، يتحدث عن مخطط لاحتلال العراق ما بين عام إلى خمسة أعوام، يستلهم تجربة الحكم العسكري الأمريكي لليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
يهدف مخطط الاحتلال، إلى تحقيق عدة أهداف في آن واحد، كالقضاء التام على نظام حكم الرئيس صدام حسين، ومحاكمة أركان النظام كمجرمي حرب، والبحث عن أسلحة الدمار الشامل والتخلص منها، ومنع حدوث فوضى والحفاظ على وحدة العراق الإقليمية، والسيطرة الكاملة على نفطه الذي يشكل حوالي 11% من جملة الاحتياطي العالمي المؤكد.
ويمكن إضافة أهداف أخرى يتوخاها المخطط المذكور، ولم تُعلن صراحة، وهي جعل العراق منصة لإطلاق عملية تغيير كبرى في المنطقة، باعتبار أنه سيكون مركزا للنفوذ الأمريكي، وتوفير وضع استراتيجي لإسرائيل تكون فيه آمنة من أي تهديد يذكر، ويوفر لها قدرا غير محدود من الهيمنة والنفوذ على مقدرات المنطقة، ناهيك عن الضغط على الجمهورية الإسلامية في إيران.
وهذه هي المرة الأولى التي يبرز فيها تعبير احتلال أمريكي للعراق، يقود البلاد بواسطة قائد عسكري أمريكي رفيع المستوى، يقوم بدور مماثل لما قام به الجنرال ماك آرثر في اليابان بعد استسلامها عام 1945، من حيث تغيير طبيعة النظام السياسي فيها، والحفاظ على وحدتها الإقليمية، وجعلها حليفا قويا للولايات المتحدة يُعتمد عليه في سياسات شرق آسيا والباسيفيك، وتوظيفها في إطار الاستراتيجية الأمريكية إبان الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي.
ويعيد تعبير الاحتلال العسكري إلى الأذهان حالة القوى الاستعمارية التقليدية في القرنين التاسع عشر والعشرين، وبما يكرس نزعة إمبراطورية باتت غالبة على العقلية السياسية السائدة في إدارة الرئيس بوش.
النموذج الملهم والدور العراقي الجديد
ولعل نموذج الاحتلال الأمريكي لليابان، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، والذي يمثل أساس “الإلهام” للخطط الأمريكية، يكشف عن ملامح الدور الذي سيضطلع به “العراق المحتل” في سياسات المنطقة وفقا للمنظور الأمريكي.
فاليابان، وتحت قيادة الجنرال ماك آرثر، أعيد إدماجها في سياسات الأحلاف الغربية بعد أن تم نزع سلاحها وتسريح جيشها، وأُجبرت على أن يتضمن دستورها مادته التاسعة الشهيرة، التي تنص على الرفض الأبدي للحرب كحق من حقوق السيادة.
ووفقا لبرنامج إصلاح شامل، تم تغيير نظامها السياسي والاقتصادي على نحو جذري، حيث صدر قانون للإصلاح الزراعي سنة 1946 أدى إلى تفتيت سلطة العائلات الإقطاعية. كما تم تفكيك الشركات الكبرى باعتبارها كانت مسئولة عن تمويل التوسع الياباني. وتم تطبيق نظام تعليمي جديد ركّـز على المفاهيم الديمقراطية والواجبات المدنية للمواطن. وحصلت اليابان على مساعدات اقتصادية وتكنولوجية من أجل إعادة بناء اقتصادها بعد ربطه بالاقتصاد الأمريكي والغربي.
وإذا ما تم تصور تطبيق نموذج للتغيير في العراق على النحو السابق، فسوف يتحول العراق الجديد إلى قاعدة نفوذ أمريكية من طراز رفيع، بعد ربطه بمجموع من الاتفاقيات والسياسات التي تجعله تحت السيطرة الأمريكية المباشرة، وأيضا بعد إعادة تركيب نظام الحكم فيه، ولا بأس أن يتم تعويض الشعب العراقي، وكجزء من عملية استقطاب كبرى، بسياسات اقتصادية تساعده على إنجاز قدر من التطور الاقتصادي والصناعي. وسوف يظل مفهوم نزع سلاح العراق أساسيا في أي خطة أمريكية مستقبلية بشأن هذا البلد.
ولن يكون مستبعدا أن تطلب الحكومة العراقية، التي سيتم تنصيبها وفرضها في بغداد بالدعم الأمريكي، من واشنطن توقيع اتفاقية تتيح بقاء قوات أمريكية لفترة غير محدودة من الزمن بحجة حماية البلد، مما قد يتعرض له من تهديدات، خاصة بعد القضاء المفترض على الجيش العراقي “الصدامي”، الأمر الذي سيولد فراغا أمنيا داخليا كبيرا، وبما يتطلب فترة انتقالية لإعادة بناء جيش عراقي جديد وفق مفاهيم أمنية وسياسية جديدة، قوامها الأمن الذاتي ونزع احتمال التوسع والتهديد للجيران.
لن يكون للعراق تحت الاحتلال صلة بمحيطه العربي الإسلامي المباشر، وربما يُصبح وثيق الصلة أكثر بإسرائيل، وجزءا من حلف جديد يمكن ترجيح تشكيله، ويمثل رأس جسر السياسات الإمبراطورية الأمريكية الجديدة تجاه المنطقة وتجاه العالم، ويهدف إلى الضغط المباشر والمستمر على المنطقة العربية، بما يشتت قوتها ومصادرها في اتجاهات عدة، ليس من بينها التطور الاقتصادي أو التعاون الإقليمي.
إعادة تركيب المنطقة
وما دام الأمر يتعلق بعملية احتلال عسكري وبعراق تحت النفوذ والسيطرة المباشرة لواشنطن، فإن القضية من وجهة النظر الأمريكية لم تعد نزع أسلحة دمار شامل مشكوك في وجودها لدى العراق، أو مواجهة دولة مارقة بالمفهوم الأمريكي نفسه، وإنما صار الأمر يتعلق بإعادة تركيب سياسات المنطقة وجغرافيتها السياسية على نحو يخدم المصالح والاستراتيجيات الكبرى للولايات المتحدة، ليس فقط للضغط على المنطقة العربية والإسلامية، بل إلى ما هو أبعد من ذلك، متقاطعا مع مسعى تأكيد السيطرة المطلقة على النظام الدولي من جانب، والضغط المسبق على القوى الدولية الكبرى المنافسة المحتملة من جانب آخر.
إن استلهام تجربة الاحتلال الأمريكي لليابان في معالجة القضية العراقية، يعطي مؤشرا قويا على سيادة مفاهيم استعمارية عفا عليها الزمن، ولم تعد متوافقة مع حالة العولمة الراهنة بما فيها من تشابك للأسواق والمجتمعات على نحو متزايد، ولا مع المعاهدات والاتفاقيات الجماعية التي تشكل القانون الدولي الناظم والضابط لمسار التفاعلات الدولية.
فالاحتلال الأمريكي لليابان جاء بعد حرب عالمية ضروس، كان الطرفان الأمريكي والياباني فيها وجها لوجه، وانتهت بعد استخدام الولايات المتحدة الأسلحة النووية، حيث استسلمت اليابان، وإن ظل إمبراطورها قائما على رأس الدولة ورمزا لها، يعطي الأوامر والتوجيهات لشعبه بقبول التغييرات دون مقاومة والتجاوب معها. وهذه عناصر لا تتوافر في الحالة العراقية، التي هي في الأساس، خلاف بين الأمم المتحدة وبغداد حول تطبيق قرارات صادرة عن مجلس الأمن، وهو خلاف لا يبرر الانزلاق إلى حرب كبرى كما تريدها الولايات المتحدة، تحقيقا لمصالحها الذاتية في الهيمنة وتجسيد نزعة إمبراطورية لا تتوافق مع طبيعة هذا العصر، رغم ثقل الولايات المتحدة على الساحة الدولية.
خلافات كبرى
ومن أوجه الخلاف الكبرى بين الحالة اليابانية والحالة العراقية، أن الأولى باستسلامها التام وفرت مناخا وبيئة متوافقة مع الخطط الأمريكية من أجل تغيير طبيعة النظام السياسي والعسكري والاجتماعي والقيّـمي في اليابان. أما في الحالة العراقية، فمسألة الاستسلام الكامل ليست يقينية، ولا يمكن البناء عليها لنجاح الخطط الأمريكية الطموحة، اللهم إلا إذا استخدمت الولايات المتحدة أسلحة دمار شامل نووية، وقضت على الأخضر واليابس في هذا البلد. ناهيك عن أن حالة الاحتلال الأمريكي التي قد تسعى إليها إدارة بوش ذات النزعة الإمبراطورية، ستكون نتيجة هجوم أمريكي كاسح لا يستند بالضرورة إلى الشرعية الدولية.
والمرجح في حال قيام مواجهة عسكرية بين القوات الأمريكية والقوات العراقية النظامية، أن ينهار قسم من القوات العراقية، لكن المرجح أيضا أن تظل هناك بؤر للمقاومة الممتدة للوجود الأمريكي، بما سيجعل مهمة الاحتلال موجهة للسيطرة على جيوب المقاومة بصورة أكبر مما يفترض أن تقوم به لعمل التغيير الجذري المطلوب في العراق.
استنفار البعد الديني الإسلامي
ومما لا يلاحظه الأمريكيون، دور البعد الديني، الذي كان غائبا في الحالة اليابانية، لكنه موجود ومتجذّر في الحالة العراقية، التي ستنال حتما قدرا من التعاطف العربي الإسلامي المستند لدى قطاع مهم إلى أسس دينية، قوامها أن الاحتلال الأمريكي تجسيد “لحملة صليبية” على بلد عربي مسلم، يستوجب المقاومة والجهاد المضاد.
فالاحتلال الأمريكي المحتمل من شأنه أن يستنفر مشاعر الغضب العربي الإسلامي والرغبة في جهاد قوات الاحتلال. وفي ظل مناخ كهذا، ستكون دول عربية عدة هدفا لأعمال عنف داخلي، خاصة إذا بدا أن تلك الدول تجاوبت بشكل أو بآخر مع المخطط الأمريكي وسهلت تطبيقه.
ووفقا لذلك، فان المرجح بقوة أن لا تقتصر المقاومة المتوقعة على قسم من العراقيين، بل قد تشمل عناصر خارجية ذات إيديولوجية جهادية إسلامية قد تهب لمناصرة الشعب العراقي وتعزيز مقاومته للاحتلال الأمريكي، خاصة وأن التسريبات الواردة من داخل العراق عمدا للخارج، تتحدث عن تشكيل مجموعات للمقاومة في المدن والأرياف، ويتم تحفيزها بناء على اعتبارات دينية جنبا إلى جنب مع الاعتبارات الوطنية.
بيئة من الفوضى
والواقع أن ارتباط قوى عشائرية ودينية ومذهبية عريضة بالنظام العراقي طوال الفترة الماضية، سواء خوفا من بطش النظام، أو نتيجة تشابك المصالح مع نظام الحكم، سيجعل منها هدفا للاحتلال الأمريكي، وهي بدورها ستجعل من الاحتلال الأمريكي هدفا لمقاومتها، خاصة وأن نزعة الانتقام الأمريكية من كل من هو مرتبط بنظام البعث “الصدامي”، لن توفر فرصا لتعاون محتمل بين الحاكم العسكري الأمريكي أو من سيتم تنصيبهم من المعارضة كحكام جدد للعراق، وبين القوى العراقية ذات الصلة بالنظام “البعثى”، أو حتى القوى العراقية التي ستنظر إلى المعارضة القادمة للحكم في بغداد على أسنة الصواريخ الأمريكية باعتبارها فاقدة الشرعية، ومن ثم سيتوافر أساس صلب للرفض والمقاومة، وبيئة قابلة للتحول إلى فوضى كبرى.
وفي ظل وضع وبيئة رافضة للاحتلال ومحملة بنذر فوضى داخلية، فإن مسألة قدرة الحاكم العسكري الأمريكي على إعادة تطويع العراق، ستُواجَه بتحديات أكبر من تلك التي واجهها ماك آرثر في الحالة اليابانية. وهنا، ستثار قطعا مسألة شرعية النظام الجديد، وهي ذات ثلاث مستويات:
الأول، دولي، وهذا سيكون مشكوك فيه إلى حد كبير، خاصة إذا أقدمت الولايات المتحدة على تطبيق مخطط الاحتلال دون غطاء دولي يوفره مجلس الأمن.
ثانيا، مستوى عربي إسلامي، وفيه سيكون الحكم الجديد محل رفض وعدم تعامل، باعتباره حكومة عميلة جاءت على أسنة الصواريخ والقذائف الأمريكية.
وثالثا، مستوى عراقي محلي، وهذه بدورها ليست مؤكدة، خاصة وأن القوى المعارضة المرشحة لتشكيل حكومة مدنية تقود العراق المحتل، لا تزال متشتتة ولا يعرف مدى نفوذها وتأثيرها المباشر في الشارع العراقي.
د. حسن أبو طالب – القاهرة
سيناريوهات التدخل العسكري الأمريكي المحتمل في العراق عديدة ومتشابكة، لكن أكثرها إثارة للجدل، الحديث عن تولي إدارة عسكرية أمريكية مقاليد السلطة في العراق بعد إطاحة نظام الرئيس صدام حسين على غرار ما جرى في اليابان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.