أزمة شعبية بين مصر والسودان .. من يدفع الثمن؟
عرفت العلاقات المصرية السودانية لحظات توتر عديدة بين حكومتي البلدين في الخمسين عاما الماضية التي تشكل عمر السودان المستقل.
ولكنها لم تعرف أبدا ما يمكن تسميته بالتوتر الشعبي والاحتقان العاطفي مثل الذي يسرى الآن بين الشعبين..
نجم ذلك الاحتقان عن سوء تقدير وطريقة غير مقبولة وغير مسؤولة في فض اعتصام للاجئين السودانيين في أحد ميادين القاهرة الكبرى، أسفر عن مقتل 27 لاجئا سودانيا، بينهم 11 طفلا.
وستظل قصة فض الاعتصام قبل نهاية العام المنصرم بليلة واحدة علامة فارقة في المشاعر الشعبية المتبادلة لفترة طويلة، خاصة مع وجود من ينفخ في النار، سواء في داخل السودان نفسه أو في خارجه، وأيضا من يوظف الحدث لاعتبارات محلية بحتة ولمكاسب صغيرة، ومن يتعامل مع ما جرى بقدر غير مفهوم من اللامبالاة وكأن ما حدث شيء عادى لا غبار عليه ولا يستحق كل هذا الضجيج.
وفى ظل هذا الضجيج، تبادر بعض جماعات ضغط أمريكية للمطالبة بفتح تحقيق دولي حول وضع اللاجئين في مصر، وأخرى تنادى بتصحيح العلاقات المصرية السودانية، إضافة إلى منتديات عبر الإنترنت، بعضها سوداني الهوية، تفيض انتقادا وتشفيا في كلا البلدين والشعبين، وبدرجة لم يكن يتصورها أحد من قبل. فيما يراه عقلاء من الجانبين بأنه علامة حدة تنذر بأمور أكثر قلقا في المستقبل، إذا ما ترك الأمر دون معالجة مدروسة تنهى آثار ما حدث بكل شفافية وقانونية، بما في ذلك محاسبة المخطئين أيا كانوا.
موقف رسمي لا يلغى المسؤولية
وفي مواجهة كل هذه التداعيات، يصر الموقف المصري الرسمي على ثلاثة حجج؛ أولها أنه لا توجد أزمة في العلاقات مع السودان ولا مع اللاجئين السودانيين أنفسهم الذين يتراوح عددهم بين 150 ألفا و170 ألفا، منهم المسجل في قوائم المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، ومنهم من يهيم على وجهه في طول مصر وعرضها دون اعتراض حيث يعمل في الكثير من الأعمال الهامشية.
والثاني أن فض الاعتصام لحوالي ثلاثة آلاف لاجئ، في واحد من الميادين الشهيرة بوسط العاصمة، جاء بعد ثلاث مطالبات مكتوبة من المفوضية العليا للاجئين طالبت الحكومة المصرية بذلك، وبعد أن فشلت كل الجهود والمحاولات الودية لمدة ثلاثة أشهر متتالية لفض الاعتصام وإقناع المعتصمين بعدم قانونية مطالبهم في الحصول على جنسية بلد أوربي، لأن تلك الدول لم تعد تقبل المزيد من اللاجئين الأفارقة كما كان الوضع سابقا قبل 11 سبتمبر 2001.
وثالثا أن تلك المحاولات الودية شاركت فيها أطراف من المعارضة السودانية، من بينهم الصادق المهدي ومسؤولين سودانيين، وشخصيات مصرية شهيرة لها موقف خاص وايجابي جدا من السودان والسودانيين، ولكنها فشلت نتيجة إصرار المعتصمين على مواقفهم.
ومجمل الموقف الرسمي أنه لا يتحمل المسئولية، رغم الأسف على ما جرى. ومع ذلك فإن المسؤولية المعنوية لا يمكن إنكارها، فصحة الموقف القانوني لمصر في حد ذاته لا يعنى إطلاقا تفويضا باستخدام القوة وقتل هذا العدد الكبير من اللاجئين. فهناك أساليب أكثر سلمية معروفة في مثل هذه الحالات، كما أن الالتزام الأخلاقي تجاه الأشقاء السودانيين على وجه التحديد كان يفرض وما يزال سلوكا إنسانيا غير الذي كان.
ناهيك عن الالتزامات الواردة في الاتفاقيات الدولية الخاصة باللاجئين، والتي وقعت عليها مصر ومن ثم تلتزم بكل ما فيها حرفيا، خاصة وأنها المقر الإقليمي للمفوضية العليا للاجئين في إفريقيا، فضلا عن منافستها للحصول على تأييد إفريقيا لتمثيلها في مجلس الأمن كعضو دائم عن القارة، إذا ما تقرر توسيع مجلس الأمن لاحقا. وهي أمور يبدو أنها غابت تماما عن الذين فضوا الاعتصام بالقوة والعنف غير المبرر.
الجرح الكبير
وأيا كان التبرير الرسمي لاستخدام القوة غير المبررة أصلا، فلقد جُرح البعد الشعبي بين مصر والسودان جرحا كبيرا، ولا مجال لإنكار ذلك، وهو جرح أليم أدركته المنظمات الشعبية المصرية بقدر من الوعي تجاوز كثيرا حدود الوعي الحكومي المحدود في البلدين، الذي تعامل مع القضية بعيدا عن اعتباراتها الشعبية الخاصة والتزاماتها التاريخية والمستقبلية على السواء.
وجنبا إلى جنب تحركات رمزية، كمظاهرات في الميدان نفسه الذي شهد مقتل اللاجئين، وندوات وتصريحات أدانت ما جرى على يد قوات الأمن وعبرت عن تمسكها بعمق العلاقات المصرية السودانية واحترامها البالغ لمعاناة اللاجئين السودانيين وتضامنها الإنساني معهم، تحركت منظمات شعبية أخرى لجمع ما يمكن جمعه من معونات مادية وعينية لتقديمها إلى اللاجئين السودانيين بغض النظر عن دينهم، والذين انتهى بهم المقام في كنيستين من كنائس القاهرة، وزادوا عن 600 لاجئا، منهم الثلث تقريبا من الأطفال المحرومين من التعلم والعناية الصحية اللائقة. خاصة وان ما رأوه في الميدان الشهير أو سمعوا عنه جعلهم لا يتحركون خارج الكنيستين المذكورتين.
ومن بين التحركات الشعبية تم استصدار فتوى دينية تجيز التبرع بالمال وبغيره مما يقدر عليه المسلمون، لهؤلاء اللاجئين أيا كان دينهم، فهم في حكم عابري السبيل. في الوقت نفسه، تبحث بعض منظمات شعبية مصرية عن سبيل دائم لمساعدة هؤلاء اللاجئين، عبر إقامة مشروع مستمر هدفه توفير حد أدنى من الحياة الكريمة لهؤلاء اللاجئين حتى يتم البت في أمرهم، بدلا من أن يخضعوا لابتزاز بعض الجمعيات الإغاثية الأوربية التي بدأت تنشط بينهم بكل قوة، فيما تتلمس الجمعيات الخيرية الدينية الإسلامية والحقوقية طريقها بقدر من الحذر.
ويظل عائق الموارد المالية قائما، فيما يتم دراسة اللجوء إلى بنك ناصر الاجتماعي، وهو المخصص أصلا للقيام بمثل هذه المشروعات الإنسانية. ويبقى تجاوز الاعتبارات البيروقراطية خطوة مهمة وضرورية.
تحركات رسمية ملتبسة
وفيما يظل هدف تجاوز الجرح الشعبي مطلبا رئيسيا للعقلاء من الشعبين، ومن الحريصين على استمرار الروابط الأخوية دون تعكر، تظل هناك حاجة ماسة إلى تحركات أكثر مسؤولية ومدروسة بعناية من قبل حكومتي البلدين، وأيضا من قبل حكومة الجنوب التي تسيطر عليها الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهو ما لا يلوح في الأفق بعد. بل أن بعض التحركات الرسمية أتت ملتبسة إلى حد كبير.
فقرار حكومة الجنوب السودانية الصادر في السابع من يناير الجاري بجمع العاملين المصريين في الجنوب، من جوبا وملكال تحديدا، ونقلهم إلى الخرطوم إلى حين انتهاء العاصفة، يحمل ظاهره حرصا على حياة هؤلاء، أما باطنه ـ لاسيما إذا تجاوز حدوده المناسبة للموقف ـ فقد يحمل توجهات غير إيجابية وغير مبررة للعلاقة مع مصر الدولة بكل أطيافها، في وقت بدأت فيه الأخيرة خطوات ملموسة لإقامة مشروعات تنموية متعددة كالطرق وعدة مستشفيات وفرع لإحدى الجامعات المصرية ومركز تجارى وآخر للاتصالات. إذ يؤدى نقل العاملين المصريين إلى خارج الجنوب إلى التأثير حتما على تلك المشروعات قيد البناء.
ومن هنا جاءت تفسيرات مصرية لهذا الموقف باعتباره يستهدف التغطية على توترات داخلية بالأساس وعلى فشل حكومة الجنوب، والحركة الشعبية تحديدا، في القيام بدور مسؤول إزاء هؤلاء المعتصمين، وعدم اتخاذ خطوات جادة من أجل إعادتهم طواعية إلى أماكنهم الأصلية، أو شرح حقيقة حقوق اللاجئين في بلد الاستضافة، وحدود دورها في إقناع دول أخرى، لاسيما الدول الأوربية وأمريكا واستراليا، باستضافتهم أو منحهم الجنسية كما كانوا يرغبون.
ولذلك فإن مطالبات قوى جنوبية سودانية بتحقيق دولي أو المشاركة في التحقيق الذي تقوم به الحكومة المصرية، وإيفاد لجنة للاطلاع على أوضاع اللاجئين السودانيين في مصر، لاسيما المعتقلين منهم، تبدو وكأنها من قبل ذر الرماد في العيون، أو على أكثر تقدير، خطوة في الوقت الضائع.
تحركات باهتة
وما يقال على حكومة الجنوب وتقاعسها تجاه مواطنيها ينطبق بدوره على حكومة الخرطوم، التي جاءت تحركاتها باهتة وفاقدة للجدية، سواء أثناء الاعتصام الطويل، أو بعد فضه بالقوة غير المبررة.
ويبدو موقف حكومة الخرطوم أكثر ميلا إلى تمرير ما جرى، لأن فتح ملف اللاجئين السودانيين، سواء في مصر أو في غيرها من الدول، فيه الكثير مما يقال عن مسؤوليتها المباشرة في تفاقمه عبر السنوات العشر الماضية، نتيجة غياب التنمية المتوازنة واستمرار الحرب الأهلية في الجنوب لفترة عقدين متتالين، وأخيرا ما يجرى في إقليم دار فور من مآس إنسانية تدفع بأهل الإقليم إلى البحث عن ملاذ آمن في أي مكان.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.